مجلة الرسالة/العدد 224/الحرب

مجلة الرسالة/العدد 224/الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1937


للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان الذي يقول - قبل بضع سنوات - إن الحرب واقعة وأن العالم مقذوف به في جحيمها لا محالة، يعد من المنجمين الذين يُقرأ كلامهم للتسلية ولا يحمل على محمل واحد من محامل الجد؛ أما الآن فإن الحرب على كل لسان وفي كل ذهن وإن كانت كل دولة تقول وتؤكد إنها لا تريدها ولا تسعى لها وأنها تحاول أن تتقيها جهدها. والحق أن المرء لا يكاد يصدق أن دولة ما - مهما بلغ من وفاء عدتها - تقدم على إضرام نار الحرب في الدنيا وتعرض المدينة للبوار، وكيان العالم للتقوض والانهيار. وهي شرارة واحدة تطير فإذا الدنيا كلها براكين تقذف بالحمم فقد مضى الزمن الذي كان يسع أمتين فيه أن تتقاتلا ما شاءتا، وبقية الأمم وادعة ساكنة وآمنة مطمئنة لا تكاد تعني بما يجري في ساحة الحرب، وصرنا إلى زمن كل ما يحدث فيه له رجعة وصداه في كل زاوية وركن من هذه المعمورة. ولا أمل في هجوم مختلس وزحف سريع فإذا النصر قد خرجت به أمة والهزيمة قد بائت بها أخرى. ولم تعد الحرب قتالاً بين جيش وجيش بمنعزل عن الأمم والشعوب بل أصبحت تدور بين الأمم نفسها بكل ما تمتلك من وسائل التدمير والتخريب ومعدات الدفع والتوقي، وليس الذي يصيب غير المحاربين من البلاء والنكبات والتقتيل دون الذي يصيب الذين هم في الصفوف. ولا فرق في الحقيقة - أو لم يبق ثم فرق - بين مجند يحمل سلاحه ويسير إلى حيث يؤمر، وآخر يقيم في بيته بين أهله وأبنائه ويذهب إلى عمله الذي يكسب منه رزقه؛ وقد يكون الجندي أحسن حالاً لأنه يجد على الأقل من يعني بتدبير وسائل الوقاية له وتوفير الطعام والشراب وتمكينه من الراحة على قدر المستطاع، أما أهل المدن والقرى من شيوخ ونساء وأطفال وغير هؤلاء وأولئك ممن لا يؤخذون للحرب فيفاجئون في أية ساعة من ساعات الليل أو النهار بالتخريب والتدمير والتقتيل من غير أن تكون لهم أمثال الوسائل المتوفرة للجندي الذي في الصف للدفاع والهجوم، ومقابلة كل طارئ بما يستدعيه.

نقول إن المرء يصعب عليه أن يصدق أن دولة تجازف بالإقدام على الحرب واحتمال تبعة إضرامها في العالم لأن أهوالها أفظع من أن تسمح بهذا التصديق، ولأن النصر فيه كالهزيمة من حيث الخراب الذي يحل بالفريقين المحتربين، ولأنها لا بد أن تطول حتى تستنزف القوى جميعاً بعد أن أصبحت جهاداً بين شعوب لا مجرد اعتراك بين جيوش؛ حتى النساء صرن يجندن أو يدربن على أعمال الجنود، أو يستخدمن على الأقل في المصانع والمستشفيات من ثابتة ومتنقلة وفي سوق السيارات وغير ذلك مما يسهل أن يقمن به وهن بعيدات عن الصفوف الأولى للمحاربين

ولكن الأمم على الرغم من هول الحرب تبدو ماضية إليها بسرعة، ولا تكاد تلوح بارقة من الأمل في اتقائها واجتناب كارثتها الشنيعة، فكل دولة تكدس السلاح والذخيرة وتحث المصانع على العمل المتواصل، وكل مجهود موجه إلى استيفاء الأهبة في كل باب ولكل احتمال. والشعور بالاستعداد - أي بالقوة - يغري بالتهور كما يمكن أن يصد عنه، فالذين يقولون إن أحسن وسيلة لمنع الحرب هي الاستعداد لها مصيبون ومخطئون في آن معا. فما من شك في أن علم الدولة التي تحدثها نفسها بالحرب أن غيرها مثلها استعداداً لمقابلة الشر بمثله، خليق أن يبعثها على التردد الطويل والحساب الدقيق للعواقب، ومتى بدأ الحساب فالأحجام مرجح لأن المفاجأة الحاسمة مستحيلة في هذا الزمان، وعند كل أمة من الرجال والعقول والمواهب مثل ما عند الأخرى - ونعني أمم الغرب على الأقل - وكل دولة تستطيع أن تستدرك ما يظهر لها من النقص بسرعة كافية. وقد جرب العالم هذا في الحرب الكبرى، ومعلوم أن ألمانيا فاجأت الحلفاء يومئذ بالغازات الخانقة فما لبث الحلفاء أن اتخذوا الكمائم ثم ما عتموا أن اهتدوا إلى صنع الغازات فصاروا يرسلونها على الألمان كما كان يرسلها الألمان عليهم. واحتاجت بريطانيا إلى بعض المواد التي لا غنى عنها لصنع الذخائر - وكانت قد أصبحت منقطعة أو عزيزة المنال - فاحتثت همم علمائها فهداهم البحث والتجريب إلى ما يحل محل هذه المواد ويغني غناءها وهكذا. ولا شك أن كل أمة تعول على سلاح لديها أكثر مما تعول على سواه ولكنها لا تستطيع أن ترجو طول الانفراد به وبمزيته بعد أن تلح به على أعدائها في الحرب

غير أن وفاء العدة يغري من ناحية أخرى بالغطرسة ومحاولة التحكم، ومتى صارت الأمم كلها شاكية مستعدة فأخلق بذلك أن يجعلها أضيق صدراً عن احتمال الغطرسة والشموخ. والأعصاب تتلف في مثل هذه الأحوال. وقد يكون تلف الأعصاب أجلب للحرب من أي سبب أو باعث آخر، ولهذا ترى أنصار السلم ينصحون بالسكينة واتزان الأعصاب وضبط النفس والحرص على ذلك مهما بلغ قوة الشعور بالاستفزاز

وأسوأ ما في الحالة أن الحرب تدور رحاها شيئاً فشيئاً وفي مكان بعد مكان حتى ليخشى أن تنتشر وتعم الدنيا؛ ونارها توقد بلا إعلان. ففي أسبانيا لا تدور الحرب بين فئتين من الأمة وإنما هي بين دول شتى في الحقيقة لكل منها مأربها وغايتها وسلاحها الذي تجربه وتختبر فعله وغناءه. وفي الصين قامت الحرب بلا إنذار أو إعلان وقد تضطر دولة أو دول أخرى غير الفريقين المتحاربين أن تخوضها معهما فتتسع الدائرة ويعظم الخطب ولا يؤمن اندلاع النار في قارات أخرى. فإذا ظل هذا يحدث في رقعة بعد رقعة من الأرض فماذا يكون المصير؟ وحيال هذه الحالة لا ندري كيف يسع إنساناً أن يطمئن إلى استقرار السلم وإمكان تفادي الحرب؟ إن كل ما يسعى له أنصار السلم والمشفقون على العالم وحضارته هو أن يحصروا هذه الحروب في مناطقها حتى لا تعدوها أو تمتد إلى سواها كما يفعل رجال المطافئ حين يرون النار قد شبت في بيت أو مصنع، وليس هذا من التشبيه أو التمثيل فإنها النار هنا وههنا بلا فرق أو تفاوت سوى أن نار الحريق أهون من تلك التي يؤججها التدبير المحكم.

ومن العسير أن يتكهن المرء بشيء فقد صار العالم يعيش يوماً فيوماً فإذا مضى يوم ولم تتفاقم فيه أزمة ولم يستفحل فيه خلاف حمد الله وشكره ورجا أن يجيء الغد بما يفرج من الكرب أو يرجئه أو يلطفه على الأقل.

إبراهيم عبد القادر المازني