مجلة الرسالة/العدد 224/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 224/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1937



يوميات نائب في الأرياف

للأستاذ توفيق الحكيم

محاورات أفلاطون

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محفوظ

للأستاذ محمود الخفيف

تفضل الأستاذ الحكيم فأهدى إلي كتابه (يوميات نائب في الأرياف) وكنت قد قرأت فصولا في مجلة الرواية؛ بيد أني عدت فتلوته وقد انتظمه مجلد واحد فألفيتني أكثر استمتاعاً به وأكبر محبة له ولصاحبه.

المؤلف الفاضل غني بشهرته عن التعريف، عرفه جمهور القراء وأحبوه في (أهل الكهف) ووثقوا من مواهبه الفنية في تلك القصة الرائعة وفي أختها (شهرزاد) وزادتهم مؤلفاته بعد ذلك معرفة به، وارتياحاً إلى فنه، وابتهاجاً بتوفيقه. والحق عندي أن توفيق الحكيم قد صار في (القصة المصرية) أحد أعلامها الأفذاذ، بل لقد خطا بها وهي بعد في طفولتها خطوات سريعة وثيقة حتى لقد غدا في هذه الناحية (كعبد الوهاب) في الموسيقى وكالمرحوم (مختار) في فن النحت، وحق لمصر أن تفخر به كما تفخر بهما. ولست أعني بالإشارة إلى (القصة المصرية) تبريزه فيها وحدها فلقد كتب له النجاح في ذلك الفن في أوسع حدوده ورأيناه موهوباً كما يقول أهل الفن كما رأيناه يجمع إلى موهبته ثقافة من الطراز الأول. والقصصي يخلق أولاً وفيه القصة: في نفسه أسلوبها وروحها، وفي رأسه الميل الشديد إلى صوغها وإعلانها. وقل مثل هذا عن كل ذي فن.

والكتاب الذي أحدثك عنه ضرب من القصة إذ تجاوزنا عن أصولها المصطلح عليها فهو كما ترى اسمه (يوميات). غير أن الأستاذ قد ألبسه ثوب القصة في مهارة عجيبة تعد في ذاتها ناحية من نواحي نبوغه في هذا الفن. فقد جعل من (ريم) ومن حادثة مقتل (قمر الدولة) سلكا ينتظم أجزاءها ويتسلط على القارئ من أول الكتاب إلى أخره؛ ويمكنك أن تعتبرها نوعاً من القصص الإصلاحي على نحو ما كان يجري عليه دكنز في فنه وما كان يتوخاه منه، وهنا نرى من الأستاذ الحكيم مسلكا جديداً في القصص لم ينزل به عن مستواه في مسلكه السالف في أهل الكهف وشهرزاد، تلك الناحية الفلسفية التي حلق بها في أفق عال فسيح. أجل رأينا في هذا الكتاب من مستلزمات الفن ومن آياته ما يعجب ويطرب! رأينا أولاً عنصر التشويق كما تجلى في خلق حادثة القتل ثم إخفاء القاتل والبحث عنه، وكما يتجلى في شكل أدق وأجمل من ذلك الوصف الشعري الجميل الفائق لتلك الفتاة الريفية (ريم) ذلك الوصف الذي عطف عليها القلوب، وجذب إليها النفوس، وأكسب القصة مسحة من الجمال السامي كانت تظهر فيه نظرات الأستاذ الفلسفية؛ ورأينا كذلك في القصة عنصر الفكاهة ناضجاً حلواً تسيغه الأفئدة وتعلق به، كما رأينا دقة الوصف وشموله في غير التواء أو تعقيد؛ ورأينا خبرة الأستاذ بالوسط الذي يكتب عنه تلك الخبرة المدهشة التي لم يدق عنها معرفة العبارات المحلية التي كان يجريها على ألسنة أشخاصه على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم وفصائلهم. هذا إلى وصف الأشخاص أنفسهم حتى لكأنك تراهم وتسمع إليهم. وهاأنذا أحد أبناء الريف أشهد ما وجدت في وصفه شذوذاً ولا لمحت فيه مسحة من خيال. ورأينا في القصة إلى جانب ذلك كله النقد الصحيح الذي يرضيك؛ نعم قد يحسب بعض القراء ممن لم يروا مثل هؤلاء الأشخاص الذين وصفهم الأستاذ، كالقاضي الأهلي والقاضي الشرعي مثلاً أن عنصر (الكاريكاتير) زائد في بعض أوصافه، ولكن الذين رأوا في الحياة مثل هؤلاء شهدوا له بالصدق، وأعجبوا بطريقته وطلبوا منها المزيد

فوق هذا كله أو قل بهذا كله تحققت للكتاب ناحية فريدة وهو أنه سجل لعصر من عصورنا، فيه كثير من ألوان حياتنا في بيئة من بيئاتنا، سوف تقرأه الأجيال المقبلة وترى فيه من نواحي اللذة ما يحببه إليها ويكسبه بذلك طول الحياة. ولن أفرغ من هذه العجلة دون أن أطلب ملحاً من الأستاذ الحكيم أن يجري قلمه على هذا النحو في نواحي حياتنا الأخرى فيرينا يومياته في بيئة الموظفين مثلاً في (الدواوين) أو في غيرها من الجهات فما أحوجنا إلى هذا النوع من القصص يجري به قلم فنان.

