مجلة الرسالة/العدد 221/رواية المصدور
مجلة الرسالة/العدد 221/رواية المصدور
تأليف الأستاذ كرم ملحم كرم
للسيد جورج سلستي
أطلت القصة الحديثة على الأدب العربي مستحيرة الوضاءة مكتملة العناصر والتكوين، فهفت إليها الأبصار هفوها إلى الجمال المتألق الضاحي، وتعلقتها الأفكار تعلقها للجديد المستطرف الأخاذ، وتشربتها النفوس بلذة وشغف؛ ونفوس الأدباء أبداً ظمأى للخمرة العلوية يترع الفن بها أقدامهم فيعبون منها ولا يرتوون
والقصة اليوم - وهي تتبوأ الذروة في الأدب - رسالة من رسالات الفكر النير يزفها هدى للناس فنان ملهم، ومشعل من مشاعل الثقافة الشاملة يحمله للورى عبقري فذ؛ رسالة تمشي بالناس نحو هدف من أهداف الإنسانية الكبرى، ومشعل ينير لهم من خفايا نفوسهم ما يجهلون.
فلا غرو إذن - وللقصة هذا المقام الرفيع - إن رأينا أدباءنا يعالجون فنها الساحر على ضوء النظريات الحديثة، ويقدمونها للقراء نتاج ما وصلت إليه قرائحهم من قدرة على تفهم أسرار النفس البشرية الغامضة، واستطاعة على الإبانة عن الشعور بالحق والحب والجمال.
والأستاذ كرم ملحم كرم استهوته القصة وهو أديب ناشئ طرير العود، وقد طلع على الناس بمجلته الروائية الأسبوعية (ألف ليلة وليلة) وهو محرر في جريدة (الأحرار) فعرفنا به أول أديب في قطر الشام وقف جهوده كلها في سبيل الفن الروائي. وهو لا يزال منذ عشر سنوات خلت حتى اليوم يتحف الأدب بروايات شائقة جلها يمت إلى القصص العالي الرفيع، ولا سيما الموضوعة فقد بلغ الكثير منها في الحوار والتحليل وسرد الوقائع شأواً بعيداً في الجودة
و (المصدور) قصة إنسانية، وقائعها مستمدة من صميم الحياة، محورها الحب الشهيد وقطبها العاطفة المقهورة، تتلخص في أن طالباً من أبناء الموسرين هام بحب قروية عذراء أهلها خدم في أملاك أبيه في ضواحي المدينة، وهامت هي به كذلك دون أن يأبها الهوة السحيقة التي تفصل بين مقاميهما. وعاهدها على الزواج مهما اعترضته العراقيل، وعاهدته على الوفاء حتى الموت
وهنا يبدأ النضال الشريف في سبيل الحب الطاهر الوثيق بين القلبين الكبيرين، ومن هنا تبدأ الآلام النفسانية المرهقة التي لا تنتهي إلا بمأساة فاجعة
فأهل الحبيب المعمود لم يكادوا يدرون بما يتأجج في فؤاده من هوى مبرح لربيبة نعمتهم حتى ثارت ثائرتهم، وحتى راحوا ينهون فتاهم عن هذا الحب الأعمى الغرار تارة باللطف والحسنى، وطوراً بالتهديد والوعيد، وحتى حالوا بينه وبين تردده على أملاك أبيه في (نهر الكلب) مسرح حبه ومرتع أمانيه
وأهل الفتاة الولهى ما علموا بهوى ابنتهم لابن سيدهم ومولاهم حتى خشوا أن تحل بهم النكبات من جراء هذا الحب المتهور الطائش، ويطردهم أسيادهم من المزرعة التي صرفوا فيها سني حياتهم الهانئة على ما فيها من عناء ووصب، فزجروا الفتاة وعنفوها وزينوا لها حب أبناء القرى العف البريء من المآثم، ونعوا عليها حب أبناء المدن المتقلب الأرعن المليء بالجرائم، فما كانت لترعوى عن غيها في رأيهم وضلالها
ورأى الأهل جميعاً أن يلجئوا إلى الحيلة والإكراه فأوهموا الفتاة أن ابن سيدها الذي تجرأت فرفعت إلى عليائه عينيها الخاطئتين قد تزوج ولم يعبأ بوعوده لها ولا بعهوده، وأرغموها على خطبة من لا ينبض بحبه فؤادها الموله، فاسودت في نظرها الحياة، وآثرت أن تترهب على أن تزف لغير الحبيب ففرت إلى الدير بعد أن وضعت بعض ثيابها على ضفة النهر في يوم عاصف الأنواء لتوهم أهلها أنها انتحرت
وضللوا الفتى، فقالوا له إن فتاته خطبت إلى فتى من بيئتها أليق بها منه وأنها ستتزوج في العاجل بعد قليل، وأنها سعيدة كل السعادة في حبها الجديد لخطيبها الفلاح
وحتموا عليه أن يتزوج بالفتاة التي انتقوها له لينعم، فرضخ لإرادتهم القاهرة وبنى بابنة بيت رفيع العماد ليشقى!
