مجلة الرسالة/العدد 22/القصص

مجلة الرسالة/العدد 22/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 12 - 1933



قصة مصرية

تقاليد

للأستاذ محمد سعيد العريان

لم يكن حامد قد أتم دراسته العالية حيث بدأت تقوى صلته بصديقه حسين أفندي، ولم يكن الحديث يبنهما كلما تقابلا يتجاوز السؤال عن الصحة والأنجال، والذكريات القريبة عن جهادهما في صفوف الشباب الوطنيين، ولا يذكر حامد أنه زار صديقه حسينا في منزله غير بضع مرات كان في معضمها مريضا، وما أكثر ما يشكو المرض! ومرة دعاه حسين أفندي إلى زيارة منزله فلبى. وكانت هذه أولى زيارات متتابعة قوت بينهما رابطة الإخاء والود، وزادت إخلاصهما تمكينا وقوة.

كانت منيرة بنت حسين أفندي فتاة فارعة الجسم، معتدلة القامة، خمرية اللون، فاتنة النظرة، عذبة نغم الحديث، تبدو في انوثة فاتنة نضجت في شعاع ثمانية عشر ربيعا. ورآها حامد فأعجبه أن يتحدث إليها، وأن تتحدث إليه، وأن يشعر في أثناء ذلك أنه موضوع اهتمامها حين تسأله عن حياته في القاهرة وحيدا أيام الدراسة، وابتدأ أهل البيت يرتاحون لزياراته في ثقة واطمئنان، وابتدأ هو يحس الشوق كلما اخلف موعد هذه الزيارة. وصار من المألوف أن يزورهم كل يوم، وأن يسألوا عنه كلما غاب. وانتهى الصيف وعاد حامد إلى القاهرة يستقبل العام الثاني من دراسته في كلية العلوم، ولكنه لم يشعر بالاستقرار وهدوء البال اللذين كان يشعر بهما في العام الماضي، وإنما كان كثير الحنين إلى البلد حيث قضى أيام الصيف. أهو شعور السأم من الوحدة في بلد تذوق كل ما حل من لذاته، أو ملل الدارس طال به انتظار الثمرة، والحنين إلى أهله والصفوة من أصحابه في البلد الذي نشأ فيه؟

لم يستطع حامد أن يجيب على هذا السؤال إلا بعد أيام حين وصلته رسالة من صديقه حسين، أودعها شوقه وتحيته، يخبره أن منيرة مريضة منذ أيام. ما كان أسرع صاحبنا حينئذ إلى كتابة جواب هذه الرسالة، على كسله وتوانيه في كتابة الرسائل! لم يذكر شيئ من رسالة صديقه الطويلة ذات الصفحات الأربع غير مرض منيرة، ولم يكتب شيئا في جوابه غير السؤال عن منيرة والاهتمام بها، والدعاء لها! وفي صندوق البريد ألقى الجواب، ثم خرج منفردا في نزهة وراح يفكر. . . وبدا له انه كان متسرعا كل التسرع، عجلا كل العجلة، فيما ضمن جوابه من عبارات، أي صلة بينه وبين حسين أفندي تسمح له ان يهتم كل الاهتمام ببنته، وأن يصرح بالشوق إليها، والألم الموجع لمرضها في كتاب لأبيها وليس من التقاليد أن يتكلم الشبان عن بنات أصدقائهم بهذه اللهجة الناعمة المفتونة؟ ولكن حامد نفسه لم يكن يعرف لماذا كتب ذلك، ولا كيف اندفع إليه ونسى التقاليد والأدب اللائق، أكان يحبها وهذا وحي عاطفته ودافع وجدانه؟ ربما!

بلغته رسالة أخرى من صديقه حسين أفندي، فلم يكن بها ذكر لمنيرة أو نبأ عنها. أكان تجاهلا مقصودا؟ وهل كان ذلك عن أثر رسالته؟ ترى ماذا كتب فيها؟ لقد نسى كل ما جرى به قلمه، ولم يذكر إلا أنها كانت رسالة تجاوز بها التقاليد التي يدين بها حسين أفندي أكثر مما يحرص حامد على نبذها. .

وكأنما انقطعت عنه أخبار صاحبته منذ أمد طويل لا منذ أيام، وابتدأت تغزو فكره مرات في اليوم الواحد، أو أخذ يذكر حديثها ويستعيد الكثير مما ينكره ويردده بلسانه في لحن عذب الإيقاع، وطارت حولها أمانيه، وعقد بها مستقبلة. لقد كانت وهي بعيدة أفتن منها بين عينيه! ولم يشغله فيما تلا ذلك من أيام إلا أن يحصى كما بقى من الزمن ليعود إلى هناك. . .

