مجلة الرسالة/العدد 220/حقيقة النفس
مجلة الرسالة/العدد 220/حقيقة النفس
هل إليها من سبيل؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان (ويندل هولمز) يقول - ولا يزال، على الأقل في كتابه فقد شبع موتاً من زمان - إن الإنسان في حقيقته ثلاثة؛ وإن (أحمد) - مثلاً - توجد منه ثلاث صور: فهنا احمد كما يعتقد هو في نفسه، وهناك احمد ثان كما هو في رأي محمد، وهناك احمد ثالث هو الذي يتكون من اعتقاده في رأي محمد فيه، وعلى هذا القياس يمكن أن يكون هناك ألف احمد أو أكثر، ولا يكون لأحمد الحقيقي وجود في الواقع، لأنه ضائع بين شخصياته المتعددة، ولأنه هو نفسه قلما يعرف حقيقة نفسه فكيف بمعرفة غيره؟
كنت أفكر في هذا الذي قاله ويندل هولمز لأن صديقاً لي كان يبدو لي كأنه طائفة من النقائض جُمعت وخُلط بعضها ببعض وعُجن التراب فيها بالنار، ثم صيغ من هذا المزيج المتنافر وغيره، مما يخفى علينا، إنسان نعرفه باسمه، ولا نعرف كنهه وحقيقته؛ وابتسمت وقد خطر لي أنه كالمهربات التي يجد رجال الجمارك مكتوباً على صناديقها: (بطاطس) أو (زيتون) ويفتحونها فإذا البطاطس أو الزيتون هناك، ولكن حشوه حشيش أو رصاص أو غير ذلك من المحضورات! وكنت أعجب له هل يدرك، يا ترى، أن له بواطن وظواهر مختلفات، وأنه أشخاص كثر لا شخص واحد، وأن في أعماقه تيارات شتى تتلاقى لتتدافع لا لتتساير؟ فسألته عن ذلك فقال: (إنك لست أقل مني تعدداً، أنت أيضاً لك جوانب كثيرة) فبينت له أني لا أنتقد ولا أعيب، وإنما أريد أن أفهم، فكان مما سمعته منه: (إنك أنت أيضاً لك سيرة في حياتك العامة، وسيرة أخرى في حياتك الخاصة، ولك رأي تذيعه ورأي تضمره، وشخصية تكشف عنها وأخرى تسترها، ونزعة تبديها ونزعة تحجبها؛ أو لعلك لا تتعمد شيئاً من ذلك ولا تفطن إليه ولا تدريه ولكنك على التحقيق تغير جلدك في اليوم الواحد أكثر من مرة)
قلت: (إذن ما حقيقة الإنسان؟)
قال: (حقيقته يعلمها الذي خلقه وركبه فيما شاء من الصور)
قلت: (قد تؤدي هذه الحيرة إلى إنكار المرء لنفسه. أين أنا بين هذه الصور العديد المتناقضة التي تبدو لي كأنها لي؟)
قال: (وما المانع؟)
قلت: (وإذا ضاعت نفسي؟ إذا خفيت عني حقيقتها؟)
فصاح بي وهو يضحك: (إذا؟ تقول إذا؟ إن حقيقتها ضائعة يا صاحبي من قبل أن تفطن إلى احتمال ضياعها! تعال. . . تعال)
قلت: (إلى أين؟)
قال: (وما سؤالك هذه؟ أتكره أن تريح رأسك المتعب أو أن تنظر إلى صورة لجانب من نفسك الخفية المضمرة؟)
قلت: (ماذا تعني؟)
قال: (أعني أن النفس كتاب فيه ورق كثير. . . كثير جداً. . . ولكنه مطوي. . . يحتاج إلى يد تفتحه وتقلب صفحاته؛ هذه الأيدي هي المناسبات والظروف. وكثير من الناس تظل كتب نفوسهم مطوية لأن حياتهم لا تتيح لهم أسباباً تدعو إلى فتح الكتاب والنظر إلى ما فيه. . . وقد تكون نفيسة جداً، ولكنها تبقى مغلفة مجلدة، لأن حياتهم تتدفق بانتظام في مجرى مألوف مثلاً، لا يحوج إلى الرجوع إلى الكتاب والاستمداد من وحيه والاسترشاد بما فيه. . . ملايين وملايين من الخلق هكذا، وتراهم فترى البساطة والوضوح والجلاء. . . لاشيء يبدو خفياً أو معقداً. . . ولكن من يدري كيف يكونون لو أن الكتاب فتح مرة؟ وماذا ترى يبقى حينئذٍ من البساطة والوضوح؟ تعال، تعال).
قلت: (هل لي أن أعرف أي يد ستفتح لي اليوم كتابي وتقرئني بعض ما فيه؟)
قال: (فتاة رشيقة ظريفة تنسيك الدنيا والسعي والكدح وراء الرزق).
