مجلة الرسالة/العدد 225/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 225/رسالة النقد

مجلة الرسالة - العدد 225
رسالة النقد
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 10 - 1937



النحو والنحاة

بين الأزهر والجامعة

للأستاذ محمد عرفة

كتاب ألفه الأستاذ محمد عرفة المدرس بكلية اللغة العربية في مناقشة كتاب (إحياء النحو) للأستاذ إبراهيم مصطفى المدرس بكلية الآداب. وقد بحث الكتاب فيما أشكل من مسائل النحو وأبهم من علله وأسبابه

وقد أراد مؤلفه أن ينشر منه فصل معاني الإعراب بمناسبة ما دار في الرسالة من جدل حول معاني الإعراب

معاني الإعراب

يرى مؤلف (إحياء النحو) أن بينه وبين من تقدمه من النحاة خلافاً في حركات الإعراب؛ فهم يرون أن هذه الحركات اجتلبها العامل وليست تدل على شيء من المعاني؛ فالإعراب حكم لفظي خالص يتبع لفظ العامل وأثره، وليس في علاماته إشارة إلى معنى ولا أثر لها في تصوير المفهوم

أما هو فيرى أن حركات الإعراب دالة على معان، وأنه قد استكشف أصلاً عظيماً وهو أن من أصول العربية الدلالة بالحركات على المعاني وأنه رأى أن الضمة علم الإسناد وأن الكسرة علم الإضافة، وأما الفتحة فهي الحركة الخفيفة عند العرب يلجئون إليها إذا لم تكن بهم حاجة إلى أن يبينوا أن الكلمة مسند إليها أو مضافة. انظر كتاب إحياء النحو ص22 و41 و48 و194 تر المؤلف قد وضح طريقه وهو أن المتقدمين جعلوا الإعراب حكماً لفظياً، وأن علاماته لا تدل على معنى، وأنه قد هدى إلى معان لعلامات الإعراب خفيت على النحويين. وهذا عمل جليل وابتكار وإبداع لو تم له

ومشايعة المؤلف على هذا الرأي ظلم عظيم للنحاة المتقدمين منهم والمتأخرين؛ وإن من غمط النحاة حقهم، ومن ظلم تاريخ النحو أن ننسب إلى النحاة أنهم كانوا يرون أن علامات الإعراب لا تدل على معنى ولا تؤثر في تصوير المفهوم. وإننا إذا شايعنا المؤلف على هذه الفكرة رأى سكان الأقطار العربية ومن يأتون بعدنا أننا لم نفهم النحو، وأن مصر تدرس النحو وتقرأه في كتب المتقدمين والمتأخرين ولا تفهم أقوالهم الواضحة فتعزو إليهم ما لم يقولوه

وأنا أبادر إلى بيان رأي النحاة في علامات الإعراب وأقرر أنهم جميعاً - لا مستثنياً أحداً - يرون أن الحركات علامات على معان تركيبية؛ وأنهم قرروا أن الضمة علم الفاعلية، وأن الفتحة علم المفعولية، وأن الجر علم الإضافة، وأنه لا فرق بين ما ذهب إليه الأستاذ من أن الحركات أعلام على معان، وما ذهب إليه النحاة. وأنا أؤكد للأستاذ المؤلف أنه ما من نحوي واحد ذهب إلى أن الإعراب حكم لفظي خالص وليس في علاماته إشارة إلى معنى ولا أثر في تصوير المفهوم، وأنى أتحدى - وأنا أقصد ما أقول - من يخالفني أن يقيم الدليل على ما يقول

إن علماء النحو جميعاً يرون أن الحركات دوال على معان وقد صرحوا به تصريحاً جلياً

أليسوا قد ذكروا في سبب وضع النحو أن أبا الأسود الدؤلي سمع قارئاً يقرأ (إن الله برئ من المشركين ورسوله) بالجر فقال: معاذ الله أن يكون بريئاً من رسوله. اقرأ (إن الله برئ من المشركين ورسوله) بالرفع؛ فالكلام واحد ولم يتغير فيه إلا حركة اللام، فإذا حركت بالجر أدى إلى كفر، وإذا حركت بالرفع أدى إلى معنى مستقيم لا كفر فيه. فهل كانوا يرون ذلك وهم يرون أن حركات الإعراب لا تدل على معنى ولا أثر فيها لتصوير المفهوم؟