وكثرت زياراته للبلد: زارها مرتين في الشهر الأول، وثلاثا في الشهر الثاني، وكان في كل زيارة من هذه الزيارات يجد نفسه مسوقا إلى ناحية بيح حسين أفندي، فيقضي هناك بعض الوقت قبل أن يزور أمه وأخوته. ورأى في ترحيب صاحبته به، وسرورها بمقدمه معنى لم تنكره عيناها، واعترفت به ضغط يدها عند اللقاء وعند الوداع. لم تعد به حاجة لأن يسأل نفسه عن سر ذلك، فقد أيقن أنه وأنها. . .

وأضمر أمرا وأسره إلى صديق، فقد كان يفكر في أن يختارها لنفسه زوجة، ولكن أتراه يستطيع أن يقدم على ذلك وهو ما يزال طالبا بينه وبين رجولة الأزواج أعوام ثلاثة؟ وماذا عليه لو خطبها إلى أبيها وطلبه إليه أن ينتظر حتى يتخرج، أتراه يقبل ذلك ويرضاه لها؟ وكيف يبدؤه الحديث، بل كيف يتحدث الناس في هذا الشأن؟ لقد مات أبوه منذ سنوات، والأب هو الذي يستطيع أن يتحدث بأسم ولده في مثل هذه الشئون. . . ولم يطل به التفكير في ذلك، فقد ذاع ما حسبه سراً بينه وبين صديقه حتى وصل إلى مسمع الوالد!

وزار البلد بعد ذلك ولكنه لم يسعد بلقاء حبيبته، فقد حجبوها عنه، وأقاموا بينها وبينه التقاليد، أي أغلقوا دونهما الأبواب وأرخوا الستور. قد تكون أسعد منه الآن. فهي تستطيع أن تزيح السجف لتراه كلما زارها، ولكنه لا يراها وليس إلى لقائها من سبيل! وأبتدأ الدور الثاني من أعراض الحب، وعصف الشوق بقلبه، وعبث بلبه، وسيطر على ذات نفسه. وانصرم العام لا يذكر أنه رآها في خلاله أو استمتع بها غير نظرات كجسو الطير، ما كان أفرحه باجازت الصيف! لقد كان يظن أنه يستطيع في إبانه أن يصل ما انقطع من لذاته باللقاء (عهده الأول) ولكن ما كان أبعد أمانيه. .! وضاقت نفسه بما يجد، وأحس الشوق يفري كبده، والحسرة تشوي قلبه. وانقضى الصيف، وعاد إلى القاهرة لم يتزود بتسليمة مشتاق أو نظرة وداع، وحسب أنه هناك يستطيع أن ينشد السلوة ويلتمس العزاء في جوها الصاخب، فقضى أيامه الأولى بها على شر ما يقضيها العاشق. ولكن شأنا خاصاً دعا صاحبته أن تزور القاهرة وقتئذ، وتنزل في ضيافة بعض ذوي قرباها هناك، فتجدد الأمل عنده، وأحس كأنما نسيم القاهرة أصبح ندياً عبقا بعد أن كان نارا حامية يصلاها بعيدا عن الأهل والأحباب. . وكان من حظه أن لم تجيء معها التقاليد فتلاقيا غير مرة، وخرجا للنزهة مرات، فلم يتركا بين منازه القاهرة موضعا لم يشهداه على حبهما، ثم عادت إلى البلد وخلفت له الشوق والحنين، وكلما لج به هواه وألح عليه الشوق أنس في وحدته بذكرى تلك الايام القليلة، أو خرج يلتمس العزاء هناك. . . حيث كانا يجلسان، لعله يسمع في همس النسيم صدى ما كان يتناجيان، أو يستوحي عيون الزهر سر ما استودعاه لديها من عهود الماضي، ويتسمع في خرير الماء رسالة ضلت الطريق إليه، او يتفيأ في ظلال الخمائل مجلساً طالما بسط ذراعيه وضم. هيهات! لقد صمت النسيم إلا حنين المهجور، وجف الزهر إلا عبرة الأسى، وخرس الماء إلابكاء الواجد، وسكن الشجر إلا هزة الشيخ حطمته السنون، ليته لم يلقها بعد إذ أيأسه ذلك البعد الطويل، لقد كان من يأسه في راحة!. . كيف تمر الأيام على الغريب أوحشت نفسه وأنقطع ما بينه وبين الناس؟ انه ليخيل إليه أن الزمن عبء ثقيل على كتفيه يجاهد للخلاص منه ولو بالخلاص من الحياة، وكلما عاد بنظره إلى الخلف عجب كيف استطاع أن يقطع كل ذلك الماضي وكيف انصرمت أيامه والحمل لم يخف عن كتفيه، ولم يزل بينه وبين الخلاص أمد لا يمتد النظر إلى نهايته؟

