مجلة الرسالة/العدد 226/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 226/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 11 - 1937



ابن المقفع

تأليف الأديب عبد اللطيف حمزة

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

الوجه في إفراد شاعر أو كاتب من الماضين بالتأليف هو - كما يقول الرافعي رحمه الله - أن تصنع كأنك تعيده إلى الدنيا في كتاب وكان إنساناً، وترجعه درساً وكان عمراً، وترده حكاية وكان عملاً، وتنقله بزمنه إلى زمنك، وتعرضه بقومه على قومك حتى كأنه بعد أن خلقه الله خلقة إيجاد، يخلقه العقل خلقة تفكير.

وهذا كتاب (ابن المقفع) وقد وضعه الأديب عبد اللطيف حمزة، وحاول فيه هذه المحاولة، واجتهد في إدراك تلك الغاية، فأخذ كاتب العربية بالقول من جميع جهاته، وتناوله من كل ناحية يمكن أو تصح أن تلابسه، وكان أن جرى في ذلك على مذهب الناقد الفرنسي المشهور (تين) الذي يرى أن الكاتب صنيعة لعوامل ثلاثة: (الجنس، والبيئة، والزمان) ولذلك فقد تناوله من جهة شخصيته فتكلم عن حياته ولونه السياسي ومصرعه وأخلاقه ومكانته ونظرته إلى المثل الأعلى وزندقته وما قيل فيها، ثم انتقل إلى الكلام عنه في فنه وعبقريته، وعرض له مصلحاً اجتماعياً وكاتباً له أسلوبه وطريقته، واهتم بتحقيق آثاره وخص بعضها بالتحليل والدرس، وأطال القول خاصة في كليلة ودمنة، ثم ختم كتابه بالقول في الأثر الأدبي لابن المقفع، أثره في الشعراء وأثره في الكتاب، وأثره في القصة، وأثره في العقل الشرقي بوجه عام

فالأديب الفاضل قد توسع بالموضوع حق التوسع، ودخل عليه من كل ناحية يمكن أن تتصل بابن المقفع، وهو في كل ناحية للقول يعن كثيراً بأن يستعرض آراء السابقين في الرجل فيناقشها مناقشة حادة عنيفة، ينتهي من ورائها إلى نقض ما يراه جديراً بالنقض، وإلى تأييد ما يراه حقيقاً بالتأييد، ثم يتقدم برأيه الشخصي محاولاً أن يحتج له ما وسعته الحجة، وأن يتلمس له ما يمكن أن يكون هناك من دليل، ولست أزعم لك أني معه في كل ما انتهى إليه من الرأي، ولكني - كما يقول الأستاذ أحمد أمين - قد أخالفه في بعض م ذهب إليه من النتائج، وقد أخالفه في طريقة عرض بعض الفصول والأبواب، وقد أخالفه في تعميم الحكم أحياناً حين يحسن التخصيص - بل إني لأراه قد يفرض الرأي في بعض الأحيان فرضاً ولو لم يقم عليه شبه دليل. ومثال ذلك ما نقله عن أستاذه طه حسين (ص31) من (أن صلة ما لا بد موجودة بين أشعار صالح بن عبد القدوس وأبي العتاهية، وبين شاعر يوناني قديم هو آبيدوس عرف بفن من فنون الشعر اليوناني هو فن الشعر التعليمي؛ ثم قال: (وعندي أن ليس هناك ما يمنع العباسيين من أن يتصلوا (كذا) بهذا الفن من فنون الشعر الذي لا يتعارض والدين، ولكني لا أعلم كيف تسنى لهم هذا الاتصال وليس في المصادر العربية ما يدلنا على ترجمة لهذا الفن الشعري ولا لغيره من الفنون الشعرية عند اليونانيين). والواقع أن الدكتور طه قد ألقى رأيه فرضاً من غير دليل، وهو رجل يدرس الأدب بالفرض والتخمين؛ ولاشك أن الأديب حمزة قد تورط إذ أخذ برأي أستاذه هذا وتابعه على مذهب (ليس ما يمنع) وإني لأعجب كيف يقول: إن صلة ما لا بد موجودة بين شاعري العربية والشاعر اليوناني، مع أنه (لا يعلم كيف تسنى لهم هذا الاتصال وليس في المصادر العربية ما يدلنا عليه)

هذا ولقد تورط حضرته مرة أخرى في مطاوعة أستاذه، إذ رأى (ص80) أن السبب الوحيد أو من الأسباب في قتل ابن المقفع (رسالة كتبها توشك أن تكون برنامج ثورة موجهة إلى المنصور وهي رسالة الصحابة) قال: (وفي هذه الرسالة نجد تشريعاً جديداً من عمل الكاتب يقترحه على الخليفة ليعمل به في أمور شتى كان أهمها أمر القضاء) والذي نراه أن رسالة الصحابة على ما ينطق به موضوعها ليست برنامج ثورة، ولكنها في الواقع برنامج إصلاح رفعه الكاتب إلى الخليفة، لأن فيه توطيداً لملكه، وتقوية لنفوذه؛ وكأني بالكاتب قد كتب هذه الرسالة يريد بها المثوبة عند الخليفة. والواقع أن الأديب حمزة قد أبعد كثيراً في تلمس الأسباب التي أودت بحياة ابن المقفع وانتهت به إلى تلك النهاية الأليمة؛ مع أن السبب ظاهر واضح. . . وهل قتل الرجل غير (السياسة) قاتلها الله؟! تلك التي طالما طاحت برقاب وهوت برؤوس، كمثل ما صنعت بعبد الحميد الكاتب وبشار بن برد وغيرهم من الكتاب والشعراء