أليسوا يذكرون أن أبا الأسود سألته ابنته: ما أحسن السماء يا أبت (برفع أحسن وجر السماء) فقال: نجومها. فقالت: لا أريد هذا أنا أتعجب من حسنها. فقال: ما هكذا تقولين، قولي ما أحسن السماء (بفتح أحسن ونصب السماء) هل كانوا يحكون هذا ويتداولونه في كتبهم وهم يرون أن الحركات لا تدل على معنى في لغة العرب؟

أليسوا قد عرفوا العامل بأنه ما به يتقوم المعنى المقتضى للإعراب؟ أليس ما حكوه من قول بن مالك:

ورفع مفعول به لا يتلبس ... ونصب فضلة أجز ولا تقس

كان كافياً لأن ينبه المؤلف إلى أنهم يعتقدون أن علامات الإعراب دوال على المعاني؟ فالبيت معناه أن الرفع علامة الفاعلية والنصب علامة المفعولية؛ فإن كان هناك موضع تميز فيه الفاعل عن المفعول بغير العلامة فأعط كل واحد منهما علامة الآخر مادام لا يلتبس ككسر الزجاجُ الحجرَ فإنه معلوم هنا الكاسر من المكسور. أليسوا قد ذكروا أن الأصل في الأسماء الإعراب وعللوا ذلك بأنها هي التي تتعاور عليها المعاني المقتضية للإعراب كالفاعلية والمفعولية الخ؟ أليسوا عند تفسير القرآن أو الشعر يعربونه أولاً ثم ينزلون المعنى على حسب هذا الإعراب ويعربونه إعراباً آخر فينتظم نظاماً آخر ثم ينزلون المعنى على حسب هذا النظم؟

وذلك كقوله (إنما يخشى الله من عباده العلماء) بالنصب، والمعنى عليه أن الذين يخشون الله هم العلماء، وعلى القراءة التي ترفع لفظ الجلالة وتنصب العلماء يكون المعنى لا يخشى الله أحداً إلا العلماء

إن النحو كله مبني على أن حركات الإعراب دوال على معان تركيبية مقصودة من الكلام، ومن لم يفهم هذا الأصل لم يقدر أن يفهم علم النحو ولا آراء المفسرين ولا آراء علماء العربية في تفسير الشواهد والقصائد من الشعر

فإذا لم يقنعك هذا دليلاً على أن علماء النحو يعتقدون أن علامات الإعراب دوال على معان، فسنأخذ في بيان أصرح، وسننقل لك من كلامهم ما هو أوضح

قال الخضري في حاشيته على بن عقيل في ص30 في بحث المعرب والمبني: (وإنما أعرب المضارع لشبهه الاسم في أن كلاً منهما يتوارد عليه معان تركيبية لولا الإعراب لالتبست. فالمتواردة على الاسم كالفاعلية والمفعولية والإضافة في ما أحسن زيداً، وعلى الفعل كالنهي عن كلا الفعلين أو عن أولهما فقط أو عن مصاحبتهما في نحو لا تعن بالجفا وتمدح عمراً. ولما كان الاسم لا يغني عنه في إفادة معانيه غيره كان الإعراب أصلاً فيه بخلاف المضارع يغني عنه وضع اسم مكانه كأن يقال في النهي عن كليهما ومدح عمرو وعن الأول فقط، ولك مدح عمرو، وعن المصاحبة مادحاً عمرا. فكان إعرابه فرعاً بطريق الحمل على الاسم. هذا ما اختاره في التسهيل)

وقال بن يعيش في شرح المفصل للزمخشري في ص72 من الجزء الأول:

(والإعراب الإبانة عن المعاني باختلاف أواخر الكلم لتعاقب العوامل في أولها. ألا ترى أنك لو قلت ضرب زيدْ عمرْ وبالسكون من غير إعراب لم يعلم الفاعل من المفعول؟ ولو اقتصر في البيان على حفظ المرتبة فيعلم الفاعل بتقدمه والمفعول بتأخره لضاق المذهب ولم يوجد من الاتساع بالتقديم والتأخير ما يوجد بوجود الإعراب. ألا ترى أنك تقول ضرب زيد عمرا، وأكرم أخاك أبوك، فيعلم الفاعل برفعه والمفعول بنصبه سواء تقدم أو تأخر

فإن قيل فأنت تقول ضرب هذا هذا، وأكرم عيسى موسى وتقتصر في البيان على المرتبة، قلت هذا شيء قادت إليه الضرورة هنا لتعذر ظهور الإعراب فيهما. ولو ظهر الإعراب فيهما أو في أحدهما، أو وجدت قرينة معنوية أو لفظية جاز الاتساع بالتقديم والتأخير)

