مجلة الرسالة/العدد 217/المحاكمات التاريخية الكبرى
مجلة الرسالة/العدد 217/المحاكمات التاريخية الكبرى
2 - الحركة النهلستية
ومصرع القيصر اسكندر الثاني
صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان
للأستاذ محمد عبد الله عنان
اعتزم القيصر شهود حفلة الاستعراض العسكرية في ميدان ميخابلوفسكي كما قدمنا، وقام البوليس باتخاذ الإجراءات المعتادة للمحافظة على سلامة القيصر فزار الشوارع التي يمر بها الركب الملكي؛ وكان ثمة في شارع (مالايا سادوفيا) حانوت لبان افتتح هنالك منذ ثلاثة أشهر يديره شخص يدعى كوبوزيف وزوجه؛ وكان البوليس يشتبه في أمر هذا الحانوت وأمر صاحبه، فزاره في عصر يوم السبت بحجة التفتيش الصحي فلم يجد فيه ما يريب؛ ولم يكن كوبوزيف في الواقع سوى عضو من أعضاء اللجنة التنفيذية وضعته اللجنة هنالك ليكون عوناً لها على التنفيذ.
واعتزمت اللجنة الثورية من جانبها أن تنتهز هذه الفرصة لتنفيذ قرارها باغتيال القيصر فغادرت بيروفسكايا مسكنها وذهب أساييف إلى حانوت كوبوزيف ليضع لغما قوياً تحت شارع (ماليا سادوفيا) وأنفق كبالتشتش وهو عضو اللجنة المتخصص في صنع القنابل طول الليل في منزل فيرا فنجر مع جراتشفكي وبيروفسكايا، ولم يأت الصباح حتى تم صنع قنابل أربعاً حملها كبالتشتش وبيروفسكايا. وفي صباح يوم الأحد أول مارس وزعت صوفيا القنابل الأربع على أربعة منالشبان الفدائيين هم جرنفتسكي وامليانوف وميخالوف وريساكوف وعمره تسعة عشر عاماً فقط؛ وتفرق الأربعة في نقط أربع عينت في خريطة التنفيذ حول منعطف نفسكي والطرق المفضية إليه. . وفي الساعة الثانية بعد الظهر كان كل في مكانه المعين ينتظر إشارة صوفيا ووقفت صوفيا مدى حين ترقب ميدان الاستعراض عن بعد. ولكنها ما لبثت أن علمت أن الركب الملكي لن يمر بالشارع الذي وضع فيه اللغم، فسارت عندئذ صوب منعطف نفسكي في اتجاه جرنفتسكي وأخرجت منديلها، ففطن الفتيان إلى إشارتها وساروا تباعاً صوب قناة سانت كاترين لمق الملكي، واستولى الفزع على أحدهم وهو ميخايلوف فانسل واختفى في آخر لحظة، وبقي الثلاثة الآخرون يرقبون الإنذار الأخير
وذهب القيصر إلى ميدان الاستعراض نحو الظهر. ولما انتهى الاستعراض ذهب إلى قصر ميخايلوفسكي القريب حيث تناول طعام الغداء مع الجراندوقة كاترين ميخايلوفنا؛ وفي الساعة الثانية وبضع دقائق انتظم الركب الملكي للعودة، وأمر القيصر سائق مركبته أن يعود إلى قصر الشتاء من نفس الطريق. وكان يحرس العربة الملكية ستة من الفرسان القوازق وتتبعها عربة أخرى يقف فيها مدير البوليس، ثم ثالثة بها ضابط الحاشية. وسار الركب مسرعاً في شارع انجنرنايا، مجتنباً بذلك شارع مالياسادوفيا (الذي وضع به اللغم) ثم اتجه يميناً إلى جسر قناة القديسة كاترين؛ وكان المكان قفراً ليس فيه غير رجال الشرطة والمخبرين الذين ينتشرون على طول الطريق وسوى قليل من المارة.
بيد أن الركب ما كاد يقترب من جسر القناة حتى دوي انفجار هائل وانعقدت فوق الموكب سحابة من الدخان الكثيف، وكانت هذه قنبلة ريساكوف انفجرت وراء العربة فأتلفت مؤخرتها؛ وفي الحال أوقف السائق العربة ونزل القيصر منها سالماً وكان قد سقط على مقربة منها قوزاقي وثلاثة من الشرطة وغلام من المارة مصابين بجراح بالغة. وقاد رجال الشرطة صوب القيصر فتى عريض المحيا غائر العينين هو ريساكوف، فسأل القيصر: أهو الفاعل؟ وفي تلك اللحظة سأل أحد كبار الضباط: (هل جرح صاحب الجلالة؟) فأجاب القيصر: (شكراً لله فإني سليم معافى) وهنا قال ريساكوف: (لا تعجل بشكر الله) وسار القيصر ومن حوله الحاشية إلى مكان الانفجار ليرى الجرحى ولكنه ما كاد يسير بضع خطوات حتى دوى انفجار آخر وانكشف الغبار والدخان عن منظر مروع:
سقط القيصر صريعاً وقد كسر ساقاه، وبقر بطنه، واحترق وجهه، ومن حوله عدة من الجرحى. وفي الحال حمل القيصر مضرجاً بدمائه إلى قصر الشتاء، ولكنه زهق بعد ذلك بقليل دون أن يعود إلى رشاده أو يفوه ببنت شفة.