الآن لم يبقى بينه وبين الحصول على إجازة كلية العلوم غير عام واحد يستطيع بعده أن يتقدم في ثقة بنفسه واطمئنان إلى مستقبله ليخطبها إلى أبيها، ولكنه حسب إن هو تعجل الحديث في هذا الشأن تفتحت أمامه الأبواب، وانزاحت الحجب، وانكشفت الستور، واستطاع أن يظفر بلقاء (خطيبته) على عين أهلها وأن يتحدث إليها بينهم. واغتنم فرصة سانحة، وما هي إلا أن استجمع شجاعته، فانطلق يحدث أباها، وأبوها ينصت إليه في هدوء. . لا شك أنه كان ينتظر أن يسمع هذا الحديث منذ زمن طويل، وأنه هيأ في خياله صورة هذا المجلس من قبل، فلم يلبثا أن تصافحا في حرارة وعزم، وقلباهما مفعمان بالسرور، وعلى أساريرهما بشر ناطق.

منذ ذلك اليوم أصبح حامد خطيب منيرة، وان لم تتناقل الأفواه هذا الخبر لأنهما حاولا أن يبقياه سراً بينهما حتى يحين يوم إعلانه، وأحس حامد بعض إحساس الملكية لشيء في هذا البيت الذي كان الناس يرونه كثير التردد عليه، ويدفعهم الفضول إلى البحث عن دواعيه، ولكن لم يتغير شيء مما ألفه حامد ونقم عليه وحاول الخلاص منه من قبل، فلا هو استطاع أن يرى خطيبته أو يتحدث إليها، أو يسأل عنها سؤال الشخص عمن يهمه، لقد زاد الحجاب بينهما. وزاد التكلف، وبدأ حديث حسين أفندي عن بعض شؤونه الخاصة فيه بعض الحذر وبعض التأنق، وهو مالم يكن معهودا بينه من قبل، وأصبح صاحبنا حامد يخجل أن يبدو منه بعض الاهتمام بشأن منيرة، حتى ليتحاشى أن ينطق باسمها، كأنه يحس في اختلاج شفتيه عندئذ لهفة مشتاق، وفي نبرات صوته رنين قبلة مكتومة، وإذا نطق به مرة ففي مثل مناجاة الحالم أو إقرار الخاطئ. ولم يكن حامد ليسره ذلك أو ترتاح إليه نفسه، لقد كان يريد بتعجيل الخطبة أن يكون أقرب اتصالا بصاحبته فإذا هو أبعد مما كان، ولقد صرح عن رغبته مرة أو مرتين فكان اعتذار حسين أفندي مضحكا حين نسب إلى أبنته الخجل والتأبي على ذلك فكأنما تأبى شيئا ترضاه، لقد كان حامد يريد أن يستوثق من حب صاحبته وثباتها على العهد قبل أن يسافر إلى القاهرة، ولعله كان يريد يتزود من حبها بما يقوي عزمه على المضي في جهاده المدرسي مرحلته الأخيرة. عجيب! لقد كان إلى قريب يستطيع ان يراها وأن يبادلها الحديث ولو بابتسامة أو إيماءة على بعد، ولم يكن غير ذلك الشخص الذي يزورهم كثيراً لأنه صديق أبيها، حتى إذا أرتبطا بعهد وثيق على أن تكون زوجته، وأن يكون أقرب الناس إليها حيل بينهما وضوعفت الحجب والستور! تقاليد؟ لو أنه لم يكن قدر رآها من قبل ولم يجلس إليها يتحدثان الساعات، ويمتد تعرفهما السنين لكان من حق التقاليد أن تسيطر على عواطفهما وتمليء أرادتها! تقاليد؟ أن الجهل بعض تقاليد الماضي. . . إن الموتى لا يملكون أن يتصرفوا في شؤون الأحياء!

