مجلة الرسالة/العدد 223/ياقوت

مجلة الرسالة/العدد 223/ياقوت

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 10 - 1937



للأستاذ محمد كرد علي

كان مولد ياقوت عبد الله شهاب الدين في بلاد الروم سنة 574 وأخذ أسيراً وهو صبي فقيل له الرومي، واشتراه في بغداد تاجر يعرف بعسكر الحموي فنسب إليه فقيل له ياقوت الحموي أيضاً. ونشأ نشأة إسلامية فجعله سيده في الكتاب يتعلم ما يستفيد هو منه في ضبط متاجره، وقرأ شيئاً من النحو واللغة، وشغله مولاه بالأسفار ثم أعتقه في سنة 596، فاشتغل بالنسخ بالأجرة، وحصل بالمطالعة فوائد، وعاد مولاه فأعطاه شيئاً وسفره إلى كيش وعُمَان؛ ولما عاد ياقوت من سفرته كان مولاه قد مات، فأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به، وبقيت بيده بقية جعلها راس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً، وسهل عليه بتجارته أن يطوف الشام والعراق والجزيرة وخراسان، واستوطن مرو ودخل خُوارَزمْ وغيرها، أو كما قال عن نفسه إنه جاب البلاد ما بين جيجون والنيل. وأقام مدة في حلب عند الصاحب الأكرم القفطي المصري وزير حلب، وأهدى إليه كتاب معجم البلدان، وفي حلب مات سنة 626هـ

لقي ياقوت في حياته هناء وشقاء، شهد وقائع التتر في خراسان، ووصف ما فعلوه في بلاد الإسلام، وانهزم منهم لا يلوي على شيء، وفقد ثروته حتى عد من المفلوكين. وكان مرة في دمشق فناظر بعض من يتعصب لعلي بن أبي طالب، وجرى بينهم كلام، فثار الناس عليه ثورة كادوا يقتلونه فسلم منهم، وخرج من دمشق منهزماً إلى حلب. وقال عن نفسه إنه كان قدم نيسابور في سنة 613 وهي مدينة الشاذياخ فاستطابها، وصادف بها من الدهر غفلة خرج بها عن عادته، واشترى بها جارية تركية ما رأى أن الله تعالى خلق أحسن منها خَلقاً وخُلقاً، وصادفت من نفسه محلاً كريماً، ثم أبطرته النعمة فاحتج بضيق اليد فباعها فامتنع عليه القرار، وجانب المأكول والمشروب حتى أشرفت نفسه على البوار، فأشار عليه بعض النصحاء باسترجاعها فعمد لذلك، واجتهد ما أمكن، فلم يكن إلى ذلك سبيل، لأن الذي اشتراها كان متمولاً، وصادفت من قلبه أضعاف ما صادفت منه، وكان لها إليه ميل يضاعف ميله إليها، فخاطبت مولاها في ردها على ياقوت بما أوجبت به على نفسها عقوبته، فقال في ذلك قصيدة منها: أئِنُّ ومن أهواه يسمع أنتي ... ويدعو غرامي وجده فيجيب

وأبكي فيبكي مسعداً لي فيلتقي ... شهيق وأنفاس له ونحيب

ومن جملة ما ألف ياقوت من الكتب ثلاثة مطبوعة، أولها (معجم البلدان) وثانيها (المشترك وضعاً والمختلف صقعاً) وثالثها (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) أو طبقات الأدباء. رتب معجم البلدان على حروف المعجم وذكر فيه أسماء البلدان والجبال والأودية والقيعان، والقرى والمحال والأوكان والبحار والأنهار والغدران والأصنام والأوثان مضبوطة بالشكل. واعتمد في تأليفه على من كتب قبله في الجغرافيا من العرب، وعلى اللغويين ودواوين العرب والمحدثين وتواريخ أهل الأدب، والتقط من أفواه الرواة وتفاريق الكتب، وما شاهده في أسفاره وحققه بنفسه من أسماء البلدان ما عظمت به فائدته. وفي كل ما كتب ظهرت إجادته وما ينقله عن غيره قد يكون فيه نظر، ويتبرأ هو من عهدته. فقد قال مثلاً في مدينة الصفر: ولها قصة بعيدة من الصحة لمفارقتها العادة، وأنا بريء من عهدتها، إنما أكتب ما وجدته في الكتب المشهورة التي دونها العقلاء. وقال فيما نقل عن الصين: هذا شيء من أخبار الصين الأقصى ذكرته كما وجدته لا أضمن صحته، فإن كان صحيحاً فقد ظفرت بالغرض وإن كان كذباً فتعرف ما تقوله الناس، فان هذه بلاد شاسعة ما رأينا من مضى إليها فأوغل فيها وإنما يقصد التجار أطرافها. فكأن ياقوت بما ينقل من الأوهام والخرافات إلى جانب الحقائق الثابتة يريد ألا يخلي كتابه من كل أطروفة ولو كانت سخيفة ليستفيد منه الجاهل، ويتفكه به العالم، ويتعلم المتعلم الأديب، ويقتبس الباحث. وتوسع خاصة في الكلام على المدن التي أنشأتها العرب وحرص على الإلمام بأخبار فتوح البلاد وحاصلاتها وأموالها وعمرانها وعادياتها ومصانعها وأخلاق أهلها، وما وقع فيها من الوقائع التاريخية المهمة وما قيل فيها من الأشعار البديعة، فأمتع قارئه بكل مفيد، بحسب ما وصل إليه علمه وعلم جيله، أو قرأه في كتاب، أو استقراه بنفسه ونقله عن الثقات. وهذا القسم جماع ما في معجمه مما أدركه في عصره، أو اقتبسه من الأصول المتقنة في خزائن مرو، قال: وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مجلد وأكثر، وبغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار. وما كان يفارق مرو لولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد، وما كان لهم من الأثر القبيح في خرابها. ويتألف من الأبيات والقصائد التي استشهد بها ياقوت في معجم البلدان ديوان جميل، يحوي كل ما يفيد من رائق الشعر، وكذلك من عجائب البلدان الخليقة وأخلاق الناس، ودرجة الرفاهية والثروة في عصره، وأفاض في كلامه على البلدان بذكر من خرج منها أو نسب إليها من الأعيان، ولا سيما رجال الحديث. وكتابه خاص ببلاد الإسلام والشرق وذكر بعض أسماء المدن في بلاد الإفرنج وهو يتحفظ فيما ينقل عن حال البلاد الأخرى. ومما قال في الروم: (وفي أخبار بلاد الروم أسماء عجزت عن تحقيقها وضبطها فليعذر الناظر في كتابي هذا، ومن كان عنده أهلية ومعرفة، وقتل شيئاً منها عليَّ، فقد أذنت له في إصلاحه مأجوراً)