وعثر رجال البوليس بين الجرحى على الفتى الذي ألقى القنبلة الثانية، وكان في دور النزع وتوفي بعد ساعات قلائل دون أن يبوح باسمه للمحقق. ولكن البوليس وقف على اسمه بعد ذلك وقد كان أجناتوس جرنفتسكي الثوري البولوني واحد الفدائيين الأربعة. أما الرابع وهو أمليانوف فقد اختلط بالناس واستطاع الفرار
واعترف ريساكوف بإلقاء القنبلة الأولى، وشرح للمحقق سيرته فذكر أنه طالب بمدرسة المناجم وعضو في حزب (إرادة الشعب)، وأنه يشتغل ببث الدعوة الثورية بين العمال وقدم بعض تفاصيل عن المؤامرة وتدبيرها ولكنه لم يُعرِّف عن أحد من زملائه. وفي ساعة متأخرة من الليل واجهه المحقق بجليابوف، فحياة جليابوف بحرارة؛ ولما علم بمقتل القيصر أبدى ابتهاجه، وقال إنه وإن لم يشترك بنفسه في تنفيذ الحادث بسبب اعتقاله فانه يشترك فيه بكل قلبه، وإنه اشترك في عدة محاولات سابقة لاغتيال القيصر، ولم يمنعه من الاشتراك في قتله سوى مصادفة سخيفة، ولذلك فهو يطلب أن يحاكم مع ريساكوف وسوف يدلي للمحقق بكل ما يثبت مسئوليته.
ولم يمض يوم آخر حتى استطاع البوليس أن يظفر بآثار المرهبين. وفي مساء نفس اليوم هاجم مركزهم في شارع تالينايا فانتحر صاحب الدار وهو ثوري يدعى سابلين قبل دخول البوليس وقبض البوليس على صاحبته المدعوة جسيا هلفمان وضبط لديها بعض القنابل. وقبض في صباح اليوم التالي على ميخايلوف، ولاحظ البوليس في الوقت نفسه أن حانوت اللبان في شارع مالاياسادفيا قد أغلق واختفى صاحباه ففتش الحانوت مرة أخرى فاكتشف فيه سرداباً خفياً يصل حتى منتصف الشارع وقد وضع فيه لغم ثبت بسلك رفيع إلى آلة كهربائية؛ وفي يوم 10 مارس استطاع البوليس أن يقبض على صوفيا بيروفسكايا وكانت لا تزال مختفية في العاصمة ترقب الحوادث، فاعترفت في الحال باشتراكها في مقتل القيصر واشتراكها في حادث القطار الملكي.
وهكذا استطاعت الشرطة أن تضع يدها على جميع الجناة ولم يفلت من يدها سوى امليانوف الذي اختفى عقب الحادث ولم يعترف أحد عليه.