قلت: (ومعنا رابع أو رابعة؟)
قال: (رابع: أخوها)
فهممت بسؤال ولكنه زجرني عنه، وقال: (اركب اركب)
وبلغنا البيت فأطلق النفير فأطل الذي هو (أخوها) وصاح: (حالاً. حالاً)
وخرجنا إلى روضة على النيل وكانت جلسة ظريفة وممتعة، نعمنا فيها بالضحك والحديث وأنس المجلس ثم رجعنا، فسألني لما صرنا وحدنا: (ما رأيك؟) قلت: (لا أدري ماذا تستفيد من هذه المجالس إلا الحسرة. أولى بك أن تقصر. . . هو أحجى وأرشد)
قال: (لا أستطيع. إني مدبر فعيني لا تزال تتلفت إلى ما أُوَلَّي عنه. أنت أصغر مني فالذي أمامك لا يزال إن شاء الله أطول مما خلفت وراءك. وهل وراءك إلا الطفولة الغافلة والحداثة الجاهلة والشباب الغرير؟ ولكني أنا ورائي خير ما في العمر. . . فلا يسعني إلا أن أنثني وأتلفت وأدور وأتوقف. غير أني لا أتحسر لأني أصح إدراكاً لحقائق الحياة من أن أفعل ذلك؛ وحسبي متعة النظر ولذة الحديث، ومن متعي أن أرى الشباب كيف يلهو كما كنت ألهو. ولست أحجم عن اللهو إذا تيسرت لي أسبابه وإلا ففي لهو العقل الكفاية)
قلت: (اسمع. إني لا أرى مما يليق بك أن. . .)
فصاح بي: (خل ما يليق بي لي، فإنه شأني. واسمع. إن لي حياتين: حياة العمل وهذه مشتركة بيني وبين الناس وأنا فيها جاد صارم، وحياتي الخاصة وهذه لي وحدي وليس للناس شأن بها فيما لا يمسهم منها. . . لا تعترض. . . إن الناس جميعاً كذلك ومنافق كذاب من يدعي غير هذا)
ومن آرائه أن أهل المدن المتحضرين ليسوا أقل خشونة وجلداً من أهل الريف، ولا أرق ولا أطرى كما يتوهمهم البعض. ومن قوله لي في ذلك: (إنكم تنظرون إلى أفراد معدودين من ذوي اليسار والترف، وتقيسون أهل المدن جميعاً على هؤلاء الآحاد وتنسون أن كثرة الناس من الفقراء الذين لا يكفون عن السعي والكدح في سبيل الرزق ليلاً ونهاراً. . . أين في الريف من يتعب كتعب أهل المدينة؟ أين في الريف من يعدم قوتاً، ويبيت طاوياً كما يبيت الكثيرون من سكان المدن؟ وأين هو هذا الترف في حياة المدينة؟ وليس في المدن رذيلة إلا وفي القرى مثلها؛ ولكن المدن مزدحمة غاصة، وتيار الحياة فيها زاخر، فالعيوب تبدو أبرز. كلا، الإنسان هو الإنسان سواء أكان في قرية سحيقة أم في المدينة، ولكن الحياة في القرية أهدأ وضغطها على الأعصاب وإتلافها لها أخف وأقل؛ فالناس في المدن أطلب للترفيه، وأكثر مصارحة بالرغبة فيه)
وآراؤه في مجالسه العامة غير آرائه في مجالسه الخاصة، فهو مثلاً في حياته العامة لا ينحرف مقدار شعرة عن تأييد التقاليد المقررة، ولا يكف عن الدعوة إلى مغالبة النفس وضبطها وكبحها والحرص على الفضائل الاجتماعية، ولكنه حين يكون بين إخوانه الذين اصطفاهم لا يتردد في المعالنة بإنكار الخير والشر والفضيلة والرذيلة، ويذهب إلى أن هذه كلها أكاذيب يستعان بها على تنظيم حياة الجماعة ووقايتها ما تجره الفوضى؛ ويؤدي إليه إرسال النفس على السجية الساذجة بلا كابح. وعنده أن الإنسان حيوان مصقول لا أكثر، ولكن الصقل لا يمنع أن تطغى عليه حيوانيته إذا استفزها شيء، فلا تعود طبقة الدهان - وإن كانت سميكة - تنفع أو تصد. وما من إنسان في رأيه يحجم عن الشر حتى من غير استفزاز إذا وسعه أن يقدم عليه وهو آمن. وكل امرئ يشتهي أن يكون له مال الأغنياء، وقوة الأقوياء، وسطوة الحاكم، وبطش الظالم، وفجور الفجار؛ ولكنه يقيس قدرته إلى شهوته فبطلب ما في طوقه، ويقصر عما عداه، وتفعل العادة والنظام المألوف والشرائع فعلها أيضاً.
ولست أعرفه مشى في جنازة أو بكى على ميت، فأن هذه عنده سخافة. وحبه مع ذلك للحياة وجزعه من الموت أقوى ما عهدت، ووفاؤه لإخوانه وحدبه ورقة قلبه من الفلتات المفردة في هذه الدنيا. وهو حين يذكر نظرية قديمة ظهر بطلانها وعفي عليها الزمن، يخيل إليك أنه يؤبن ميتاً على قبره من فرط شعوره بالزوال؛ وإذا سمعته يبين فساد رأي رأيته يترفق بالرأي ولا يعنف في تفنيده كأنما يتقي إيلامه وجرحه.
وقد قلت له مرة: (إنك تهدم بيد ما تبني بالأخرى) فقال: (كلا، فإن الذين أصارحهم بما انطوي عليه من الآراء الخاصة - أو على الأصح أدع نفسي تتفتح على هواها بلا كابح في حضرتهم - يسعهم أن يفهموا ويقدروا، بل أن يهتدوا إلى أصح وأصدق من آرائي؛ أما سواد الناس فأصلح لهم أن يبقوا على التقاليد، وأن تتحدر حياتهم في المجاري المقررة المحفورة من قديم الزمان، وإلا ارتدوا إلى الهمجية. ثم إني أخشى أن أكون مخطئاً فكيف أستبيح أن أزلزل للناس نفوسهم؟ ألا يمكن أن يكون الناس على صواب وأكون أنا الذي ركبت من الغلط أبلد الحمير؟ جائز. . . كل شيء جائز).
صحيح! كل شيء جائز! ولهذا تضيع الحقيقة.
إبراهيم عبد القادر المازني