أما كتاب (المشترك وضعاً والمفترق صقعاً) فقد انتزعه بنفسه من معجم البلدان، واقتصر فيه على ما اتفق من أسماء البقاع لفظاً وخطا، ووافق شكلاً ونقطا، واقترن مكاناً ومحلاً، توفيراً لوقت المطالع الذي يحب السرعة في تلقف الفوائد، وبعداً به عما ذكره في معجمه الكبير من الاشتقاق والشواهد والنكت والفوائد والأخبار والأشعار. ودعا ياقوت على من يختصر بعده كتابه معجم البلدان، وما خلا مع هذا من بضعة مؤلفين حاولوا ذلك وفيهم صفي الدين عبد المؤمن سمى مؤلفه (مراصد الاطلاع) قال ياقوت في الكلام على اختصار كتابه: اعلم أن المختصر لكتاب كمن أقدم على خلق سويّ فقطع أطرافه فتركه أشل اليدين أبتر الرجلين، أعمى العينين، أصلم الأذنين، أو كمن سلب امرأة حليها فتركها عاطلاً، أو كالذي سلب الكمي سلاحه فتركه أعزل راجلاً. وقد حكي عن الجاحظ أنه صنف كتاباً وبوبه أبواباً، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: يا هذا إن المصنف كالمصور، وإني قد صنفت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما، أعمى الله عينيك، وكان لها أذنان فصلمتهما، صلم الله أذنيك، وكان لها يدان فقطعتهما، قطع الله يديك، حتى عدَّ أعضاء الصورة. فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار، وتاب إليه عن المعاودة إلى مثله

بقي أن نطلق القول في كتاب ياقوت الثالث وهو (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وقد جمع فيه ما وقع إليه من أخبار النحويين واللغويين والنسابين والقراء المشهورين والإخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين والكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة وأرباب الخطوط المنسوبة وكل من صنف في الأدب تصنيفاً، مثبتاً وفياتهم ومواليدهم وتصانيفهم وأخبارهم وأنسابهم وأشعارهم. قال: فأما من لقيته أو لقيت من لقيه، فأورد لك من أخباره وحقائق أموره مالا أترك لك بعده تشوقاً إلى شيء من خبره. وقال جمع للبصريين والكوفيين والبغداديين والخراسانيين والحجازيين واليمنيين والمصريين والشاميين والمغربيين وغيرهم على اختلاف البلدان، وذلك على حروف المعجم أيضاً. وقال في الاعتذار عن نفسه، وعمن يقول له إن الاشتغال بأمر الدين أهم: (إن هذه أخبار قوم عنهم أخذ القرآن والحديث، وبصناعتهم تنال الإمارة ويستقيم أمر السلطان والوزارة وبعلمهم يتم الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام) وإن كتابه هو علم الملوك والوزراء والكبراء يجعلونه ربيعاً لقلوبهم، ونزهة لنفوسهم.

وإرشاد الأريب من أوسع كتب التراجم؛ وقد لا تتعادل التراجم فيه، فيكتب في الرجل العشرين والثلاثين صفحة حتى لم يبق زيادة لمستزيد؛ وقد يكتب في العظيم أيضاً أسطراً معدودة وخصوصاً في أواخر الكتاب حتى ليظن من لم يقف على ترجمة المترجم به أنه من المغمورين. وما أدري إن كان أتى ذلك من المؤلف أم من النساخ والناشرين. وعلى كل فإرشاد الأريب أو الجزء الذي طبع منه كنز ثمين للأدب، ومنجم فيه الركاز والذهب، فرائد يلتقطها صاحبها ولا سيما وأن ياقوت نقل كتب جليلة ضاع بعضها على نحو ما نقل من كتب مرو وقال إن أكثر فوائد معجم البلدان منقول من خزائنها

وقال في كتابه إرشاد الأريب أيضا: وربما قال بعضهم إنه تصنيف روميّ مملوك، وما عسى أن يأتي به؟ إن القوم لا ينظرون ما قيل إنما يسألون عمن قال. ولو عاش ياقوت ورأى بعد أكثر من سبعة قرون كتابيه معجم الأدباء ومعجم البلدان اللذين لا يستغني عنهما باحث ولا أديب وأنهما من الكتب الأمهات التي حوت كل طريف مفيد تزيد على القرون حسناً وتتبين حاجة الناس إليها، لأغتبط وعرف أن ما كان يقوله الناس فيه، قالوه في أمثاله في كل عصر ثم ذهب لغط المتقولين والطاعنين وثبت علم العالمين والمتأدبين والباحثين

محمد كرد علي