مجلة الرسالة/العدد 221/القصص
مجلة الرسالة/العدد 221/القصص
من أساطير الاغريق
غرام أورورا
للأستاذ دريني خشبة
رأته على رمال الهلسبنت يرتع ويلعب، فوقفت تملأ عينيها وقلبها بجماله، ثم نظرت إليه وهو يداعب البحر المضطرب، ويتواثب فوق عبابه الزاخر، فسحرها قوامه، وفتنتها قسماته، ونسيت أنها ربة الفجر الوردية الهيفاء، وأن من ذكران الآلهة من هو أكثر من هذا الشاب تيتون - بن بريام ملك طروادة - جمالاً وأشد فتنةً وأخلق بحب ربة جميلة لعوب مفتان، مثل أورورا. . . ولكن ماذا يصنع أهل هذا العالم في قلوبهم، ولا سلطان لأحدهم على فؤاده؟ يستوي في ذلك الأرباب وغير الأرباب
لقد كان تيتون يتقلب بين الموج، فتتقلب نفس أورورا في جحيم من الهوى، وتتلظى في سعير من الحب، وتنجذب نحو الفتى الجميل المفتول بكل ما فيها من نورانية وقداسة. . . وكان يبرز من الماء ليستجم على الشاطئ الناعم الوادع، فتكاد تجن به، وتود لو ترشف قطرات الماء التي تنحدر على جسمانه ذي العضل وتتلألأ في ثنايا شعره الأسود الفاحم
وطفقت توسوس لها نفسها المغرمة بالأماني! وتزخرف لها الأحلام، فصممت أن تتكشف له، وتتبرج على مقربة منه، وتدل وتميس، عسى أن تأسر لبه، وتسبئ قلبه، فيسلس قياده، وينخذل فؤاده، دون مشقة أو عناء. . . ولكن تيتون أبى، واستكبر قلبه أن يلين؛ ولم يستطع ذلك المرمر الناصع الذائب في ساقيها، ولا هذا الورد المتفتح في خديها، ولا الأبالسة الراقصة في عينيها وفوق ثدييها، أن ترقق من عناده، أو تنتصر على فؤاده، أو تسكب في نفسه صبابةً أو هوى
- إذن أنت ما تشتهي!
- أشتهي ماذا أيتها الغادة؟ أذهبي فاعرضي مفاتنك الرخيصة على غيري!
- ومن أنت حتى تكلم أورورا ربة الفجر هكذا؟
- أورورا؟ كيف؟ ما يدريني؟ - أجل، أنا أورورا. . . انظر
وأخذت ترف في الهواء، وتسبح في السماء، وتغوص في الماء، وتأتي من آيات الإعجاز ما بهر تيتون
- الصفح إذن يا ربة؟!
- لا صفح إلا أن تهب لي حبك، وتلقي بين يدي قلبك!
- وكيف، وأنا بشري عاجز، ولا ألبث أن أفني في بضع سنين، وهذا أبي الضعيف الشيخ قد خطب لي حسناء من بنات الملوك؟
- (أما أنك عاجز فلا؛ وأما أنك لا تلبث أن تفنى في بضع سنين فسأهبك الخلود، وسيخلعه عليك زيوس سيد الأولب فلا تموت أبداً، بل تحيا كالآلهة إلى لا نهاية الأزل؛ وأما أبوك الضعيف الشيخ فلا أحب إليه من أن يراك في كل ما ذكرت، ولا سيما إذا علم أنني سأكون لك من دون هذه الفتاة التي خطبها لك، والتي لا تلبث أن يخط الشيب رأسها، ويعصر الزمان عودها فتجف، وتذوي، وتحملها أنت كأثقل الأعباء إلى القبر. . . حيث الدود والذباب، والكلاب والذئاب. . .)
- ولكن. . . ألا تأذنين لي في لقاء أبي؟
- لن يكون هذا أبداً. . .
- هذه قسوة يا ربة!
- ستفتنك هذه القسوة بعد قليل
وانطلقت تداعبه وتلاعبه، وتضاربه وتقالبه، حتى زالت عنه وحشته، فأنس إليها، وأقبل بكل مشاعره عليها، واتفقا على الرحيل من فورهما إلى اولمب، فانطلقا يطويان الرحب
- من هذا يا بنية؟
-. . .؟. . .