ولم يلبث أن عاف زوجته واجتوى منزله، وراح ينفق ماله ويبذل شبابه بين الأقداح والغواني لينسى حبه الشهيد البكر، فهزل جسمه وانكفأ لونه من الإدمان في الشراب والإسراف في طلب الهوى الأثيم؛ وما زال كذلك حتى عراه السقام، وعشش في صدره السل الوبىء في مصح ظهر الباشق بلبنان التقى الحبيبان على غير ميعاد بعد طول البعاد لقاءً مراً على حلاوته الظاهرة، فتى ينفث رئتيه، وراهبة نذرت نفسها لله تعتني بالمرضى من عباده البائسين. فآسته بحنانها في أيامه القلائل المعدودات؛ وبين يديها الطاهرتين، وعلى مرأى من الأبوين الجانيين، فاضت روحه إلى باريها تشكو جور الآباء وجنايتهم على الأبناء
هذه هي القصة بظاهرها، وهذا هو هيكلها؛ أما روحها، أما التحليل الدقيق لنفسيات أبطالها، أما المواقف الغرامية العذرية، وأما ما يتخللها من مفاجآت حادة عنيفة ولطيفة رفيقة معاً، وأما السبك المتين والوصف الأنيق، فهذا ما ملأ به الأستاذ كرم مائتي صفحة تقرأها مندفعاً وأنت تود ألا تنتهي؛ وهذا ما أود من القراء الكرام أن يستمتعوا بمطالعته مثلي، وينعموا في لذة قراءته كما نعمت، فليس الخبر كالخبر، ولا السماع كالنظر
قوام القصة اليوم المقدرة على سرد الحوادث في حينها وعلى تحليل أبطالها تحليلاً نفسانياً متقناً وعلى الإبانة عن هذين العنصرين الرئيسيين - السرد والتحليل - بالأسلوب الشائق الممتع، واللغة الصحيحة الفصيحة من غير ركاكة ولا إسفاف
والأستاذ كرم لم تغب عنه هذه الحقائق عندما كتب (المصدور) فوضعها نصب عينيه فوفق بذلك إلى حد بعيد
وإن يكن من شيء آخذه عليه في هذا الصدد فهو صورة زوجة شفيق بطل القصة؛ فقد جاءت مشوهة لا يرضى عنها الذوق الفني.
فشفيق مال بعد زواجه القهري إلى الدعارة والشراب يدفن فيهما إخفاقه وآلامه، وهذه. ثورة من ثورات النفس الجامحة، ونزوة من نزوات اليأس القاتل التي تجتاح من كان مثل شفيق وفي حالته، ولكن ما بال زوجته تنحدر إلى مثل هوته وهي التي لم ترغم على الزواج منه كما أرغم هو؟ وما بالها تتمرغ في مثل حمأته وقد بنت به بمطلق رضاها.
أما الأسلوب في القصة فشائق جذاب، ولغته متينة عالية وألفاظه عذبة منتقاة وليس فيها من الخطأ اللغوي إلا النزر اليسير
وما كنا نرغب أن نتعرض لذكرها لولا ضننا بهذا السفر النفيس أن تعلق به أمثال هذه الهنات.
قال المؤلف: (حازت منها نظرة دميعة) وصوابها: دمع أو دمعة يقال: امرأة دمعة ودمع بغيرها إذا كانت غزيرة دمع العين ورجل دميع.
(الحب البئيس) صوابها: البائس من بئس الرجل إذا نزل به عدم أو بلية يرمم لها؛ وأما البئيس فمن بؤس الرجل إذا اشتدت جرأته فان كان هذا مراده فلا غبار عليها.
(العيش المرير) صوابها: العيش المر.
(نواحها الفجيع) صوابها: الفجوع من صيغ المبالغة أي الكثير اللهفة والأسف أو فاجع اسم الفاعل.
(زوجها المجندل أمام الموقد) صوابها: المجدل بتشديد الدال ومعناها المصروع على الجدالة من جدل الفارس قرنه أي رماه على الأرض الصلبة.
على أن أمثال هذه الهفوات اليسيرة لا تذهب برونق الكتاب ولا تنقص من قيمته. ويقيننا أن كرماً سيتداركها في الطبعة التالية إن شاء الله.
جورج سلستي