- 3 -
وفي نفس اليوم الذي قبض فيه على صوفيا بيروفسكايا أعني في يوم 10 مارس 1881 وجهت اللجنة التنفيذية لحزب إرادة الشعب إلى القيصر الجديد - اسكندر الثالث - كتاباً ضافياً تستهله بالاعتذار عن مخاطبته في تلك الآونة الدقيقة (إذ يوجد ما هو أسمى من أية عاطفة بشرية وهو الواجب نحو الوطن ثم تقول فيه: (إن المأساة الدموية التي وقعت على جسر ترعة سانت كاترين لم تكن حادثاً غامضاً غير متوقع، بل كانت بعد كل ما حدث في الأعوام العشرة الأخيرة قضاء محتوماً، وهذا ما يجب أن يفهمه الرجل الذي ألقي إليه القدر مقاليد الحكم. ولقد نمت الحركة الثورية واشتد ساعدها بالرغم مما اتخذ من إجراءات القمع الذريع، وبالرغم من أن حكومة القيصر الراحل قد ضحت حريات كل الطبقات ومصالحها ولم تدخر وسعاً في إزهاق المجرم والبريء وفي تعمير السجون النائية بالمعتقلين. ولقد شنق عشرات ممن يسمونهم بالمحرضين فماتوا في هدوء الشهداء. ولم تقف الحركة الثورية بل استمرت قوتها في ازدياد. أجل يا مولاي إن الحركة الثورية لا تتوقف على إرادة الفرد، بل هي عملية تقوم بها الأداة القومية ولن تنجح المشانق التي تقام لصفوة قادة هذه الحركة في إنقاذ النظام السياسي المحكوم عليه، كما أن صلب المسيح لم ينجح في إنقاذ العالم القديم الفاسد من ظفر النصرانية المصلحة
(ونحن أول من يعرف كم يحزن ويؤسي أن تبدد هذه المواهب والعزائم كلها في أعمال التخريب، فهذه القوى يمكن في ظروف أخرى أن تستخدم في عمل الإنتاج: في تربية الشعب وفي تثقيفه، وفي زيادة رفاهته وتحسين نظمه؛ فلماذا إذن نلجأ إلى خوض هذا النضال الدموي؟
(لأنه لا توجد لدينا يا مولاي حكومة بمعنى الكلمة، وواجب الحكومة هو أن تعبر عن أماني الشعب وأن تمثل إرادته، ولكن الحكومة عندنا قد انحطت إلى عصابة قصر، وغدت أحق من اللجنة التنفيذية بأن توصف بعصابة من الغاصبين)
وتستعرض اللجنة بعد ذلك مثالب الحكم القيصري وإمعانه في استعباد الشعب وتسخيره، وما جلبته هذه السياسة على روسيا من الخراب والبؤس وما ترتب عليها من فقدان الحكومة لكل نفوذ معنوي. وهذا هو السبب في اضطرام الحركة الثورية، بل هذا هو السبب في ابتهاج الشعب لإزهاق القيصر ثم تقول:
(ولا مخرج لهذه الحالة سوى أمرين: فأما الثورة المحتومة التي لا يمكن أن يمنعها أي قمع، وإما التوجه إلى سلطة الأمة العليا. وإن اللجنة التنفيذية لتنصح إلي جلالتك باتباع الطريق الثاني، ففي ذلك خير أمتنا وبه تجتنب المصائب المروعة التي تحملها الثورات. وثق بأنه متى عدلت السلطة العليا عن اتباع الهوى وقررت أن تستلهم في عملها برغبات الأمة ففي وسعك أن تطرد الجواسيس الذين يلوثون الحكومة، وأن ترد حرسك إلى ثكناته، وأن تهد المشانق؛ وسوف توقف اللجنة التنفيذية نضالها وتنفض القوى التي حولها لكي تعني بالعمل الثقافي لخير الشعب. . . ونحن نؤمل ألا تطغى لديك عاطفة السخط الشخصي على الشعور بالواجب، والرغبة في تعرف الحقيقة، فنحن يحق لنا أن نشعر بالسخط أيضاً؛ وإذا كنت قد فقدت أباك فقد فقدنا نحن أخوة ونساء وبنين وأصدقاء أعزاء؛ ولكننا على أهبة لأن نخمد مشاعرنا الشخصية إذا اقتضى ذلك خير روسيا، وننتظر منك أن تفعل مثلنا)
(إن الشروط التي يجب تحقيقها لكي تترك الحركة الثورية المجال للعمل السلمي قد عينها التاريخ لا نحن. وإنا لنذكرك بها فقط فهي:
أولاً - العفو العام عن الجرائم السياسية فهذه لم تكن جرائم، بل هي أعمال يمليها الواجب الوطني
ثانياً - استدعاء ممثلي الأمة الروسية لتعديل مناهج الحياة الاجتماعية والسياسية الحاضرة وصوغها وفقا لرغبات الشعب
ثم تشير اللجنة إلى الشروط التي يجب توافرها في الانتخاب الحر ووجوب إطلاق حرية الصحافة والرأي والاجتماع وتختتم خطابها إلى القيصر بما يأتي:
(هذه هي الوسيلة الوحيدة لتوجيه روسيا إلى طريق التطور السلمي والنظامي، وإنا لنعلن خاشعين أمام الوطن وأمام العالم أجمع أن حزبنا سيخضع من جانبه لقرار الجمعية الوطنية التي تنتخب طبقاً للشروط المذكورة، ولن يقوم بأي عمل عنيف لمعارضة الحكومة التي تستند إلى ثقة الجمعية الوطنية)
(والآن فقرر لنفسك يا مولاي. أمامك طريقان ولك الخيار. وإنا لا يسعنا إلا أن نرجو القدر أن يملي عليك عقلك وضميرك الحل الوحيد الذي يقتضيه خير روسيا وتقتضيه كرامتك الشخصية وواجباتك أمام الوطن - 10 مارس 1811)
(للبحث بقية - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان