مجلة الرسالة/العدد 224/للأدب والتاريخ:

مجلة الرسالة/العدد 224/للأدب والتاريخ:

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1937



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 9 -

(قطعتني زحمة العمل أسبوعين عن مواصلة الكتابة وقامت بيني وبين الواجب؛ ثم ألح عليّ المرض أسبوعين يغدو ويروح بين الليل والنهار، فلا أهم أن اشرع القلم لأستأنف حديثي حتى يقطعني الإعياء ويقعد بي العجز. فما كان من صمتي في الأسابيع الأربعة الماضية فهو من ذاك، ولعله عذر يبلغ بي عند الأصدقاء الذين ظنوا بي ما ظنوا لهذا الصمت الطويل فأوسعوني في رسائلهم عتباً وملامة، فكان عتابهم آية من آيات الود الصافي وحسن الإخاء)

الرافعي في سنوات الحرب

كان الرافعي - رحمه الله - شاعر النفس، مرهف الحس، رقيق القلب، قوي العاطفة: يرى المنظر الأليم فتنفعل به نفسه ويتحرك خاطره ويتفطر قلبه؛ وتقص عليه نبأ الفاجعة فلا تلبث وأنت تحكي له أن تلمح في عينيه بريق الدمع يحبسه الحياء. ولقد كان الرافعي يقرأ فيما يرد إليه من بريد قرائه كثيراً من المآسي الفاجعة يسأله أصحابها الرأي أو المعونة، فما يقرؤها إذ يقرؤها كلاماً مكتوباً، ولكنها تحت عينيه حادثة يشهدها ويرى ضحاياها فما تبرح ذاكرته من بعد إلا مع الزمن الطويل.

ولقد وقعت الحرب واستعرت نارها في الميادين البعيدة لا يبلغ إلينا منها نار ولا دخان ولا يراق دم، ولكنها أرسلت إلى مصر الفقر والجوع والغلاء، فما كان ضحاياها في مصر بالجوع والمتربة أقل عديداً من ضحاياها هناك في الميدان. . . كيف كان يعيش العامل المسكين في تلك الأيام؟ رباه! إنني ما أزال أذكر يوم أرسلني والدي - وأنا غلام بعد - أستدعى النجار لعمل عندنا فوجدته جالساً في أهله يأكلون: كانوا ستة قد تحلقوا حول قصعة سوداء فيها كومة من فتات الخبز أدامه الماء، تتسابق أيديهم إليه في نهم كأنما يخشى كل واحد أن تعود يده إلى القصعة بعد الأوان فلا يجد اللقمة الثانية. . .!

هكذا كان يعيش نصف الشعب في تلك الأيام السود مما فعل القحط والغلاء، لأن أقوات الشعب قد حملت إلى الميدان لتخزن في دار المؤن وقتاً ما، لتقذفها من بعد قنابل المحاربين وتذروها رماداً في الهواء. . .!

ونظر الرافعي حواليه فارتد إليه البصر حسيراً مما يرى ويسمع، فاحتبس الدم في عينيه ولكن قلبه ظل يتحدث بمعانيه

ومضى عام وعام والحرب ما تزال مستعرة، والبؤس تتعدد ألوانه، وتتشكل صوره، وتحشد آثاره؛ والرافعي دائم الحديث إلى نفسه وهو يحمل من هم الشعب في قلبه كبير، حتى امتلأ الإناء يوماً ففاض. . .

في بعض اللحظات التي تفيض فيها النفس بالألم، يحس الإنسان كأنه شيء له نظام في الكون إرادة وتدبير، وأن من حقه أن يقول للمقدور: لماذا أنت في طريقي. . .؟ فتراه في بعض نجواه يتساءل: ربِ لم كتبت علي هذا. .؟ لماذا حكمت بذلك. .؟ لماذا قدرت وقضيت. .؟ ما حكمتك فيما كان. .؟ ألم يكن خيراً لو كان ما لم يكن. . . .؟ ثم يثوب إلى نفسه ويفيء إلى الحق، فيعود معتذراً يقول: لقد ظهر حكمك، ودقت حكمتك فمغفرةً وعفواً. . .!

وتظل حكمة الله مطوية في ظلمات الغيب، لا يتنورها إلا من غمره شعاع الإيمان وسطع في قلبه نور الحكمة، أما الذين تعبدتهم شهوات أنفسهم فهم أبداً في حيرة وضلال.

في لحظة من تلك اللحظات أغمض الرافعي عينيه وراح يفكر، وفي رأسه خواطر يموج بعضها في بعض؛ ثم فاءت نفسه، فرفع رأسه وهو يقول: (ربِ، ما أدق حكمتك وأعظم تدبيرك. .!) وأفاض الله عليه ورفع عن عينيه الغطاء. . .

وعاد ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضاً، ويسرق بعضهم أقوات بعض، ويتزاحمون على الحياة فيسارعون إلى الموت؛ فدمعت عيناه ولكنه كان يبتسم، وعاد يقول: (حكيم أنت يا رب! ليتهم وليتني. . . ليتهم يعلمون شيئاً من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس!. . . كل شيء في هذا الكون العظيم يجري على قدرٍ منك وتدبير حكيم!)