أنتقل بالقارئ بعد ذلك إلى الكتاب الثاني (محاورات أفلاطون) وقد أضطلع بنقله إلى العربية الأستاذ زكي نجيب محمود ونشرته لجنتنا المباركة الناهضة (لجنة التأليف والترجمة والنشر) عمل الأستاذ زكي كما ترى عمل المعرب، وقد يحسب البعض أن التعريب أمر هين لا يكلف صاحبه عناء، ولا يكشف عن مقدرة أدبية؛ ولكن الذين مارسوا هذا العمل والذين يقدرون الأمور حق قدرها، يعرفون أنه من أشق الأعمال ومن أقطعها حجة في معرض التدليل على المقدرة والكفاية الثقافية، وحسبك أن تذكر ما بين اللغات من تباين وتفاوت في الأساليب والتراكيب والاصطلاحات والمجازات وغيرها من ضروب التعبير، وأن تذكر ما تفتقر إليه اللغة العربية من الألفاظ التي تقابل ما استحدث من الألفاظ العلمية في اللغات التي ننقل عنها، لتعلم مقدار الجهد الذي يعانيه المعرب.

وفوق ذلك فهناك ما هو أهم من اللغة في ذاتها؛ هناك أصول الترجمة الصحيحة وما تتطلب من شروط، وأهمها في رأيي الإلمام التام لا باللغتين فحسب، فذلك قد يتوفر للكثيرين، ولكن الإلمام التام بالفن الذي يترجم. وعندي أن الذي يتعرض لترجمة فن من الفنون لا يفهمه حق الفهم، إنما يكون كسالك الصحراء أضلته دروبها أو ذهب بلبه فضاؤها الشاسع وقد جهل صواها، وتاه عن مبدئها ومنتهاها. أما الذي يترجم عن فهم وخبرة ووثوق من الموضوع فإنه كالربان الماهر عرف وجهته واتخذ إليها سبيله؛ نعم يكون الفاهم الموضوع من فهمه هذا ما يعينه على التعبير الصحيح، وما يجعل اللغة ذاتها طيعة في يده مواتية له فلا يتعثر ولا يقف ولا تظهر في عمله الركة ولا يشوبه الإبهام والتناقض والاضطراب.

والأستاذ زكي كما عرفته من قرب وكما عاشرته وصاحبته فيلسوف بطبعه، لا ترى الفلسفة فيه أثراً من آثار الثقافة فحسب، بل هي مظهر من مظاهر الطبع قبل هذا. تحدثه في أي أمر فيفلسفه، إن صح هذا التعبير؛ لذلك كان شغفه بالفلسفة ومسائلها نتيجة ميل ذاتي، وذلك لعمري سبيل العلم الصحيح. والذين لا يعرفونه إلا فيما كتب يشهدون له بطول الباع في هذه الناحية. وهل نسينا فصوله الممتعة في الرسالة؟ وهل نسينا كتابيه اللذين أشترك في وضعهما مع الأستاذ العلامة أحمد أمين وهما (قصة الفلسفة اليونانية) و (قصة الفلسفة الحديثة)؟

إذا عرفت هذا عن زكي، وعرفت معه أنه متين في لغته، ضليع في الإنجليزية، أدركت مقدار نجاحه في ترجمة هذا الكتاب الذي أحدثك عنه. الحق أني معجب بهذه الترجمة، محتكم فيما أقول إلى الذين قرءوا الكتاب فصولاً متتابعة في الرسالة قبل أن يجمع في سفر. ذلك أني أخشى أن يحمل البعض كلامي على المجاملة لما بيني وبين زكي من صداقة. وإذا كانت عين الرضى عن كل عيب كليلة، فتلك العين من ناحية أخرى ترى من المحاسن ما يخفى على غيرها وما يدق على أي عين سواها على أني لو وجدت في تلك الترجمة عيباً ما ترددت في ذكره بل وفي إبرازه

هذا عن الترجمة، أما عن الكتاب في ذاته فهو من تلك الكتب التي يعد نقلها إلى لغة معينة خدمة جليلة لتلك اللغة هذا لأنه من كتب الثقافة العالية التي أحدثت أثراً كبيراً في النهضات الفكرية للأمم التي ترجمته. وحسبك أن ترى سقراط كما يصوره تلميذه أفلاطون في ذلك الحوار، وأن ترى طرفاً من فلسفته في الأخلاق والحياة الإنسانية، وأن ترى أسلوبه في التفكير وتلمس أوجه الصواب فيما يطرق من مسائل، وأن ترى خلقه القويم وتحس عظمة روحه وقوة نفسه، ونقل ذلك الكتاب إلى لغتنا بالذات مكمل لناحية من نواحي النقص من ثقافتنا ولذلك فهو مظهر من مظاهر نهضتنا الفكرية الحديثة.

الخفيف