مجلة الرسالة/العدد 217/من الأدب الرمزي

مجلة الرسالة/العدد 217/من الأدب الرمزي

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 08 - 1937



في الطبيعة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

احتفلت الطبيعة لعيني العاشقة، فحشَدَتْ أطفالها جميعاً، ووقفت تعاجبني بهم، وأبرزت نهودها من جبالها، وأرسلت شعرها من حُورها، ورقرقت خدها بماء النبع، وموَّهته بدم الشفق، وكللت جبينها بالزهر المضفور، ومَشقت قدَّها في رقص السرو، وخرجت عليَّ بمليء الضحى السابغٍ ضياءً وملء الليل الساجي نجوما، ومشت تتهادى على الحصى الملوّن، وتخطو على الجُدَد البيض والحمر، وأخذت تغازلني بالنسيم الذي استروحتُ فيه بردَ قلبها لحر قلبي. . . فسجدت أمامها بجسدي كله على الشوك والحصى في حِضن صخرة مشرفة على هوة. . . .! وقلت لها: هل أنا إلا منك يا ذات الشباب المتجدد أبداً؟ يا أيتها الأم الوَلود الأكول الضاحكة المعولة. . . يا ذات البطن البَرَاح الذي مما فيه البحرُ والدَّيمومُ بعجائبهما وولائدهما. . . يا ذات الأثداء التي تَدِرُّ وتمتص.!

سأرتد إليك وأجرد نفسي من شعور الانفصال عنك، وأقف في صفوف أطفالك صورةً من صور الجمال أو القبح كما تشائين. . وسأطلق أنفاسي مَوْجةً في هَبَوات الريح، وأصواتي نغمةً في النشيد الكبير الذي يملأ أسماع السموات والأرض. . . وخَطَفاتِ ذهني مع ومَضاتِ البروق. وسأضع جسدي لَبنةً في البناء العام كالجبل والحصى الموضوع تحت السقف المرفوع. . .

إني أخ كبير لأبنائك الذين تلدينهم مع ساعات الصباح والمساء، أتلقفهم بعيني هاتين اللتين فيهما الإعجاب والرحمة للجمال والقبح! عينيَّ اللتين وراءهما قلب خلقه الله أوسع منك وأعجب وأكثر ولادة. . . إنه بلد كل أبنائك ولادةً ثانية بمخاضها ورضاعها وفِصالها! ثم لا يرسلهم وينساهم فانين ضائعين كما تفعلين. . بل يبقيهم كلماتٍ تامةً دائمة مسجلة في اللوح المحفوظ. . .

فاسأليهم. . اسألي الورد والشوك، والحمل والذئب، والورقاء والرقطاء، والغراب والعصفور، والنحلة والجُعَل، وسائرَ ما تلدين من الأعلى والأدنى: ألست أوالي عليهم نظراتي وفكرتي؟ واسألي الشمس والنجوم: ألا أسافر معها سفراً غير زَمنيٍّ فلا أيام فيه و ليالي.!

واسألي النهار: ألا أغتسل بأول قطرة من ضياء فجره إلى آخر قطرة من شفق غروبه، وأسير معه في موكب الحياة العام أدبُّ بقدميَّ على قارعة الطريق الممدود من أول الدنيا إلى آخرها. .؟

واسألي الليل: ألا أجلس فيه متيقظاً أسترقُ السمعَ وألتقط الكلمات الخفية التي ينثرها في غفلة على الأجساد الهاجعة في موتتها الصغرى؟

واسألي البحر: ألا أُسْلم إلى عرائس موجه جسدي يعبثن به، وأملأ بصري بأفقه ولجه وزبده، وسمعي بضجيجه وصخبه، ويدي بقواقعه وأصدافه؛ وأتوسع كثيراً كثيراً حتى أغطيه بروحي وأشربه بكأسي التي وراء حسي؟

واسألي الصحراء: ألا أقف في محرابها الأصفر، وأمسح عضلات جبالها التي أعياها الوقوف، وأُرقِدْ قلبي على مهادها بجانب ذراتها الجامدة وأشواكها الحادة؟

فيا أيتها الأم إني غير عاق في البنوَّة بيني وبينك، والأخوة لأبنائك جميعاً مما علا أو سفل فأسبغي على من شبابك الدائم، واكشفي لي عن محاسنك المكنونة، وعبقريتك المضنون بها على غير أهلها، وزاوِجي بيني وبين بناتك العرائس الأبكار اللائي لم يَطمثهن إنس قبلي ولا جان. . . واسكبي في قلبي من ذاك الإكسير المخلد الذي يجعلك دائماً أصبى من أولادك؛ ولا تأكليني فيما تأكلين من بنيك أيتها الهرة. . . .!