- صيد جميل، ومجازفة جديدة؛ أليس كذلك؟
- أجل يا أبي، وليست مجازفات أبنائك أروع من مجازفاتك
- مجازفاتي أنا؟ أية مجازفات يا أورورا؟
- مجازفاتك الغرامية التي لا تحصى مع الغيد الرعابيب من عبادك - أي غيد رعابيب يا أورورا؟ جراءة بالغة!
- لعل الإله الأكبر، سيد الأولمب، قد نسى! على كل حال فسيدة الأولمب حيرا العظيمة لا تنسى. . . لقد شهدتك تلهو مع يو، وتعبث مع لاتونا، وتتساقى كؤوس الغرام مع يوروبا. . و. . . و. . .
- أسكتي. . . إنك ابنة لا خير فيك. . . وماذا تبتغين لهذا الشاب الغرانق الجميل يا أورورا؟
- الخلود. . . الخلود يا أبي. . . ينبغي أن يعيش أبداً. . . لن يموت. . . لن يموت. . . ألا تراه جميلاً يا أبتاه؟ ألا تبهرك منه وسامته وقسامته؟ ألا تنظر إليه كيف هو عبل قوي عبقري سمهري؟ لقد لقيته عند شاطئ الهلسبنت، ورأيته يشق اليم فعلقه قلبي، وهويته نفسي. . . وكان الموج يلفه في أعرافه، ثم يسجد تحت قدميه كأنه يقبلهما، فلما خرج من الماء، رأيت الدنيا كلها تحف به، وتغازله وتناغيه، فلم أر أن يفوز به غيري، ولا أن يستأثر بجماله سواي، وقد رضى أن يتبعني إلى أولمب، فتفضل يا أبتاه وامنحه الخلود، فالموت لمثل هذا الجمال قسوة هائلة، وذبول هذا الحسن شيء مخيف جداً. . . ينبغي أن يعيش إلى الأبد حبيبي تيتون. . . أليس كذلك يا أبي؟ أليس كذلك؟ أليس خليقاً بالخلود كالآلهة؟
وتقدم تيتون فسجد بين يدي سيد الأولمب، وتفضل رب الأرباب فمنحه الخلود. . . وا أسفاه! ألا ليته ما فعل. . . ألا ليته ما فعل؟!
قال زيوس وهو يحدث نفسه:
(أذهبي يا أورورا، سأعذبك بهذا الحبيب، وسأنتقم لكبريائي منك، وسيكون تيتون عبئاً ثقيلاً على قلبك، وسيعيش إلى الأبد بجانبك كما اشتهيت، وسأعلمك كيف تستحبين أن تكلمي أباك كما فعلت. . . فوعزتي وجلالي لأعذبنك بألف حبيب وحبيب!)
وعاشت أورورا مع حبيبها أحسن عيش وأجمله، واستمتعا بسنين كانت أشهى من الأحلام، وأنجبا طفلهما اليافع الجميل ممنون فكان لهما كالقبلة الحلوة فوق ثغر الحياة الباسم
ومرت الأيام، وأورورا جميلة وردية كما هي، لأنها ربة، ولأن قوانين الزمان من قدم وحداثة لا تجوز على الآلهة لأنه لا أول لهم ولا انتهاء؛ فأورورا جميلة دائماً، وردية أبداً لا يني قلبها يخفق بالحب وينشده، ويهيم بالجمال ويفتقده، ونفسها عاشقة وامقة كذلك، وإن أماني الغرام تجيش في صدرها دواماً، فهي إن خلت إلى حبيبها تيتون ألزمته فنوناً من العزل، وضروباً من النجوى، إذا صبر لها الشباب، واحتملها الصبا، فليس المشيب بصابر لشيء منها، ولا محتمل القليل الأقل من تكاليفها، ولا له جلد على أفانينها
- ما هذه الشعرة البيضاء التي بزغت في سواد شعرك كما تبزغ نجمة الفجر في أخريات الليل يا حبيبي؟
- (أية شعرة بيضاء يا أورورا؟ ربما كانت نذير المشيب يا حبيبتي!
- (المشيب؟! كلمة غريبة لم اسمعها إلا منك! ماذا تعني؟
- آه! أنتم معشر الآلهة لا تعرفون المشيب، أما نحن، معشر البشر، فسرعان ما يذهب صبانا، ويولي شبابنا، فنشيخ ونهرم، وتصبح لنا رؤوس مجللة بشعر أبيض يشبه إبر الشوك، يقول الشعراء إنه نور قبيح يسعى بين أيدي الكهول ليشق لهم ظلام القبور!!
- يا للهول؟ إن هذا الضرب من خيال الشعراء يخيفني!
- اطمئني! أنا باق إلى جنبك آخر الدهر. أليس قد وهبني الخلود سيد الأولمب؟
- بلى! ولكن. . .
- لكن ماذا؟
- هذه الشعرة البيضاء التي قال فيها شعراؤكم ما قالوا؟
- الشعرة البيضاء؟ ما لها هذه الشعرة البيضاء؟ ليست شيئاً ما دام سيد الأولمب قد وهبني الخلود؛ إن الذي أفزع الشعراء من الشيب هو ما ينذر به غروب شمس الحياة!
- ولكن الشعرة البيضاء تنذر بأكثر من هذا؟
- آه! قد فهمت ما يوسوس في صدرك؟ ألم أعد جميلا يا أورورا؟
- بل أنت ما تزال جميلا يا حبيبي.
- إذن لا عليك من هذه الشعرة البيضاء.
وتمتعا سنوات أخريات؛ ولكن الشعرة البيضاء أصبحت شعرات وشعرات، حتى غلب نور المشيب حلك الشباب؛ ولم تعد لطرة تيتون المصفوفة تلك النضارة وهذه اللمعة، وذلك السحر الذي كان يرف مع النسيم على جبينه المشرق الناصع فيثير الغرام في قلوب العذارى. . . بل حال لونها الأسود الفاحم، ونبت فيها قتاد شائك تنفشه الرياح على جبين متغضن بآسر ذي أسارير، يبعث الرهبة في أفئدة العفاريت!
- تيتون!
- نعم يا حبيبتي!
- لا! لا! لا تناديني بهذا النداء.
- ولمه؟
- لم يعد يصلح. . . لقد اشتعل رأسك شيباً، وتغضن جبينك، وترهل خداك وبرزت عظامهما، وغارت عيناك جداً وانطفأ فيهما بريق الشباب الغض، والصبي الغريض. وعضلاتك لقد عصرتها السنون يا تيتون! وي! مالك تنحني هكذا؟ هل ضاعت منك درة ثمينة، فأنت تبحث في أديم الأرض بعكازك هذا الغليظ؟ آه! بل ضاع منك شبابك أيها الشيخ الهرم فأنت تبحث عنه في هذا الثرى!
- حسبك يا أورورا. . . حسبك يا ربة!
- (لا، أبداً، ليس حسبي، أغرب عني أيها المسخ الشائه ظل في عقر الدار حتى أرتد إليك!!
وانطلقت ربة الفجر الوردية غاضبة صاخبة، وذهبت تطوي الفيافي وتهيم في الرحب، حتى كانت من غير قصد عند شاطئ الهسبنت، حيث لقيت لأول مرة حبيبها الجميل الشاب تيتون أبن بريام ملك طروادة، منذ نصف قرن من الزمان!! أواه تيتون!! يا للذكريات الحلوة التي تطيف بالقلب كما تطيف أطيب الأحلام بعيني نائم!! هنا، على رمال ذلك الشاطئ الهادئ، وبين طيات ذلك الموج الذي يبدو كأنه لم يتغير، رأت أورورا الوردية تيتون البارع، وشعره الأسود الفاحم يتهدل على جبينه الوضاح، ثم لا يلبث أن يستوي حين تمر عليه أمشاط الأمواج. وهنا. . . ثارت عاصفة الغرام القديم في قلب ربة الفجر الوردية لأول مرة، وشب لظى الحب ملء جوانحها. . . وفوق هذه الرمال السافيات تكتشف أورورا لتيتون الفتى لتخلب لبه وتملك عليه قلبه، ولكنها ما استطاعت إلى ذلك من سبيل، حتى تقلبت تحت قدميه، وتبرجت بين يديه، فرضى ما عرضت عليه، وانطلق معها إلى أولمب! فما لها اليوم غاضبة على تيتون؟ مشت على شاطئ غرامها الأول فثارت في فؤادها الذكريات وأرسلت عينيها تفتش بين طيات الموج الجياش عن تلك الصورة الحبيبة الرائعة، التي تطفو هناك. . . هناك فوق ذاك الثبج كحلم جميل. . . صورة تيتون وهو يصطرع مع اليم فيصرعه، ويغالب اللجة فينتصر عليها. . . ثم جلست على صخرة مشرفة على البحر الممتلئ بالذكريات. . . وطفقت تبكي!
