مجلة الرسالة/العدد 22/الصهيونية

مجلة الرسالة/العدد 22/الصهيونية

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 12 - 1933



نشأتها وتطورها

1. قبل عهد بلفور

للأستاذ محمد عبد الله عنان

لفتت حوادث فلسطين الأخيرة أنظار العالم مرة أخرى إلى ذلك النظام السياسي الاجتماعي الغريب الذي فرض على فلسطين تحقيقا لمشاريع السياسة الاستعمارية. ففي فلسطين أمة عربية تعيش في ذلك الوطن منذ آماد بعيدة. ولكنها تجد اليوم نفسها أمام خطر داهم على كيانها القومي، وترى اليهودية تمكن من غزو هذا الوطن بطريقة منظمة مستمرة، تنفيذا لعهد قطعته بريطانيا العظمى على نفسها إبان الحرب الكبرى، بأن تعاون على إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين.

وفكرة الوطن القومي اليهودي قديمة ترجع إلى العصور الوسطى. ولكنها لم تكن في تلك العصور التي كانت بالنسبة لليهودية (عصرها الحديدي) أو عصر الاضطهاد الشنيع أكثر من مثل أعلى أو أمنية مقدسة غامضة. ولكنها منذ القرن الثامن عشر تغدو نظرة سياسية اجتماعية ترمى إلى غايات عملية. وكان أقطاب اليهودية في ذلك العصر وعلى رأسهم رجال ممتازون مثل مندلزون ولسنج يرون أن تتخذ القومية اليهودية صيغة محلية، فيغدو اليهود من أبناء البلد الذي استوطنوه مع احتفاظهم بتراثهم الروجي. ولكن هذه القومية المعتدلة التي أملى بها جو التسامح الذي نعمت به اليهودية يومئذ لم تلق كبير تأييد، ولم يطل أمدها، واستمرت الفكرة القديمة على قوتها وتأثلها. ومنذ أوائل القرن التاسع عشر نجد يهود إنكلترا يعملون على تقويتها وتلمس السبل لتنفيذها بالدعوة إلى إحياء التراث اليهودي وإنشاء المستعمرات اليهودية في فلسطين. ومن ذلك الحين تتجه اليهودية ببصرها إلى فلسطين؛ وتتكرر جهودها لإقناع السياسة البريطانية بإمكان قيام وطن قومي يهودي في فلسطين تحت الحماية البريطانية، وأن قيامه يغدو ضمانا قويا لتأمين طريق الهند البري وهنا تتخذ فكرة القومية اليهودية صبغة سياسية واضحة؛ وتبدو الفكرة الصهيونية في شكلها الحديث. والصهيونية هي القومية اليهودية. اشتقت من (سيون) العبرية أو صهيون الأكمة أو المعقل. وقد أطلقت أولاً على موقع التل الذي بني عليه الهيكل ثم أطلقت على بيت المقدس؛ ثم على الأمة اليهودية كلها، وتراثها الروحي؛ وأصبح معناها الحديث عود القومية اليهودية واستردادها لتراثها الغابر. وبهذا تفهم الصهيونية في عصرنا ولهذا تعمل.

وإذا فالصهيونية الحديثة ترجع إلى أواسط القرن التاسع عشر. وفي هذا الحين نفسه تلقى الصهيونية مادتها وقوتها: ذلك أن خصومة السامية أو نزعة التعصب ضد اليهود قد اضطرمت يومئذ بفورة جديدة في معظم الدول الأوربية، وأسفرت عن مذابح مروعة في روسيا والمجر. وعصفت باليهود في ألمانيا ثم عصفت بهم في فرنسا حيث بلغت الحركة ذروتها في قضية دريفوس الشهرية (سنة 1896).

ورأت اليهودية أنها رغم حصولها على الحقوق المدنية والسياسية في معظم الدول الغربية، مازالت عرضة للبغض القديم الذي أصبح تقليداً راسخا في المجتمعات الغربية. عندئذ بدت فكرة الوطن القومي اليهودي ضرورة يجب تحقيقها لخير اليهودية وسلامها. وأخذ أقطاب اليهودية على إذاعة الفكرة واتخاذ الخطوات العملية الأولى في سبيل تحقيقها. فألفت جمعية لإنشاء المستعمرات اليهودية وزودت بالمال. وبدأت مساعي الماليين اليهود لدى الباب العالي لإنشاء هذه المستعمرات في فلسطين. ثم لقيت الفكرة روحها المضطرم في كاتب يهودي نمسوي فتى هو تيودور هرتسل. وقد ولد هرتسل ببودابست سنة 1860 وظهر في الصحافة والتأليف المسرحي وظهر بالأخص بكتاباته القوية الملتهبة في سبيل القضية اليهودية. وكان هرتسل يرى أن الوطن القومي ضرورة لليهودية لا أمنية فقط، وفي سنة 1896 أخرج رسالته الشهيرة (الدولة اليهودية) يعرض فيها فكرة الوطن القومي عرضا قوياً، ويرى أن يتخذ هذا الوطن صورة دولة يهودية في فلسطين تكون تحت سيادة الباب العالي وتؤدي له الجزية وتكون البقاع المقدسة منطقة مستقلة ذات نظام خاص، فكان لدعوته وقع عظيم في اليهودية بأسرها، وأيده أقطاب المفكرين اليهود مثل مكس نورداو وإسرائيل زنجويل وغيرهما. وكانت اليهودية على إثر ما عانته من اضطهاد الخصومة السامية في معظم البلاد تتحفز يومئذ للذود عن نفسها، وتستجمع جهودها للقيام بحركة إيجابية منتجة. وسرعان ما انتظمت هذه الحركة تحت لواء هرتسل وزعامته، وفي أغسطس سنة 1897 عقد مؤتمر يهودي عام في بازل (سويسرا) برآسة هرتسل وفيه وضع برنامج الصهيونية الرسمي وعرفت غايتها ووسائلها على النحو الآتي:

(تسعى الصهيونية لتحقق للشعب اليهودي إنشاء وطن في فلسطين، يتمتع بالضمانات التي قررها القانون العام، لكي يمكن تحقيق هذه الغاية، يرى المؤتمر الوسائل الآتية:

1. أن يشجع استعمار فلسطين بواسطة الزراع والعمال والصناع التشجيع الواجب.

