مجلة الرسالة/العدد 218/مصير الحضارة

مجلة الرسالة/العدد 218/مصير الحضارة

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 09 - 1937


للأستاذ عباس محمود العقاد

يجتمع اليوم في مصانع العالم ومخازنه من أسلحة الحرب وأدوات الهلاك ووسائل التدمير ما لم يجتمع مثله قط في تاريخ الإنسان.

فهل يعقل العقل أن تلبث هذه الآلات مشلولة معطلة ينتهي أمرها بانتهاء صنعها ويقف الخطر منها عند حد التخويف والإنذار؟

وإذا هي استخدمت فيما صنعت له وانطلقت من عقالها وفعلت كل ما يخشى من فعلها الموبق الوخيم، فماذا يبقي من الحضارة؟ وماذا يبقي من تاريخ الآدمية بعد أن عبر هذا الشوط الطويل في آفاق الزمان؟ ألا تكون النهاية؟ ألا نرجع كرة أخرى إلى حالة بين الهمجية والحيوانية ينقطع السلم بعدها فلا نهتدي منه إلى طريق صاعد، ولا نعود - إذا ملكنا رأينا - إلى تجربة قد رأينا في خواتمها ما يصد النفوس عن البدء فيها؟

أكبر ما يرجوه الآملون في مستقبل الإنسان أن تنقبض هذه الشرور الجهنمية في محابسها كما تنقبض الشياطين في القماقم، فتخيف الناس خوفاً يعصمهم من آفاتها ويذودهم عن اللعب بنيرانها

فإن لم يصدق هذا الرجاء فأكبر الرجاء بعده أن تصمد البنية الآدمية للخطر المحيط بها وأن تفلت منه ببقية صالحة تحفظ عناصر الحضارة والأخلاق كما تصان الذخيرة المنتقاة من أنقاض الحريق

وأصحاب الرجاء في هذه العاقبة السليمة يعلقون رجاءهم على اختلاف الحال بين العصور التي سبقت زوال الحضارة فيما سلف وبين العصور التي نحن فيها والعواقب التي نحن منساقون إليها

ففي الأزمة الغابرة كانت غارات الهمج على الأمم المترفة هي المعول الأكبر الذي يضرب في أركان الحضارة ويقتلع العمران من أساسه، وكانت غارات الهمج مصحوبة بحال من العقم في القرائح والأفكار تصيب الفنون والعلوم بالفاقة والكساد والنضوب، فكانت تنقضي السنون وراء السنين ولا جديد في عالم التأليف ولا في عالم الاختراع ولا في عالم الفنون والآداب، وتلك في الوقع هي علامة الدثور والاضمحلال التي لا تزيدها الغارات الهمج إلا التسجيل والإعلان. ولا شك في أن الحضارات الأولى قد أخذت تموت وتتهاوى قبل أن يجهز عليها المغيرون من أبناء القبائل العارمة، ولا أدل على موتها من ضمور ملكة الخلق والابتكار فيها.

أما اليوم فالأمر بيننا مختلف والاختراع بيننا أروج وأكثر مما كان في أيام ازدهار الحضارات البائدة، وما تطلع الشمس صباحاً واحداً في أنحاء العالم المتمدن على غير كتاب جديد أو ثمرة فنية جديدة أو اختراع طريف أو تنويع وتحسين في اختراع قديم. فالبنية الآدمية بما اشتملت عليه من قدرة على التفكير أو قدرة على الشعور أو قدرة على الابتكار بنية سليمة مهيأة لطول الحياة ومغالبة الأحداث وتعويض المفقود.

هذا مع اختلاف آخر لا يقل في أثره ولا دلالته عن ذلك الاختلاف، وهو أن الغالبين والمغلوبين في أيامنا سوف يكونون من أبناء الحضارة الحديثة المشاركين في علومها وصناعاتها وأدواتها وآلاتها، فمن كتب له النصر من المحاربين في المعمعة القادمة سوف يضطلع بأمانة الحضارة وحده إذا قدرنا أن المهزومين يعجزون كل العجز عن متابعة الطريق واستئناف العمل النافع؛ وسوف يستبقي من علومنا وأفكارنا ما يصلح أن يكون خميرة يأكل من زادها أبناء الأجيال المقبلة، ثم يفتنون فيها ويزيدون عليها.

هذا وذاك مع اختلاف ثالث لا يقل عن ذينك الاختلافين في تغليب دواعي الأمل على دواعي القنوط، وذاك أن معارف الحضارة الحديثة لا تشبه معارف الحضارات الأولى في جواز الفناء عليها. فقد كانت معارف المصريين واليونان والرومان الأقدمين أشبه شيء في جملتها بحرفة الصانع القديم الذي يصون سره ويحمله معه إلى قبره، أو كانت بمثابة الخبرة الشخصية التي لا تقبل التعميم ولا اتصال النسق بين حاضرها وماضيها، لأنها مسائل اجتهادية يكاد يبدأها كل عامل من البداية ولا يدعمها إلى أساس يبني عليه من يخلفه من أبناء الصناعة.