لا ريب أنها عنفت نفسها على ما صنعت أمس مع تيتون! ما ذنبه؟ ما جريرته؟ بأي حق تنعى عليه شيبته ولا يد له فيها؟ ولماذا تخزه بقوارص الكلام لأن جبينه تغضن وأمتلأ بأسارير الكبر؟ ولماذا تعيب عليه عينيه الغائرتين المنطفئتين؟ ولم تذكره بشبابه وتتهكم عليه فتقول له إنه يبحث عنه بعكازة في التراب؟
لا ريب أنها كانت قاسية، ولا ريب أنها لامت نفسها، لأن كل تلك الأفكار ترددت في أعماقها؛ وقد سألت روحها المتألمة ألف سؤال فلم تستطع أن تراها محقة فيما صنعت. . .
وعادت أورورا أدراجها إلى تيتون البائس الهرم فهشت له وبشت، وراحت تملق له، وتتحايل على قلبها ترجو لو تستطيع ن تخدعه فيسيغ هذه الكومة المتراكمة من القبح والشوه والدمامة؛ قبعت في ركن سحيق تحمل أوضار السنين وتنوء بكارثات الليالي
ولبثت تتغفل نفسها بضع سنين؛ ولكن للآلهة كما للبشر قوة محدودة من الاحتمال، ومدى غير واسع من الصبر؛ وقد جاهدت أورورا نفسها مجاهدة طويلة شاقة، عادت بعدها إلى التبرم بتيتون، والضيق بشيخوخته الثقيلة، والنقمة على تلك اللحظة الأسيفة التي لقيته فيها، ونوبة الجنون التي جعلتها تتورط لدى سيد الأولمب فتسأله أن يهب حبيبها نعمة الخلود
- وفيم كل هذا الحزن يا أختاه؟
- وما العمل للخلاص منه؟
- أنت المخطئة، ذلك لا ريب فيه
- مخطئة! وكيف؟ هل كنت علمدة أن أقصد إلى الهلسبنت لأراه ثمة؟
- أبداً وليس هذا ما عنيت
- إذن كيف كنت مخطئة؟
لأنك سألت سيد الأولمب أن يهب حبيبك الخلود، ونسيت أن تسأليه أن يديم له شبابه، ويحفظ عليه صباه. إذن كنت تمتعت بجماله الفتان أبد الحياة!! أليس كذلك يا أورورا؟
- بلى، هو ذاك ولكن. . . لقد سبق السيف العذل!
- على كل حال هناك من هو أجمل من تيتون فلا تبتئسي
- أجمل من تيتون؟ وكيف الخلاص من تيتون قبل كل شيء؟
- (لا أيسر من ذلك، إسحريه!
- أسحره؟! آه، أسحره؟ فكرة يا أختاه! ولكن من هو هذا الشاب الوسيم الذي عنيت أنه أجمل من تيتون؟
- وي! لابد من صيد آخر قبل أن تطلقي سراح الصيد القديم؟!
- لا بد يا أختاه لابد؟
- إذن فاذهبي إلى جبل هيماتوس حيث يرعى سيفالوس الجميل قطعانه!
- (ثم. . .؟
- ثم عودي فاسحري تيتون واخلصي منه!
- وماذا ترين أن أسحره إليه؟
- إنه عجوز هرم يدب على عكاز. . . ألا تسحرينه (نطاطا)؟
- بلى! فكرة أخرى نابغة يا أختاه!
ولقيت أورورا حبيبها الجديد سيفالوس الراعي فهويته وشغفته حبا؛ أما تيتون فيا ويحه، ويا ويح للعشاق من قلوب العذارى!
إنه ما يزال إلى اليوم يثب مع آلاف الجنادب في الحقول والغيطان بعد إذ سحرته أورورا
دريني خشبة