مجلة الرسالة/العدد 226/رؤيا (مرزا)

مجلة الرسالة/العدد 226/رؤيا (مرزا)

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 11 - 1937



للكاتب الإنجليزي أديسون

بقلم الأستاذ محمود الخفيف

قال أديسون:

قد اتفق لي حينما كنت في تلك المدينة العظيمة، مدينة القاهرة، أن اشتريت بثمن بخس بعض المخطوطات الشرقية القديمة التي مازلت محتفظاً بها

وبين تلك المخطوطات التي صادفتها مجموعة تسمى (رؤى مرزا) قرأتها في سرور عظيم ثم عولت على تقديمها إلى القراء إذ لا أجد لدى غيرها أسرى به عن نفوسهم؛ وسأبدأ بأولى تلك الرؤى وهأنذا أترجمها كلمة كلمة فيما يأتي:

في اليوم الخامس لظهور القمر ذلك اليوم الذي كنت أقدسه جرياً على عادة جدودي ارتقيت تلال بغداد العالية بعد أن أديت فرائض الصباح، لأقضي هنالك بقية اليوم في التأمل والصلاة

وبينما كنت أنعم هناك بالهواء الطلق على قمم الجبال، إذ وجدت نفسي غارقاً في تأمل عميق حول حياة الإنسان وما يكتنفها من غرور، وإذ كنت أتنقل من فكرة إلى فكرة فقد ناجيت نفسي قائلاً: (حقاً إن الإنسان خيال، وإن حياته حلم). وبينا أنا كذلك أعمل الفكر، إذ أخذت عيناي رجلاً في زي الرعاة على رأس صخرة تقع غير بعيد مني، وكانت في يده آلة موسيقية، فلما رآني أنظر إليه رفعها إلى شفتيه وجعل ينفخ فيها ألحانه؛ وكان صوت تلك الآلة فائق الجمال كما كانت تنبعث منها طائفة من النغمات الرخيمة لم يسبق أن صادفت مثلها رونقاً وطرباً. ولعمري لقد صورت لي تلك الألحان هاتيك الأنغام السماوية العذبة التي تقابل بها أرواح الصالحين حينما تصعد إلى الجنة، هنالك حيث تذهب عنها آثار آلامها الأخيرة وحيث تتأهب لما أعد لها من النعيم في ذلك المكان السعيد، وسرعان ما اهتز قلبي في انتشاء عجيب

وكثيراً ما أخبرت من قبل أن الصخرة القريبة مني مسكن جني، وأن كثيراً ممن مروا بها قد سمعوا تلك الألحان الموسيقية، ولكني لم أسمع قبل اليوم أن ذلك الموسيقار يظهر للأعين

وقد أنعش ذهني بأنغامه العذبة وهيأ فكري لسماع محاورته وأنا أنظر إليه نظرة الحائر، فلما استوثق مني أشار إليّ أن أسير إلى حيث يجلس. ولقد اقتربت منه باحترام يليق بطبيعته العلوية، ولما كان قد تملك قلبي بأناشيده الحلوة فقد ألقيت بنفسي على قدميه وعيناي تذرفان الدمع

فنظر إليّ الجني نظرة عطف وحنان سرعان ما جعلته أليفاً إلى نفسي، وسرعان ما بددت تلك المخاوف التي ساورتني وأنا أدنو منه، ومد يده فرفعني عن الأرض وتناول يدي قائلاً: (مرزا! لقد سمعتك وأنت تناجي نفسك فاتبعني)

واقتادني إلى أعلى صخرة بين تلك الصخور ثم وضعنني فوق أعلى قممها وقال:

- (ول وجهك نحو الشرق وأخبرني ماذا ترى هنالك؟)

قلت: (إني أرى وادياً مترامي الأطراف يخترقه مجرى هائل من الماء)

قال: (إن الوادي الذي تراه هو (وادي الشقاء)، وإن المجرى الذي يخترقه هو جزء من ذلك المجرى العظيم (مجرى الأبدية)

فقلت وما السبب في أن هذا الجزء من المجرى يخرج في أوله من خلال ضباب كثيف ثم ينتهي عند آخره إلى ضباب كثيف؟

قال (إن ذلك الجزء الذي ترى هو قسم من الأبدية تعبرون عنه بالوقت وتقيسونه بالشمس، وهو يمثل الحياة من أولها إلى منتهاها)

ثم قال: (أنظر إلى هذا البحر الذي تكتنف الظلمة طرفيه وحدثني عما ترى فيه)

قلت: (إني أرى قنطرة كبيرة في هذا الخضم)

قال: (إن هذه القنطرة ليست إلا الحياة الدنيا، فانظر إليها بإمعان)