أما حضارة العصر الحديث فهي حضارة قائمة على أساس العلم الشائع المقرر الذي جعل لكل اختراع قاعدة ولكل صناعة أصلاً ولكل مرحلة من مراحل التعليم مسافة وحدًّا؛ فلو فنيت ثلاثة أرباع المصنوعات الحديثة من الدنيا لكان الربع الباقي مشتملاً على جميع قواعدها وأصولها ومراحل التعليم والابتكار فيها؛ ومن البعيد عن التصور أن تعمد الحرب إلى عناصر العلم المتفرقة فتجمعها كلها إلى بقعة واحدة وترسل عليها صيباً من القذائف الناسفة فتمحوها محواً ولا تذر منها بقية للتجديد والترميم.

ذلك بعيد عن التصور، ولا خوف من اتجاه النية إليه أو اشتمال الطاقة على تنفيذه لو جاز أن يداخل النيات على أبعد الفروض.

نعم إن هناك خطراً أخطر على الحضارة من تدمير عناصر العلم بالقذائف الناسفة والآلات الجهنمية التي هي نفسها مادة من مواد العلم وجزء من أجزاء الصناعة.

هناك خطر على الحضارة أخطر من القذائف والآلات الجهنمية وهو إفساد الطبائع ومسخ العقول وتلويث الأخلاق وتعويد الناس أن يسخروا بكل نبيل جليل وأن يقنعوا من الدنيا بمعيشة البهم ولذائذ الحيوان.

فلو شاعت هذه الآفة - بل هذا الوباء - بعد الحرب المقبلة لكان بقاء العلوم والصناعات وزوالها على حد سواء، ولكانت الحضارة شيئاً لا يستحق الحرص عليه ولا الأسى لفقده ولا التفكير في استبقائه، ولبلغت الحرب بالناس أقصى ما نخاف من وبالها المحذور.

ومن خاف هذه العاقبة فله عذره الواضح مما نراه من تهالك على المتاع الزائل وتهافت على الشهوات الخسيسة وتهافت على المثل العليا والأخلاق الفاضلة والمطالب التي تتجاوز ساعتها أو يومها أو عمر طالبها على أبعد احتمال.

الاشتراكيون لا يؤمنون بغير الخبز، والفاشيون لا يؤمنون بخير الخنجر، والذين يأنفون من مذاهب أولئك ومن مذهب هؤلاء حيارى لا يهتدون إلى قرار؛ ومتى أصبحت الغاية المنشودة ما كان فيه آباؤنا وأجدادنا منذ ألوف السنين فنحن راجعون إلى وراء مقبلون على هبوط يشبه الفناء.

إلا أن الأفق لا يخلو في هذه الظلمة أيضاً من بارقة بعيدة يوشك أن يستفيض منها ضياء شامل.

فكلما شاعت اللذت كذلك شاعت السآمة من اللذات، وشاعت النزعة إلى التبديل، وتسرب القلق إلى الضمائر، فليست هي في حالة أستقرار، ولكنها في حالة تحفز وانتظار.

ويخيل إلينا أن الدنيا تتجه إلى تفكير جديد في القرن العشرين يشبه التفكير الجديد عند الانتقال من طور العقائد التقليدية إلى طور العقائد بالبحث والاجتهاد، أو يشبه التفكير الجديد عند الانتقال من هذا إلى الإيمان بالعقل وحده، ثم الغلو في التعويل عليه كما غلا العقليون المعروفون (بالراشنلاست) في أوائل القرن الغابر، أو يشبه التفكير الجديد عند الانتقال من (الراشنلازم) إلى المذهب الروحي أو مذهب البصيرة والإلهام الذي شاع منذ خمسين سنة في الأمم الغربية كافة

أما هذا التفكير الجديد الذي ننتقل إليه الآن فهو التقاء العالم المشهود وعالم الأسرار عند (الفلسفة الرياضية) التي انتهى إليها البحث في النور والإشعاع

فقديماً كان العالم الطبيعي في ناحية والعلم الرياضي في ناحية أخرى

كان العلم الطبيعي في تجارب المحسوسات، وكان العلم الرياضي في الحقائق الذهنية التي لا تحتاج إلى العالم المحسوس

فاليوم وصل العلم الطبيعي بكل شيء إلى الإضاءة والإشعاع، ووصل بالإشعاع إلى النسب العددية والتقديرات الرياضية، وجاز في عرف العقل المثقف السليم أن تقاس الحقيقة من (باطن) العقل وداخل السريرة، على مثال يقارب هداية الملهمين ومكاشفة القديسين في الزمن القديم.

تلك البارقة من التقاء عالم المادة وعالم الأسرار بشيرة بالخير وشيكة أن تعصم النفوس من تيه الظلمات، وأن تسلم زمام الحضارة الإنسانية إلى غاية أبعد من الغاية التي يدين بها عباد الخبز وعباد الخنجر، حيثما اهتدى بها العلم والفلسفة والعقيدة في أعقاب الضياء.