ولم تنقطع زياراته، ولكنها كانت زيارات جافة مملولة، لقد كان يذهب إلى هناك كل يوم، لا يكاد يرى في الطريق من يحييه، لأنه لا يرى غير صورة واحدة يبتكرها خياله لتصحبه إلى هناك، وحين يعود، ما كان أتعسه! هو آدم، ولكنه هبط من الجنة قبل أن يذوق الثمرة، على وجهه علائم الخيبة واليأس والسخط والتبرم بكل شيء، ولكنه كان يذهب كل يوم. . .!

وأحس حامد وخزا أليما بين جنبيه حين علم ان التقاليد المعكوسة لا تجعلها تحتجب عن غيره من شبان الأسرة، وحين سمع صوتها تتحدث إلى واحد منهم في الغرفة المجاورة، لم يحرم عليه ما يحل لغيره؟ ألأنها خطيبته؟ لقد كان ذلك أجدر أن يرفع بينهما الحجاب؟ وابتدأت الغيرة تدب في صدره. أليست تخرج من المنزل قليلا أو كثيرا لمثل ما يخرج له الفتيات من لداتها زائرة أو متفرجة؟ أليست تسير في الطريق ينتهب من حسنها كل ذي عينين، ويستمتع بمرآها كل من أسعده الحظ أن تلتقي بها عيناه؟ يحسبه مثل متع هؤلاء: نظرة عابرة، أو نهلة عارضة، ولكنهم يسعدون بما يتمناه وهو به أحق ومنه محروم!!

أي معنى لهذه التقاليد إلا أن يكون من مثل تصرف الأم مع صغارها إذ تمنع عنهم الطعام حرصا على صحتهم، أو حرصا على الطعام. .! ولكن الأم لا تمنع أولادها الطعام إلى أن يشفي بهم الجوع على الهلاك، ولا هي تمنعه لتطعمه قطط الحي وكلابه، ليس قريبها الذي فتحت له الباب ورفعت الحجاب ووقفت تحدثه جديرا بهذه الوقفة على مرمى نظراتها الفاتنة، ومن دون خطيبها الذي يتلهف شوقا إليها أبواب موصدة وحجب مضاعفة، لماذا لم تمتنع عليه قبل أن يهمس القدر في أذنه بأمنية الزواج منها؟ ليته رضى أن يبقى صديق الأسرة زمنا آخر فلم يخطبها ولم يجر حديث الزواج على لسانه، إذ لبقى كما كان (مأمون الجانب) لا تدق أجراس الحذر لقدمه، ولا تغلق دونه الأبواب! ولا يعرف التقاليد ولا تعرفه. .

ولم يطل حامد مجلس في غرفة الاستقبال بعد، فخرج مغضبا وفي عزمه ألا يعود! ولكنه عاد بعد أيام. . وما دام بينه جنبيه قلبه الواهي فلن يستطيع أن يدبر أمراً أو يحكم خطة.

ومرت أيام، ومحا جديد الشوق ماضي الغضب، وجلس مع أبيها يتحدثان في غرفة على الردهة لا يحتجب من يمر قبالتهما، ودق باب البيت، وفتحت الخادم، وقام أبوها فأوصد باب الغرفة، لقد كانت آتية من زيارة إحدى قريباتها، فأبت التقاليد إلا أن يقوم أبوها فيغلق الباب دونهما حتى تمر، وماذا يكون لو رآها كما يراها آلاف الناس في الطريق؟ بل كما يراها ذلك الساب الذي جاء يشيعها إلى دارها؟ وماذا لو كان هو الذي يصحبها ذاهبة لبعض شأنها أو عائدة؟ تقاليد؟ لتسحق هذه التقاليد قبل أن تسحقه، إن كان لا بد أن يكون أحدهما ضحية، لقد كانت تذهب إلى السينما فأي حرج في أن يكون بجوارها هناك، وهي حين تجلس في مقعدها وترفع النقاب عن وجهها لا تبالي من يجلسون بجوارها، وفيهم الفتيان وفيهم الكهول. وعادت الغيرة تأكل قلبه، وتوقد النار في صدره، وجاهر بغضبه، وعادت تمتمة الاعتذار. وأبوا عليها أن تسافر في موعد خاص حددوه لها من قبل، لأن صاحبنا قد حدد هو أيضا ذلك الموعد نفسه لسفره، وماذا لوعدوه رجلا ككل الرجال الذين تقدر كل مسافرة أن تراهم يرافقونها في القطار؟ وأخلفت موعدها وسافرت وحدها وسافر وحده، حذر أن يراها أو يجلس إليها، كما يراها ويجلس إليها كل الناس!

