مجلة الرسالة/العدد 216/حوادث العراق

مجلة الرسالة/العدد 216/حوادث العراق

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 08 - 1937


ذيول الانقلاب العسكري

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان العراق ما خفنا أن يكون، وجاءت الأنباء بأن بكر صدقي باشا رئيس أركان الحرب في الجيش بوغت في مطار البصرة وهو يتهيأ للسفر إلى تركيا برصاصات أطلقها عليه جندي، وهم قائد القوة الجوية بأن يدفع عن صديقه فلحق به، ولقي حتفه مثله فحملت الجثتان في طيارة إلى بغداد حيث دفنتا، وأبى الجندي الذي اغتالهما أن يفضي بشيء عن بواعثه على هذه الجريمة؛ وأرجح الآراء أن الاغتيال سياسي، وأنه إحدى نتائج الانقلاب العسكري الذي قام به المرحوم بكر صدقي باشا في العام الماضي، والذي عصف بالوزارة الهاشمية وشرد رجالها، والذي كان من ضحاياه المرحوم جعفر باشا العسكري وزير الدفاع يومئذ. وفي الأنباء الواردة عن الحادث الجديد أن الجندي الذي أردى بكر صدقي كان يصيح وهو يفرغ رصاصته في صدره: (يا لثارات جعفر) وسواء أصح هذا أم لم يصح، وكان الرجل قد أطلق هذه الصيحة أو لم يطلقها، فإن المحقق أن الأمر أمر انتقام، وأنه بعض رد الفعل لذلك الانقلاب العسكري المفاجئ الذي أحدثه بكر صدقي، فقد كان للوزارة الهاشمية أنصارها ولرجالها شيعتهم، وللعهد الجديد خصومه؛ وبعيد أن يكون الجيش كله - بأجمعه - قد رضي عما وقع، وارتاح إلى التدخل لقلب وزارة وإقامة أخرى، وسره أن يغتال جعفر العسكري ويدفن حيث لا يدري أحد، وأن يكون قتلته معروفين ولا يسألون عما اجترحوا؛ وغير معقول أن يكون الشعب العراقي قاطبة حامداً شاكراً، قانعاً، راضياً مطمئناً، فإن هذا مطلب عسير، وغاية لا تنال؛ ومتى بدأت تجيز لنفسك أن تقتل، وأن تستخدم القوة بعد إحكام التدبير في الخفاء، في تحقيق مآربك - كائنة ما كانت - فقد أجزت هذا لسواك، وأغريتهم بأن يحتذوا مثالك ويقتاسوا بك؛ ومتى أمكن أن يأتمر جانب من الجيش بوزارة، فإن من الممكن أن يأتمر جانب آخر منه بوزارة غيرها، لأن الأصل - والواجب - أن يبقى الجيش بمعزل عن السياسة والأحزاب والوزارات، وألا يعرف إلا وطناً يدافع عنه ويذود عن حقيقته حين يدعى إلى ذلك، فإذا زججت به مرة واحدة في السياسة، فقد أغرقته في لجها المضطرب إلى ما شاء الله؛ وعزيز بعد ذلك أن تصرفه عنه وأن ترده إلى الواجب الذي لا ينبغي أن يعرف سواه. وهذا هو الذي خفناه وأشفقنا على العراق منه يوم حدث الانقلاب العسكري في العام الماضي. وإنا لنعرف للوزراء الحاليين كزملائهم السابقين وطنية وغيرة وإخلاصاً، ولم يكن جزعنا لأن وزارة معينة ذهبت وأخرى جاءت. فما نفرق - ولا ينبغي لنا أن نفرق - بين أحد منهم، وإنما خفنا على العراق عاقبة اتخاذ الجيش أداة لإسقاط حكومة وإقامة أخرى، فإن الحكم ليس من شأن الجيش بل من شأن الساسة والنواب والأمة، وكل دولة تحرص على إقصاء الجيش عن كل ما له صلة بالسياسة ودسائسها ومكايدها ومناوراتها وخصوماتها، اتقاء لما يفضي إليه اشتغاله بذلك من الشقاق وتفرق الكلمة وتوزع الولاء والمؤامرات والفتن والهزاهز. وقد صح ما توقعناه مع الأسف وخسرت العراق اثنين من رجال الحرب مشهورين بالاقتدار والحزم. وقد وكان المرحوم ياسين باشا الهاشمي يكبر المرحوم بكر صدقي باشا ويوقره ويعرف له قدره، ولكن بكر صدقي أخطأ مع الأسف فجر الجيش إلى ميدان كله شر وفساد، وكان هو الضحية الأولى لخطئه

ولا نعرف ماذا انتوت حكومة العراق أن تصنع، ولكنا نرجو ألا تجمح مع أول المخاطر؛ ولا شك أن التحقيق واجب، وأن عقاب الجاني فرض؛ غير أن الأمر يحتاج إلى الاعتدال والحكمة وبعد النظر، أكثر مما يحتاج إلى البطش والتنكيل. ولا خير في مثل ما جاء في بعض الأنباء من أن الوزارة العراقية تريد أن تشتت شمل أنصار العهد السابق جميعاً، فإن أنصار الحكم السابق لا ينقصهم التشتيت، وكل ما يؤدي إليه ذلك هو تعميق الهوة وإيغار الصدور، وإغراء النفوس بالانتقام وأخذ الثأر، والعراق اليوم أحوج ما يكون إلى الصفاء والسكينة ليتيسر له أن يستأنف النهضة التي صدها الانقلاب العسكري، أو جعلها على الأقل أبطأ وأقصر خطوات مما كان يرجى أن تكون، وليتسنى له أن يؤدي واجبه للقضية العربية التي عنيت بها وزارة السيد حكمت سليمان عناية مشكورة، ولا سبيل إلى شيء من ذاك إلا بعد أن يستقر الأمر على حدود مرضية، في الظاهر والباطن أيضاً لتخلو النفوس من دواعي النقمة وتتصافق الأيدي على العمل المشترك لخدمة الأمة، ولا يكون هذا إلا بالتفاهم والتراضي والتعاون، لا بالبطش والتنكيل. وقد جربت الوزارة السليمانية القوة والتشتيت، ولسنا نراهما أجديا عليه فتيلاً. نعم كانت البلاد ساكنة، ولكنه سكون ظهر الآن أنه يستر شراً عظيماً، ومتى آثرت الضغط والحجر، فقد ألجأت الناس بكرههم إلى العمل في الخفاء والتدبير في السر، والنفاق في الجهر، ولسنا نعرف أن اجتناب الاعتدال أثمر غير هذا. ومن سوء الحظ أن بلادنا فقيرة في الرجال، فكل من تفقد، خسارة لا تعوض. وفق الله العراق ورجاله، وسدد خطاهم وألهمهم الحكمة والرشاد

إبراهيم عبد القادر المازني