وقال الزمخشري في المفصل ص71

(القول في وجوه إعراب الأسماء)

(هي الرفع والنصب والجر وكل واحد منها علم على معنى؛ فالرفع علم الفاعلية، والفاعل واحد ليس إلا: وأما المبتدأ وخبره وخبر إن وأخواتها، ولا التي لنفي الجنس، واسم ما ولا المشبهتين بليس فملحقات بالفاعل على سبيل التشبيه والتقريب، وكذلك النصب علم المفعولية، والمفعول خمسة أضرب: المفعول المطلق والمفعول به والمفعول فيه والمفعول معه والمفعول له. والحال والتمييز والمستثنى المنصوب والخبر في باب كان، والاسم في باب إن والمنصوب بلا التي لنفي الجنس وخبر ما، ولا المشبهتين بليس ملحقات بالمفعول

والجر علم الإضافة، وأما التوابع فهي في رفعها ونصبها وجرها داخلة تحت أحكام المتبوعات، ينصب عمل العامل على القبيلين انصبابة واحدة)

وقال بن يعيش في شرحه ص72:

(وجوه الإعراب. يريد بها أنواع إعراب الأسماء التي هي الرفع والنصب والجر، لأنه لما كانت معاني المسمى مختلفة: تارة تكون فاعلة وتارة تكون مفعولة وتارة تكون مضافاً إليها كان الإعراب المضاف إليه مختلفاً ليكون الدليل على حسب المدلول عليه. . وقوله (وكل واحد منها علم على معنى) يريد الرفع والنصب والجر كل واحد منها علمٌ على معنى من معاني الاسم التي هي الفاعلية والمفعولية والإضافة. ولولا إرادة جعل كل واحد منها علماً على معنى من هذه المعاني لم تكن حاجة إلى كثرتها وتعددها؛ ثم قال فالرفع علم الفاعلية فقدم الكلام على الفاعل من بين المرفوعات ولاسيما المبتدأ لمشاركته في الإخبار عنه، وذلك لأن الفاعل يظهر برفعه فائدة دخول الإعراب الكلام من حيث كان تكلف زيادة الإعراب إنما احتمل للفرق بين المعاني التي لولاها وقع لبس؛ فالرفع إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول الذي يجوز أن يكون كل واحد منهما فاعلاً أو مفعولاً)

كلام الأستاذ إبراهيم مصطفى صريح في أن النحاة جعلوا الإعراب حكماً لفظياً خالصاً، ولم يروا في علاماته إشارة إلى معنى ولا أثراً في تصوير المفهوم. وكلام النحاة صريح لا لبس فيه أيضاً في أن الإعراب حكم معنوي وأنهم يرون أن الحركات دوال على معان وبينوا كل معنى، وكل حركة تدل عليه، والنحو كله مبني على ذلك لا يمكن أن نفهم قواعدهم، ولا أن نفهم اللغة العربية إلا على ذلك، وهو من الوضوح بحيث لا يخفى على مبتدئ في تعلم النحو بله الدارسين له والمتخصصين فيه

ليت شعري، ماذا نفهم في هذا الموقف المحير، موقف الأستاذ من نصوص المتقدمين في هذه المسألة؟ أنفهم أنه فاته وجه الصواب فيها، وهو من وقف حياته على دراسة النحو، ووقف سبع سنين من عمره في بحث هذه المسائل؟

أم أفهم أن المؤلف لم يخف عليه وجه الصواب في هذه المسألة عند النحويين ولكنه نَفِسَهُ عليهم وأغرم بالتجديد، فحرمهم علمهم وتجاهل هذه النصوص التي تتكرر في كل كتاب

إنني حاولت نفسي على فهم ذلك، ولكن منعني أن الأستاذ إبراهيم حجة ثبت وهو كما يقول الدكتور طه حسين في المقدمة (له أمانة في الرأي والنقل جميعاً)

على أن هذا البحث الشخصي لا يعنينا فسواء علينا أكان هذا أم ذاك، إنما الذي يعنينا هم أن ننصف شيوخ العربية وقد كاد يظلمهم بعض من تربوا في حجورهم وتثقفوا على أيديهم، وأن ننير تاريخ علم العربية. فإن كنت قد بلغت بعض ذلك فجدود ساعفت؛ وبحسبي أن أؤدي في هذا الكتاب ديناً في عنقي لقوم راحوا وخلفوا هذه الثروة العلمية في النحو والصرف واللغة والبلاغة

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة، وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير

محمد عرفة