ثم شرع يؤلف كتابه المساكين كتاب المساكين

أخرج الرافعي كتابه هذا في سنة 1917، وهو الكتاب الرابع مما ألفه الرافعي في المنثور، وثاني ما ألف في الأدب الإنشائي، ويعرف به الرافعي في الصفحة الأولى منه فيقول: هو كتاب (أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس)

وقدم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني يقول فيها:

(هذا كتاب حاولت أن أكسو الفقر من صفحاته مرقعةً جديدة. . . فقد والله بليت أثواب هذا الفقر وإنها لتنسدل على أركانه مزقاً متهدلة يمشي بعضها في بعض، وأنه ليفلقها بخيوط من الدمع ويمسكها برقع من الأكباد ويشدها بالقطع المتنافرة من حسرة إلى أمل وأمل إلى خيبة وخيبة إلى هم؛ وأقبح من الفقر ألا يظهر الفقر كاسياً أو تكون له زينةً إلا من أوجاع الإنسانية أو المعاني التي يتمنى الحكماء لو أنها غابت في جماجم الموتى الأولين. . .)

والكتاب فصول شتى، ليس له وحدة تربط بين أجزائه، إلا أنه صور من الآم الإنسانية كثيرة الألوان متعددة الظلال، تتلقى عندها أنة المريض، وزفرة العاشق، ودمعة الجائع، وصرخة اللهفان المستغيث؛ فهنا صورة (الشيخ علي) الرجل الذي يعيش بطبيعته فوق الحياة وفوق الناس لأنه يعيش بنعمة الرضى، وإلى جانبه قصة الغني الشيخ الذي حسب أنه سيطر على الحياة لأنه ملك المال، وهذه صاحبته الحسناء الصغيرة التي انتشلها الشيخ بماله من الفقر الجائع فوهب لها المال ولكنها سلبها نعمة الشعور بالحياة، وهذه، وهذه. . . من صور المساكين الذين يعيشون يحتسون الدموع أو يتطهرون بالدموع.

وأول أمر الرافعي في تأليف كتاب المساكين، أنه كان في زيارة أصهاره في (منية جناج) فلقي هناك الشيخ علي، والشيخ علي هذا رجل يعيش وحده ليس له جيب يمسك درهما، ولا جسد يمسك ثوباً، ولا دار تؤيه، ولا حقل يغل عليه؛ يجوع فيهبط على أول دار تلقاه يتناول ما يمسك رمقه، ويدركه النوم فيتوسد ذراعه حيث أدركه النوم من الدار أو الطريق، رجل يعيش بطبيعته فوق كل آمال الناس، وآمال الحياة، ولقيه الرافعي وأستمع إلى خبره فعرف من فلسفته فلسفة الحياة، ووجد عنده الحل لكل ما في نفسه من المشكلات، فكان هذا الكتاب من وحي الشيخ علي الفيلسوف الصامت في الرافعي الأديب، واجتمعت له مادة الكتاب في مجلس واحد لم ينطق فيه أحد بكلمة.

ويصف الرافعي الشيخ علي فيقول:

(. . . هو حليم لنفسه غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس، والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم؛ كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه؛ فالناس كما هم وهو كما هو يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من يصيب بأذى؛ ويتماشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء؛ ثم إن مسه الأذى الرقيع أو سقيط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم وكان ألمه مرض طبيعي، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا. . .! وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة غير أن أمرهما مختلف جداً فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو لأنها لم تظفر به. . .

(. . . وهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات الأربع كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض، ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف وكل ما ردت عليك الغبطة من بسطة في الجسم أو سعة في المال أو فضل في المنزلة؛ وكل ما أنت من إقباله على طمع ومن فوته على خوف. . .

(. . . فهو أجهل الناس في الدنيا وأجهل الناس بالدنيا. . . وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج حسبك مائقا لم ترقط نضارة البرسيم وألوان الربيع. . .)

هذا هو الشيخ علي الذي أوحى إلى الرافعي كتاب المساكين ونسب إليه القول فيه ورده إلى إلهامه، وهو عنده النموذج الكامل للرجل السعيد والفيلسوف الناضج.

ولقد فرغ الرافعي من كتاب المساكين في سنة 1917؛ وفرغ الشيخ علي من دنياه بعد ذلك بقليل، ولكن روحه ظلت تعمل في نفس الرافعي وتملي عليه وتلهمه الرأي إلى أخر أيامه بعد ذلك بعشرين سنة؛ والواقع أن الرافعي كان يؤمن بفلسفة التسليم والرضى فيما لا طاقة له به، إيماناً كان مادة حياته ونظام عمله، وإيمانه ذاك هو الذي كان يفيض عليه إمارات المرح والسرور حتى في أعصب أوقاته وأحرج ساعاته، فكنت لا تراه إلا مبتسماً أبداً أو ضاحكاً ضحكة السخرية والاستسلام.

كتاب المساكين الذي يقول عنه المرحوم أحمد زكي باشا: (لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وهيجو كما للفرنسيين هيجو، وجوته كما للألمان جوته)

هو كتاب أجتمع على إخراجه سببان: أهوال الحرب التي حطت على مصر بالجوع والقحط والغلاء؛ والشيخ علي الجناجي.

(شبرا)

محمد سعيد العريان