مجلة الرسالة/العدد 226/الوحدة

مجلة الرسالة/العدد 226/الوحدة

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 11 - 1937



للدكتور إبراهيم مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

شبح يهولنا اسمه، ويزعجنا رسمه؛ مع أنا لو عرفناه لألفناه، ولو خبرناه لتعشقناه؛ ووحشة نفر منها فرارنا من الخطر الداهم، أو العدو المهاجم، ولو ثبتنا لها في صبر وجلد لكسبنا المعركة وأصبحنا بوحدتنا سعداء؛ وعزلة قد يضيق لها الصدر، وتنقبض النفس، ولكنها عادة لا يمكن أن تكتسب إلا بشيء من الدربة والمران؛ ورياضة لا تخلو من مجهود أو عناء. وكيف لا تكون مجهدة وهي تقف حجر عثرة في سبيل بعض الغرائز الكامنة، وتحرم الفرد من لذائذ المجتمع ومغرياته الخادعة، فتحول دون غريزة حب الاجتماع وسد حاجتها، وتعارض صلات القرابة والمودة في امتدادها وانبساطها؛ بيد أنها في كل هذه أشبه ما يكون بالدواء الممض يتعاطاه المريض لما يرجوه بعده من برء وشفاء

حقاً إن الوحدة طب للنفوس وعلاج للأرواح، نستطب بها من ويلات المجتمع وآلامه، فتقينا ولو زمناً لهيب الحقد والحسد وسموم القيل والقال، وتبعدنا ولو إلى حين عن مظاهر الشره والجشع وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فلا تقع العين على وجوه شاكية، ولا تسمع الأذن أصواتاً باكية، ولا يقر اللسان مكيدة، ولا تقاسم اليد في جريمة، ولا تسعى القدم إلى خطيئة. وقديماً قالوا تشفي الوحدة من المجتمع بقدر ما يشفي المجتمع من الوحدة. وبالوحدة نداوي كذلك أمراض القلب والروح ونعالج أنفسنا بأنفسنا، فنخرج من زمرة الأهل والأخوان وتيار الحياة الهائج المائج إلى حيث السكون والتأمل، ونبدد تلك السحب الكثيفة التي نسجتها الجمعية حولنا، والأضواء البراقة التي تعشى لها أبصارنا لنرى بعين الحقيقة والاعتبار. ولم تكن الوحدة عبادة إلا لأنها توبة وندم وتهذيب وتطهير

وقد عرفت لها الأديان هذه المنزلة فدعت إلى الخلوة والاعتكاف الذي لا يراد به مجرد أوراد تتلى أو أناشيد يترنم بها، بل يُقصد أن تُعرض صفحة الحياة على بساط البحث وتعقد محكمة الضمير في جو هادئ ساكن وتقضي بقضائها العادل إن بالبراءة أو الاتهام. وما أحوجنا إلى هذه الرقابة وهذا الحساب الدقيق دون انقطاع! ولكن جد الحياة ولهوها وحلاوة العيش ومرارته تصدفنا عن ذلك وتلقي بنا في بحر لجي لا سكون فيه ولا اطمئنان. ونحن فوق هذا مولعون بستر هفواتنا وتغطية زلاتنا، نسترها على الناس وعلى أنفسنا، ونتجاهلها وكل الأدلة قائمة عليها: مغالطة مدهشة وصلف كاذب وغرور غريب. وإنك لترى الفرد يأتي أمراً يأباه العرف وينكره الدين، فيسارع إلى أن يعد نفسه في صف المحافظين على التقاليد والمتدينين طمعاً في أن ننسى فعلته وتخفى خطيئته. وقد نفهم هذا التصنع إن أراد أن يرضي به من حوله؛ فأما أن يخدع به نفسه فتلك حماقة حمقاء وغفلة عمياء؛ وما منا من أحد إلا لاحظ أنه إذا حاسب نفسه على ذنب ارتكبته، أو إثم اقترفته، عز عليها هذا الحساب، وقد تأبى وتستكبر وتشرد وتجمح. وكثيراً ما تفر إلى المجتمع لتنزوي في ركن من أركانه وتضل في منعرجاته وعطفاته. والجناة والمجرمون أنفر الناس من العزلة والوحدة وأرغبهم في الجلبة والضوضاء التي تخدر أعصابهم فلا يحسون ولا يشعرون. فلم يكن بد من أن تستثيرنا التعاليم السماوية إلى الخروج من هذا التجاهل المزري والتنكر المرذول