وثمة أحكام تخالف المؤلف في الأخذ بها، فأنا مثلاً لست معه في تصحيح تلك الرواية التي نقلها عن إسلام ابن المقفع (ص56) ولا في تلك التي أثبتها عن معارضته للقرآن، كما أني لست معه في أن بن المقفع (أوذي في سبيل حرية الفكر) وأنه كان (عدواً للعرب يسخر منهم) وأنه كان (زنديقاً ملحداً) إلى غير ذلك من الأحكام التي يتلمسها المستشرقون للرجل بالحق والباطل. ولقد كان في تقديري أن أناقش الأديب حمزة الرأي لولا أني رأيت المجال محدوداً، وأني لست بصدد الكلام على بن المقفع، ولكني بصدد القول في (كتاب). . .

بقي القول في أسلوب الكتاب وهي ناحية مهمة في تقدير الأثر الأدبي وتعيين قيمته؛ ولست متجنياً على الأديب الفاضل إذا تنقصت أسلوبه في بعض نواحيه، فهو ينهج نهج أستاذه الدكتور طه في تكرير اللفظ، ومرادفة الجمل، والإكثار من الحشو والاعتراض، ولكنه لا يُحكم ذلك ولا يجوّده، وربما تهافت إلى حد لا يطيقه الذوق، كأن يقول: (وهذا وهذا وهذا عدا الكتب الأخرى) وكأن يقول: (ويذهب به ما ذهب بنفوذ الأعراب وتقاليد الأعراب وعقول الأعراب) وأكثر من هذا فقد يهضم حق اللغة كأن يقول: (وقد كان القدماء يخشون من وضع الكتب. . . ولعلنا نخشى كذلك من وضع الكتب) وكأن يقول: (ثمناً غالياً وغالياً بأكثر مما يتصور الناس) وكأن يقول: (ولعل كتاب الأدب الكبير يكون أصدق مثل لما نقول) و (كان) لا تنقاس زيادتها إلا بين ما وفعل التعجب ولا تكون إلا بلفظ الماضي. وما أريد أن أتقصى وإنما أريد أن أنبه الأديب الفاضل لعله يتلافى هذه الهنوات وأمثالها في الطبعة القادمة إن شاء الله، خصوصاً وهو ربيب قسم اللغة العربية في كلية الآداب؛ ثم هو يزعم أنه يتصوف تصوفاً علمياً وأدبياً فيعكف على العلم والأدب آصائل النهار ونواشئ الأسحار، وما يليق (بمتصوف) الأدب أن يكون أسلوبه في شيء من التهافت وضعف التأليف؛ وما يليق به أن يفنى في غيره، وإنما الواجب أن يكون له طريقته ونهجه، فإن الفناء في شخصية أخرى (فناء)

على أن الأديب حمزة والحمد لله ليس من المكابرين في قيمة الأسلوب فهو يرى أن (من حق الأسلوب أن يجود وليس كاتب ولا عالم ولا مؤرخ إلا ويجب (؟) أن يصرف في العناية أقصى ما يستطاع) ولكنه يعتذر عن نفسه بأن (الوقت لم يتسع للتجويد في الأسلوب) وأنا لا أدري ما الذي ضيق عليه الوقت، وما الذي حمله إلى إخراج كتابه قبل أن يستكمله تجويداً وتحريراً كأنه لم يعلم أن المرء ما يزال في فسحة من عقله حتى يؤلف كتاباً. . . وكأنه لم يعلم أن الناقد لا يقدر الأثر الأدبي إلا من حيث هو هو في مادته، وليس مما يعنيه مراعاة المسافة والزمن، ولقد سألت صديقنا الأستاذ الزين الشاعر فقلت له: أراك تتنطس في حوك شعرك حتى لتقضي في ذلك الوقت الطويل. فقال: نعم! لأني لا أريد أن أفوت ثلمة يتقحم منها الناقد. وإن القارئ ليقرأ وهو مطمئن، فليكتب الكاتب وهو أكثر اطمئناناً

أما بعد، فأنا مقدر للأديب حمزة ما صرف من جهد في البحث والاطلاع وإخراج هذا الأثر النافع، ولعل كتابه - على ما أعرف - هو أوفى بحث خرج عن ابن المقفع للآن، وإني لأرجو له أبحاثاً أوفى وأتم، وأشمل وأعم، فتكون كالإعجاز بعد الإرهاص؟

محمد فهمي عبد اللطيف