وحينما تغضبين أيتها الأم، فتزأرين بحناجر الريح، وتحطين أبناءك بالقارعات العاتية. . . وتثور أخلاطك فتقذفين الحممَ والشُّواظ واليَحْمومَ من تحت، والصواعق وحرائق البروق وجبال الثلوج من فوق، وتنفضين ما على الأرض بالزلزلة والمَيَدَان، فلا يسلم من يدك بعوضة ولا جمل. . . وتفتحين فكًّيْك لابتلاع الحقول بعشبها وشجرها، والمدن بمدرها ووبرها فتسدين الفجوات التي خلت في أحشائك، وتشبعين جوعك إلى العناصر بأكل أبنائك الذين يضجون وهم في الهول بين يديك بالثغاء والرغاء، والزئير والطنين، والهديل والنعيب، وغيرها من أصوات الحيوان الأبكم. وبالدعاء والبكاء من الحيوان الناطق: أبنك البكر الذي دلَّلْته وعزَّزْته وأعطيته مصباحاً ومفتاحاً زعم بهما أنه إلهك! وجعل قضيتك كلها (معادلة جبرية) في نصف سطر من قلمه العجيب الذي يجعل الدنيا كلمات وأرقاماً. .

! حينذاك أحاول أيضاً أن أقترب منك في غضبك لأرى عبقرية الإماتة والتخريب فيك كما رأيت إبداع الإيجاد والتكوين، ولأرى الدنيا صوراً من القبح والبشاعة والقسوة والفوضى كما رأيتها صوراً من الجمال والانسجام والنظام. . .

ولكنك تحتجين عنا حين تبدلين الثياب لتخفي عوراتك وسوآتك وشناعاتك، فتقتلين كل ذي عين حتى لا يراك فيقسم ألا يقترب ولا يعشق ولا يفنى في مظاهر خداعك وطلاء حقيقتك، وترسلين نارك التي تحرق دائماً، وماءك الذي يغرق دائماً، وقوارعك التي تحطم دائماً. . . فلا مطمع لأحبابك في رشوتك بالحب والشعر، ولا محسوبية ولا شفاعة أمام قوانينك الصارمة.!

وهأنذا أبحث عن حِرْز حَريز فيما وراء يدك المخربة، أخط فيه قبري وأختبئ فيه وأرصد منه دائماً حركة التجدد ورجوع الشباب والجمال إلى ديباجتك، وحتفالك لغير عيني من عيون الشباب الشعراء المقبلين. . . وهم يسكبون في سمعك ما أسكبه الآن من كلمات الهوى والغزل. . . ويقولون لك: (يا ذات الشباب المتجدد. . . اسبغي علينا من شبابك وأرضعينا يا أمنا من إكسير الخلد. . .) فأناديهم من مكاني البعيد الذي لا سلطان لكِ عليه قائلاً: أيها الطامعون في الخلود مع هذه العجوز المتجددة. . . لا تطمعوا أن تعطيكم ما بخلت به من قبلكم من بينها. . . إنها لم تسمح لأحد بالبقاء الكثير حتى لا يحتويها ويكفر بجمالها، فابحثوا عن مثل هذا المكان الحرير الذي أناديكم منه. . . واقنعوا أن يكون حظ أحدكم منها قبراً معلوماً في القبور، يقف أمامه أبناؤها اللاحقون ويشيرون إليه قائلين: هنا يرقد قلب شاعر عرف أمنا فكان يشتري فيها الحبر بالذهب. . . فاسكبوا على قبره كأساً منه. . . .!

عبد المنعم خلاف