وقدر حامد أنه لا يستطيع أن يصبر طويلا على ذلك البعد الغيور، ورأى أن يتعجل أمره حتى إذا ظفر بزوجه استطاع أن يقف من هذه التقاليد موقفا آخر. ولكن التقاليد أشارت بسبابتها مرة أخرى ووقفت تعترض الطريق؛ لقد كان هناك بعض أمور لها في رأي رجال الماضي شأن واعتبار تأبى هذا التعجيل، وخضع صاحبنا للأمر مرة أخرى ووقف ينتظر والنار تأكله، والتقاليد تذيبه.

ترى كيف حالها في إسارها بين هؤلاء الذي يحصون عليها النظرة والابتسامة، وهي المشبوبة العاطفة الدقيقة الحس، التي يعلم أنها لا تصبر عن لقائه أكثر مما يصبر؟ لقد استطاعا مرة أو مرتين أن يتلاقيا على غير رقبة، وعلى غير موعد أيضا، فلما نمت عيناها بمكنون قلبها، وافتضح السر لديهم، كان سؤال فيه إعنات، وجواب فيه حرج، فلم يشفع لها غير الدموع!

لقد مر بعد ذلك سنتان أو يزيد، وموقف صاحبنا لم يتغير، وتأبى التقاليد أن تتزحزح من موقفها لتفسح الطريق لزوجين يريدان أن يتمتعا بسعادة العيش قبل فوات الأوان والشباب، وشعر أن فؤاده يهرم. وأن ذلك الحب الذي كان يعمر قلبه أبتدأ يتحول إلى ذكرى حزينة بائسة، وصور الماضي الجميل التي كانت ترف ناضرة أمام عينيه تذوى وتتعرى من فتنة الحياة، والمستقبل الباسم الذي صوره لنفسه من أطياف الأمل تطمس رواءه آلام الحاضر العابس، ويئس وقنع من غرامه الأول والأخير بالذكرى يستبعدها ليعيش فيها لحظات. لقد كان يكره التقاليد لأنها صورة الماضي البالية، ولكنه عاد لا يؤمن إلا بالماضي، ولا يرضى إلا أن يعيش فيه. .!

أراد أن يروض نفسه على السلوان، وأن يدفن ذلك الماضي في أعماق النسيان، ولكن نارا بين ضلوعه كانت تشعل هذه الذكرى كلما هم أن يطفئها، وقلبه بين جنبيه لا يفتر ينبض، وريشة في الخيال تمحو صورا وتبعث صورا.

أيقن أن سلطان التقاليد أقوى من سلطانه، فكيف يحتال على هذه التقاليد حتى تسلس له قيادها، ويملي فيها إرادته؟ لو كان يدري متى تأذن له أن يحتضن خطيبته إليه لاستطاع أن يحمل نفسه على الصبر، ولكنها تؤجل دائما إلى الغد، والغد لا يتحقق.

لقد رأى أختها أمس؛ نهض صدرها، وتحير في خديها ماء الشباب؛ لقد أصبحت هي أيضا عروسا، أصبحت تنظر نظرتها. . ولو فتش فيها وراء هاتين العينين لظهر من خلفهما في مرآة الأمل الزوج الذي أبدعت تخيله وأجادت رسمه. . .

وخطر لها خاطر: لو أن شابا تقدم غدا إلى حسين أفندي يطلب يد (سعاد) ورأى فيه ما يحمله على قبوله، فماذا يكون من أمره؟ ستأبى التقاليد ولا شك أن يزوجها قبل زفاف أختها، وأنه لحريص على التقاليد، وسيأبى عليه أيضا بر الوالد أن يفلت منه هذا الخاطب، وجه التدبير إذن أن يعمل على تعجيل أمر حامد ومنيرة ليخلي الطريق لسعاد، فينتهي من تقاليد ليبدأ تقاليد غيرها. .

ياله من أمل! إذن لاستطاع حامد أن يتغلب على التقاليد بالتقاليد نفسها، بل أن يملي عليها إرادته ويهزأ بها كما أملت عليه إرادتها من قبل هازئة جبارة.!

ومرت أيام، وتلتها أيام. . وفجأة وقعت المعجزة وكان وقعها سعيداً، لقد تقدم الخاطب الوجيه يطلب يد سعاد.

كيف تقدم. .؟ من أين تقدم.؟ من يدري. .؟

وابتدأت التقاليد دورتها في فلك جديد، ترمي إلى هدف آخر، أما حامد أفندي فقد هدأت نفسه، وتفيء ظل الطمأنينة. لقد ظفر بأمنية الحياة. . .!

ولكن. . هل تزوجت سعاد بهذا الخاطب. .؟