2. أن ينظم العالم اليهودي بأسره وأن يحشد في المجتمعات المحلية أو العامة طبقا لقوانين البلاد المختلفة.

3. أن تقوى لدى اليهود عواطف الكرامة القومية والاعتزاز بالجنس.

4. أن تبذل المساعي التمهيدية اللازمة للحصول على التصريحات الحكومية الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية.)

ثم توالت المؤتمرات الصهيونية في كل عام وبدأت مساعي اليهودية العملية واتصل هرتسل بالباب العالي، فاظهر نحو الفكرة ميلا في البداية باعتقاد أن تأييدها يكسبه نفوذا جديدا، حاول أن يجعل من ذلك وسيلة لحل المسألة الأرضية بشروط عرضها على اليهود الإنكليز ولكنه أخفق في هذه المحاولة. وزار هرتسل السلطان عبد الحميد في سنتي 1901و 1902 فآنس منه إعراضا وأخفق في سعيه. فاتجه هرتسل إلى إنجلترا وعرض أن ينشأ الوطن القومي اليهودي في أية منطقة من البلاد الواقعة تحت النفوذ البريطاني، واقترحت خلال ذلك منطقة سيناء المصرية ثم منطقة في الشرق افريقا البريطاني. ولكن أغلبية المؤتمر الصهيوني (سنة 1903) رفضت فكرة التحول عن فلسطين إلى غيرها وعدتها تراجعا وهزيمة للفكرة القومية الأهلية، ثم توفي هرتسل سنة 1904 في عنفوان قوته وجهوده فكانت وفاته ضربة قوية للحركة الصهيونية، ولم تجد الحركة من بعده مدى أعوام من يقودها بمثل قوته ونفوذه. وتزعمها مدى حين فولفزون المالي الألماني، وإسرائيل زنجويل الكاتب الإنكليزي، وجددت المساعي لدى الباب العالي، ولكن اضطراب الأحوال السياسية في تركيا حال دون كل مسعى. وجددت المساعي لدى إنكلترا. واقترحت أثناء ذلك برقة أو الجزيرة في العراق لتكون مركزا، للوطن القومي، ولكن هذه المساعي أخفقت أيضا ففت هذا الفشل المتكرر في عضد الصهيونية وخبت حماستها، فترت جهودها حنى نشوب الحرب الكبرى.

وفي أثناء الحرب سعت اليهودية إلى غايتها بجد ومثابرة، وقدمت إلى الحلفاء كل معونة ممكنة فامدتها بالقروض المالية، والفت فرق يهودية عسكرية تحارب إلى جانبهم. وتولى الزعماء اليهود: لورد روتشيلد والدكتور ويزمان ومسيو سوكولوف تنظيم هذه الحركة والسعي لدى دول الحلفاء وبخاصة إنجلترا في تحقيق مشروع الوطن القومي، وأسدى الدكتور ويزمان، وهو علامة كيمائي ومخترع بارع إلى إنجلترا أثناء الحرب خدمات جلية، بتولي المباحث الكيميائية في المعامل الإنجليزية: واختراع مادة جديدة للمفرقعات القوية. وأسندت إليه منذ سنة 1917 رآسة الهيئة الصهيونية العالمية. وكانت إنجلترا تجد يومئذ هجومها على فلسطين، وأمل اليهودية يبدو على وشك التحقيق. وكانت فرنسا أول من تقدم من الحلفاء لتأييد مشروع الوطن القومي اليهودي بصفة رسمية: ففي يونيه سنة 1917 وجه مسيو كامبون وزير الخارجية الفرنسية إلى مسيو سوكولوف رئيس اللجنة الصهيونية التنفيذية يؤكد فيه عطف الحكومة الفرنسية على القضية اليهودية والوطن القومي، وفي 2 نوفمبر سنة 1917 أصدرت الحكومة البريطانية عهدها الشهير بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وعرف هذا العهد باسم اللورد بلفور وزير الخارجية البريطانية يومئذ؛ وتلى في مجلس العموم البريطاني في النصف الثاني من نوفمبر في خطاب رسمي وجه إلى اللورد روتشيلد كبير اليهودية الإنجليزية وهذا نصه:

عزيزي اللورد روتشيلد: يسرني أعظم السرور أن أوجه إليك باسم الحكومة البريطانية التصريح الآتي بالعطف على الأماني الصهيونية اليهودية وهو تصريح عرض على الحكومة البريطانية وأقرته وهو:

(أن حكومة جلالته تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين: وسوف تبذل ما في وسعها لتحقيق هذه الغاية. ومن المفهوم أنه لن يعمل شيء مما قد يضر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهدوية الموجودة في فلسطين ولا بالحقوق أو المركز السياسي التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر)