مجلة الرسالة/العدد 22/000 ثم أرادت أن تجعل منه رجلا!

مجلة الرسالة/العدد 22/000 ثم أرادت أن تجعل منه رجلا!

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 12 - 1933



للدكتور محمد عوض محمد

لقد قض الأمر، وزوجت منه!. . .

فيا للعجب! كيف ألم بالدهر هذا الحادث الخطير، والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض مازالت تدور حول محورها المائل المنحرف، وتطوف من حول الشمس وتمعن في الطواف؟ والقمر ? أجل القمر ولميزل ينتقل بين منازله المقدرة له من الأزل. . فكيف إذن نزل ذلك الخطب؟

أكبر الظن أن القمر المذكور هوسبب تلك النكبة. أجل هو وحده المسئول عن تلك الكارثة. فأن ليلى قد التقت بأحمد من قبل مرار، في وضح النهار، فلم تر فيه إلا فتى حسن الصورة، ولم تحس نحوه ميلا ولا حبا. . لكنها التفت به بعد ذلك على شاطئ النيل، في ليلة يلمع فيها بدر التمام؛ فإذا القمر يوسوس في صدرها، ويثير في فكرها الأوهام، ويريها صورة ذلك الفتى، وكأنها تمثال لكل ما يتوق إليه قلب المرأة التواق من سحر وجمال وشعر وأحلام أما صوته المتكسر الواهي، فكان يرن في إذنيها كالموسيقى العذبة لكنها كانت من طراز موسيقى شوبرت الرقيقة، لا موسيقى وأغنر العنيفة القوية. . ولقد ساورها الشك لحظة، وأرادت أن تسأل نفسها: (أنى لرجل كامل الرجولة أن يكون في صوته كل هذه الرقة وهذا التكسر؟) لكن القمر لم يدعها طويلا تتلاعب بها الشكوك، بل أوحي اليها بسرعة أن ذلك من أثر العشق الذي استحوذ على أحمد، فرقق من صوته وأكسبه كل هذا اللين والعذوبة والغور!. وكان القمر في هذا كاذبا؛ والحقيقة أن أحمد كان من ذلك الجنس الناعم الخائر الذي يبرأ منه الرجال والنساء على السواء.

فلم تنقض تلك الليلة المقمرة الساحرة حتى كان الحب مالئا قلب ليلى؛ وقد جعل على عينيها غشاوة لن يزيلها الا تعاقب الليل والنهار.

وهكذا تم النصر للقمر الماكر! وياليت الزهرة كانت في السماء تلك الليلة، إذن لمحضت ليلى النصح، وفتحت عينيها لما هو محدق بها من الخطر؛ لكن الزهرة لم تكن (ياللاسف!) في السماء. وهل في الدهر سواها نصير للفتيات يرد عنها الغوائل، ويهديهن سواء السبيل، ويأخذ بأيديهن كي لا يتردين في كل هوة مخيفة ? أما القمر فنصير الفتيان، وعلى الخصوص اولئك الفتيان الخائرون المتكسرون، الذين يشبهونه بوجوههم المليحة الناعمة الشاحبة الخالية من كل قوة ونخوة. . ولم تك إلا أسابيع قلائل، حتى زوجت منه وقضي الأمر! والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض ما انفكت تدور حول محورها المائل المنحرف

ثم كان شهر العسل!

فأما الشهر فلم يكن كشهري وشهرك أيها القارئ، مؤلفا من ثلاثين يوما، أو أحد وثلاثين يوما على أكبر تقدير. بل لقد استطاع الحب (وهو ذلك الساحر البارع) أن يمسه بعصاه، فإذا هو يمتد من أول مايو إلى آخر أكتوبر؛ وإن يوما عند الحب كألف يوم مما تعدون!

هذا ما كان من أمر الشهرّ وأما ما كان من أمر العسل فقد كان أريا شهيا، وشهدا جنيا، وحلاوة وعذوبة ليس وراءهما حلاوة ولا عذوبة، وخمرة سائغة، لم تتناولها بالتحريم شرائع السماء، ولا قوانين الولايات المتحدة.

وظلا غارقين في ذلك البحر الخضم، فلم تنتبه ليلى، ولم تشأ أن تنتبه. وإن كان في الغرقكل هذه السعادة والنعيم، فالويل لمن يفكر في إنقاذ الغرقى!

وسيقول الناس: أن الحب يعمى ويصم، وأنا أربأ بالقارئ أن يكون ممن يرون هذا الرأي، فأن العمى والصم هما (فيما يقال) عاهتان، وما أبعد الحب (وأبعد به) أن يكون مسببا للآفات والعاهات وإنما الصواب أن نقول أن الحب يضع على العينين عصابة من ذلك الطراز الجميل الذي يعصبون به عيني الثور حين يدور بالساقية، فلا يزال يدور ثم يدور، وهو يحسب نفسه قد طاف حول الكرة الأرضية.

وكذلك قد صور الحب لليلى أنها قد طافت العالم وأحرزت الدنيا بأسرها.

كل هذا، والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض مازالت تدور حول محورها المائل المنحرف.

ثم لم يكن بد من أن يجيء اليوم الهائل المحتوم بعد أن ولى الربيع، وذهب في أثره الصيف، وأتى بعدهما الخريف الذي لا يدارى ولا يمارى، بل يظهر الحقيقة عارية مجردة جافة.

وفي يوم من أيام الخريف بسط الدهر يديه القويتين فجأة، وكشف الغطاء عن عيني ليلى! نظرت، فلم تصدق الرؤيا التي رأتها. . أجل وقد حسبتها رؤيا مما يراه النائم الغارق في نومه. وكبر مقتاً عندها أن يكون هذا مما تراه هي. . حتى في الحلم. . . فجعلت تغمض عينيها، ثم تفتحهماّ، مرارا. . . لا الفارق أنها ليست نائمة، وهذا الذي تراه ليس حلما. . هو الحقيقة إذن ? أجل وليس بمجديها أن تحاول إنكارها. . صحيح إذن أنها رضيت أحمد هذا زوجا، وأنه (يا للهول!) قد شغفها حبا فلم تكترث للناصحين والعذال. . رضيت بذلك الكائن الممسوخ زوجا، ليكون لها في الحياة رفيقا وعدة وذخرا. ذلك المخلوق اللين المتكسر الخائر، الذي ليس في قلبه همة، ولا في رأسه نخوة، ولا مطمح له في الحياة ولا مأرب، ولا عزمة له ولا إرادة! أن الناس تصفه ظلما بأنه يشبه النساء، وهذا كذب، بل كفر، بل شر من الكفر. أن النساء أجل وأكرم من أن ينتسب إليهن هذا المخلوق، هذا اللين المستخذي، هذا الناعم الخائر، هذا التافه ذو الوجه (الكارت بوستال). ذو الصورة السينمائية الفاترة، الخالية من كل روح ومعنى.

أيمثل هذا الشيء تجن هي. . ليلى؟ ليلى التي طالما جشم أبوها نفسه وجشمها كل عناء وبلاء في سبيل تأديبها وتثقيفها، لايألو في ذلك جهدا ولا مالاً ولا وسيلة! ألم يهيئ لها الأسباب لتتلقى العلم في مصر على خير أساتذة مصر، وفي إنجلترة في خير معاهد إنجلترة وأعظمها جميعا؟. . أجل وما أشد سرورها يوم ألفت نفسها، وهي بنت النيل، في نيونهام كولدج تتلقى العلم هي وبنات النبلاء جنبا لجنب؛ وكان نجمها الساطع محلقا في السماء لا يعلو عليه نجم، ولها بين صواحبها منزلة ومكانة وشهرة قد جاوزت نيونهام إلى جميع دور العلم بكامبردج؛ وملأ الإعجاب بليلى المصرية صدور الشباب من الطلبة، والشيب من الأساتذة المحنكين. . ولقد طالما حاول الكثير من كرام الفتيان أن يتقرب إليها، فكانت ترده في حزم ولطف وتواضع لم يزدها إلا سموا وتقديرا.

ثم تلك الرسالة البديعة التي كتبتها عن الفلسفة العربية؛ فكانت نصرا باهرا، وتاجا براقا لتلك السنين الخمس، التي قضتها في جد ودأب لا تعرف الدعة ولا الهوادة.

وهبطت مصر، تزدحم في صدرهم الآمال، وتريد أن تتبوأ مكانها بين قومها لكي تعمل على نصرهم وسؤددهم، بكل ما أوتيت من قوة وهمة؛ ولم تجد بأسا في أن يكون لها في جهادها العنيف رفيق يشد أزرها ساعدها. ولم تكن ليلى من النساء اللواتي أغلقت قلوبهم دون الحب برتاج غليظ. . ولكن شاءت المقادير العجيبة أن يكون رفيقها الذي تختاره وترتضيه هو ذلك المخلوق الناعم الخائر، ذلك اللين المستخذي، ذا الوجه الكارت بوستال.

والشمس مازالت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض ما برحت تدور حول محورها المائل المنحرف.

وجلست ليلى وهي تطل من نافذتها، تنظر إلى النيل إذ يندفع تياره من الجنوب إلى الشمال، وإلى أشجار الصفصاف، وقد تدلت غصونها إلى الماء كأنها عبرات تسيل؟ وإلى السحب الحمراء قد خلفها الغروب. ومن دونها الأهرام قائمة على الأفق، وإلى الزهرة في السماء تتألق وترقص بين السحاب.

أدركت ليلى أنها أخطأت. . أجل أخطأت برغم كل ما وعاه صدرها من علم وأدب وحكمة وفلسفة، وارتكاب الخطأ حق طبيعي لكل رجل، بل ولكل أمراءه أيضا. . الحيوانات لا تخطيء، لأنها تصدر في أعمالها عن الغريزة، والغريزة معصومة عن الزلل. أما أبناء آدم وبناته فيصدرون عن العقل، وهو كثير العثرات.

إذن ليس ببدع أن تكون ليلى قد ارتكبت خطأ، وليس بعد الخطأ إلا محاولة الإصلاح. . لكن كيف السبيل إلى إصلاح هذا الخطأ؟ ليست الأمراض سواء في قبولها للعلاج، وليست الأخطاء سواء في قبولها للإصلاح.

حاولت ليلى أن تلتمس الإلهام مما تعلمه من حكمة وفلسفة. ولكنها لم تلبث أن تبينت أن ليس هذا بمجديها نفعا. إن للفلاسفة في هذا الموضوع الخطير آراء قلما تسمن أو تغني. . .

إن (نيتشه) الذي تحبه لم يتزوج و (كانت) العظيم عاش عمره الطويل لم يتزوج، وأبو العلاء لم يجن على أحد، و (شوبنهاور) كثيرا ما كان يؤثر صحبة الكلاب على الخلان والأصدقاء، وسقراط وافلارطون؟. . أولى بها ألا تفكر الآن في سقراط وأفلاطون. . . لا. . ليس بنافعها أن ترجع إلى القدماء، كي يحلوا لها مشكلتها الحديثة. . لا بد لها أن تركن إلى نفسها وأن تعتمد على فلسفتها هي. .

أجل وأن لها في هذا الأمر لفلسفة خاصة، ورأيا ستحاول إنفاذه: أنها سوف تصلح أمر أحمد، وسوف تقوم معوجة، وسوف تجعل منه رجلا. . هذا المرام البعيد، الذي يراه الناس محالا، كانت تحس في أعماق صدرها أنه ليس بمحال، أتراها وفقت إلى العثور على ذلك الحجر العزيز: حجز الفلاسفة فأمست قادرة على أن تحيل الخسيس نفيسا، والدنيء رفيعا؟

كلا! أن ليلى لن تحاول أن تنال بغيتها عن طريق المعجزات بل لقد رأت في أمر زوجها رأيا، حسبته رأيا سديدا، وكان وليد تدبير طويل، وتفكير عميق. . رأت أن أحمد تعوزه الرجولة، في مظهره ومخبره، وفي جسده وفي روحه، في حركاته وتفكيره. وقد عملت أن ليس إصلاح الروح بالشيء اليسير: لكنها تستطيع (على الأقل) أن تكسبه مظهر الرجال. فلتأمره إذن (وهو لها طيع ذلول) أن يلبس الخشن من الثياب: وأن ينعل الخشن من الأحذية: وأن ينطلق إلى ضيعة أبيها فيقيم هنالك شهرين أو ثلاثة أشهر؛ يعمل في حقولها كل يوم، حارثا وزارعا حاصدا، وعليه أن يرسل لحيته وشاربه حتى يغطي الشعر وجهه. . ثم يعود إليها بعد ذلك، وقد لبس حلة الرجولة سابغة شاملة، فمن يد خشنة الملمس، إلى ذراع قوية متينة؛ إلى وجه قد لوحته الشمس يكسوه شارب طويل ولحية مرسلة. أما صوته الناعم الفاتر، فلا بد أن يكتسب شيئا من الخشونة من كثرة ندائه للثيرة، وصياحه خلف المحاريث.

وكانت ليلى تعلم أن هذه كلها ظواهر، ليس فيها نفع ولا غناء، ولكنها كانت مؤمنة بأن إصلاح العرض سيفضي إلى إصلاح الجوهر، الصلاح الإناء وسيلة لإصلاح الشراب؛ وأن أحمد لا يلبث أن يكتسب مظهر الرجولة، حتى تتسرب بعد ذلك إلى لحمه ودمه بفضل ما بين الروح والجسد من رباط متين.

وأحسبها قد اقتبست هذا الرأي من بعض ما درسته من فلسفة وحكمة؛ لكنها كانت أشد أيمانا به من الحكماء الذين قالوا به. وما هي إلا أيام قلائل حتى مضت في تنفيذه، فانطلق أحمد إلى الريف وبقيت ليلى وحدها الليالي والأيام ترقب دورة الفلك؛ والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض ما فتئت تدور حول محورها المائل المنحرف.

وفي مساء يوم عبوس متجهم من أيام أمشير؛ تلبدت السماء بسحاب أسود قاتم، وكان يعدو من المغرب إلى المشرق؛ طبقات بعضها فوق بعض؛ تحمله في السماء ريح عاصف. . وعلى الأرض زعزع نكباء تثير الموج على صفحات النيل، وتهز جذوع الصفصاف هزا عنيفا، وقد ثارت الزوابع تحمل العثير المطار إلى كل عين وكل أنف. . ومشت ليلى نحو النافذة فأغلقتها في بطء شديد وحزن شديد، مطأطئة رأسها في كآبة وكمد. ثم سقطت على سرير ممدود وجعلت تسفك العبرات وتعول بالبكاء. . بصوت لولا دوي الريح لأسمع من بالدار. وما أشد حاجتها في ذلك المساء إلى الوحدة وإلى البعد عن الناس وإلى البكاء تطفئ به ذلك الجحيم المستعمر في صدرها وفي أحشائها.

مسكينة ليلى! إن فلسفتها قد خابت، وتجربتها قد فشلت! وكل هذا التقدير والتدبير والسعي والاحتيال لم يصادف إلا حبوطا أليما، وخيبة قاتلة. إن الداء كان عضالا، والسم قد سرى إلى الرأس والأوصال، والعرق والعصب؛ فاستفحل واستمكن، ولات حين علاج، ولات حين شفاء. .

واختلط الحزن في قلبها، وألح عليها من كل جانب، فليس يدرى أي خطبيها أشد وأقتل؛ فشل تلك التجربة وذلك الرأي السديد الذي حسبته زبدة الحكمة وخلاصة الفلسفة، أم كارثتها في هذا المخلوق الذي بات حتما عليها أن ترضاه، وهو دون الرضى، وأن تعتمد عليه في الحياة، وهو ذلك الرطب العاجز المائع.

لقد فشل تدبيرها فشلا ذريعا، فأن المسكين لم يطق الريف، ولم يلبث أن أسأمه وأضناه، فقضى أيامه هناك بين سقم وبين الإفاقة من سقم، حتى أشفقت عليه ليلى وأذنت له أن يعود. أما ذلك الشعرالقليل الذي نبت على خديه وشفتيه، فلم يك الاغشاءً رقيقا تافها، لم يقربه من الرجولة قيد شعرة.

مسكينة ليلى! أن الرزء الذي رزئته لشديد. ولم يبق لها من وسيلة تتوسل بها سوى الصبر، والصبر أوهى الوسائل. . وما أشد حاجتها لأن يكون لديها من هذه الوسيلة الواهية ذخيرة لا تنفذ، ذخيرة تكفيها العمر كله. . لا بد أن يكون في العالم شهداء يحملون الأرزاء، فلا رأى اليوم إلا أن تكون كأحدهم. ولئن كان رزؤها هذا من صنع يديها، فما أحقها بحمله والاضطلاع به. . مدى الحياة.

لقد سخرت منها المقادير، حين أرتها الحياة حلما زاهيا، وزهرا نظيرا، واليوم وقد آن للزهر أن يحول ثمرا وللدوحة أن تؤتي أكلها، إذا الأقدار تسلط عليها هذا السقم العضال يذويها ويفنيها. لم يبق لها بد إذن من أن تودع هذه الأحلام جوف الثرى، في غير رحمة ولا هوادة، وتستقبل هذا العهد الجديد، عهد الشهداء الصابرين في قوة وجلد.

لا جرم أن الانتقال إلى تلك الحال ليس بالشيء اليسير، ولكن لعل أسابيع تقضيها (هي) في الريف، وتفكير، أن تعدها لهذا العهد الجديد، هذا العهد القاسي الشديد.

ونهضت متماسكة من سريرها، وسارت إلى النافذة ففتحتها، وجلست على كرسي صغير بجانبها. . وجعلت تنظر إلى الغيث وقد أخذ ينهمر مدرارا، وإلى الرياح وهي تميله يمنا وشمالا. .

ثم أخذ ينهمر على خديها مطر (غزير) لم يكن مما أسقطه السحاب، أو دفعته الرياح. .

والشمس من خلف الأفق تجري لا مستقر لها، والأرض ما برحت تدور حول محورها المائل المنحرف.

فيا عجبا لهذا الكوكب السخيف! كيف آثر الانحراف على الاعتدال، والميل على الاستقامة؟