والتصوف وهو فلسفة الوحدة يرى أن علاج الروح لا يتم إلا إن شخص الإنسان أدواءه بنفسه، ووقف على عيوبه مباشرة وبدون واسطة، ثم تعهدها بالتقويم والإصلاح. ويعتقد أن المرء أقدر على هذا التقويم إذا خلا إلى نفسه وخلص من شو اغله؛ فإنه يلتقي بحسناته وسيئاته وجهاً لوجه، ولا يجرؤ على المبالغة في الأولى ولا على إنكار الأخرى. وإذا صح أن الطبيب هو الذي يقود المريض نحو طريق البرء والعافية، فلاشك أن المريض هو الذي يقطع هذا الطريق بقدميه. على أنه لا يكاد يوجد طبيب يستطيع أن يتكهن بعلة قبل أن يعرف ظروفها ومكوناتها، ولا أن يصف دواء قبل أن يقف على حقيقة الشكوى وموضع الألم. فإذا أضحى العليل آسياً كان أعرف الناس بعلته وأقدرهم على علاجها. لهذا تعشق الصوفية الوحدة، وحببت إليهم الخلوة التي يستطبون فيها من آلامهم ويداوون أمراض نفوسهم. حقاً إنهم ينشدون وراء الفراق تلاقياً، ويأملون بعد الهجر وصلاً، ويرجون في الوحشة أنساً، ولكنهم لن يصلوا إلا عن هذا الطريق الوعر والمسلك الصعب. فالوحدة وسيلة لتهذيب النفوس والأرواح وسلم الوصول إلى الغبطة والسعادة

وليس أثرها مقصوراً على الروح فحسب، بل يتعداها إلى العقل. ففيها تنضج الأفكار وتختمر الآراء وتتمحص الحقائق؛ وفوق سطحها الهادئ تنفجر ينابيع الحكمة، ومن سمائها الصافية تتنزل آيات النور والمعرفة. فلولاها ما نعمنا بكثير من الأدب الرائع والخيال العذب والشعر الرقيق؛ وفي غير جوها لا يستطيع أن يتوفر عالم على فرض يحققه، أو فيلسوف على نظرية يناقشها ويحللها؛ وبدونها لا يجد السبيل مصلح إلى وضع نظمه السديدة ومبادئه القويمة. وإذا تتبعنا تاريخ الأنبياء والعظماء والقادة والمصلحين والفلاسفة والمفكرين وجدنا أن أشدهم تعلقاً بالمجتمع وشئونه أرغبهم في ساعات خلوة يدبر فيها ما اضطلع به من مهام جسام. ولئن كانت الجمعية تمدهم بقدر كبير من الغذاء العقلي فهم في مسيس الحاجة إلى ساعات فراغ يمثلون فيها هذا الغذاء، ويتعهدون هذه البذور لتخرج للناس أينع الثمرات. ففي ردهات الأكاديمية ومتنزهات الليسيه أخرج أفلاطون وأرسطو أكمل وأتم فلسفة عرفت في التاريخ القديم. وفي غار حراء أعد (محمد) نفسه لقبول الوحي الإلهي والتعاليم السماوية. ولولا خلوات العلماء اليوم المستمرة وعزلتهم في تجاربهم الدائمة ما خطا العلم خطوة واحدة إلى الأمام. وهاهو ذا بعض الساسة المعاصرين يحتذي حذوهم، ويسير على سننهم؛ فإذا ما حز به أمر لجأ إلى نفسه فاستفتاها في غير جلبة ولا ضوضاء. ففي الخلوة صفاء عزّ أن يتوفر في المجتمع؛ وفيها ضياء إن مرت به سحب حياتنا الصاخبة خسفته. وفي العزلة تفكير وروية ونظر وتأمل لعل جيلنا الحاضر الذي انغمس في بحار المادية أحوج ما يكون إليها

هذه هي الوحدة في أثرها الروحي والفكري والأخلاقي والعقلي. وهنا نتساءل: هل نحن نقدرها قدرها ونتعلق بأهدابها؟ وهل يعنى الكثيرون منا بلحظات فراغ يطمئنون فيها إلى أنفسهم ويركنون إلى أشخاصهم؟ وهل عوائدنا وتقاليدنا تحترم ساعات الوحدة والانفراد؟ لا أظن؛ فإن المقاهي والأندية تأكل نصف أعمارنا أو يزيد، وبيوتنا مبغضة إلينا كل البغض فلا نقصدها إلا للنوم أو الطعام أو الشراب. وقد يصل الأمر بالطالب أن يذاكر دروسه على قارعة الطريق، وبالأستاذ أن يحضر أعماله في مجتمع الإخوان، وبالقاضي أن يدرس قضاياه في ناد عام. وكأننا نأبى إلا أن نفكر جهرة كما أن نتكلم جهرة، وأن نشترك في كل شئ لأنا لا نحسن الاستقلال بشيء، وإذا ما شاء أفراد أن ينظموا أوقاتهم ويخلصوا إلى أنفسهم ساعة أو ساعتين كل يوم عدا عليهم الزوار فقصدوهم على غير موعد، وأطالوا مكثهم لديهم. وبذا أصبحنا لا يشعر واحد منا أن وقته ملكه بحال إبراهيم مدكور

كلية الآداب