نظرت فرأيتها مكونة من ثلاث حلقات تكون في مجموعها عشر أقواس؛ ثم شاهدت إلى جانبها عدداً من الأقواس المحطمة يصل بها الفرد إلى ما يقرب من المائة، وبينما كنت أعد هذه الأقواس أخبرني الجني أنها كانت في أول أمرها تبلغ الألف عدداً، ولكن فيضاناً هائلاً قد اكتسح معظمها وترك القنطرة على تلك الحالة المتهدمة التي كنت أراها

قال الجني: (أخبرني ماذا ترى فوق تلك القنطرة؟)

قلت: (إني أرى جموعاً من الناس تسير فوقها وأرى الضباب يكتنف نهايتها)، ولكني لما أمعنت النظر قليلاً شاهدت بعض الناس يسقطون من أعلى القنطرة إلى العباب المتلاطم تحتها

وازداد إمعاني فرأيت عدداً من (الأبواب المسحورة) أو الفخاخ كان لا يلبث المار إذا مسها بقدمه أن يهوى من خلالها إلى اليم ويذهب إلى غير رجعة. وكانت تكثر هذه الفخاخ عند أول قنطرة؛ وكان كثير من الناس لا يكادون يظهرون من تحت الضباب حتى رأيتهم يسقطون من خلالها إلى البحر؛ غير أنها كانت تقل تدريجياً نحو الوسط، ولكن لتعود إلى كثرتها عند نهاية الأقواس السليمة

ولقد شاهدت بعض الناس يسيرون سير المقيد الموثق فوق الأقواس المتهدمة، ولكنهم كانوا قليلين، وما لبثوا أن رأيتهم يسقطون الواحد تلو الآخر بعد أن أخذ منهم التعب، وبلغ من نفوسهم الجهد من جراء هذا السفر الطويل

وقضيت وقتاً غير قصير أتأمل في هذا البناء العجيب وما يحوي من مختلف الأشياء. وتالله لقد بلغ من نفسي أن أرى بعض الناس يسقطون وهم في لحظات سرورهم وفترات انتشائهم، وكانوا يتعلقون بكل ما قرب منهم علهم ينجون من هذا السقوط؛ وكنت أرى غيرهم يهوون في هذا القرار السحيق بينما كانوا يرفعون أبصارهم نحو السماء في تأمل وتفكير

ورأيت غير هؤلاء جماعة كانوا يلهون سعياً وراء الحصول على بعض الفقاقيع الزاهية التي كانت تخلب ألبابهم، وبينما هم يحسبون أنهم على قاب قوسين منها، كانوا يهوون في هذا الخضم الزاخر

وتبينت من خلال هذا العماء قوماً يحملون في أيديهم نوعاً من السيوف البواتر، بينما كان يحمل غيرهم بعض القاذورات وهم يدفعون بها المارة فيمرون على تلك الفخاخ التي لم تكن في طريقهم فإذا هم فيها يغرقون. ولما رآني الجني أتأمل في هذه المناظر المحزنة قال (دع عنك هذا فقد أطلت النظر إليه)

ثم قال: (حول نظرك عن القنطرة وانظر هل ترى شيئاً غيره لا تستطيع أن تفهمه؟)

قلت: (إني أرى جماعة من الطير تحوم باستمرار حول القنطرة ثم تعود فتسقط فوقها من حين إلى حين. أرى عدداً من النسور والعقبان والغربان وأرى أشكالاً عجيبة وطيوراً مزعجة أجسامها آدمية نسوية ولها أجنحة مخيفة، وأرى طائفة من الغلمان ذوي أجنحة يتجمعون في تزاحم حول الأقواس الوسطى)

قال الجني: (إن ما تراه إنما يمثل الحسد والطمع والوساوس والأوهام واليأس والحب وغيرها من الهموم والعواطف التي تحيط بحياة الإنسان)

وهنا تنهدت تنهداً عميقاً وقلت: (وا أسفاه! إنما خلق الإنسان عبثاً، فهو فريسة للشقاء والفناء يذوق العذاب في حياته ثم لا يلبث أن يبتلعه الموت)

وتالله لقد أشفق عليّ الجني إذ سمعني أنطق بهذا وأمرني أن أحول بصري عن هذا المنظر الذي يثير الشجن وخاطبني قائلاً: (كفى نظراً إلى الإنسان في حياته الأولى إذ يأخذ أهبته إلى حياة الخلود وانظر إلى هذا الضباب الذي يحمل إليه الموج هؤلاء الذين يسقطون في اليم)

فحولت نظري كما أمرت، ولست أدري هل زاد ذلك الجني قوة إبصاري أم هل أزال بسحره جزءاً من ذلك الضباب الذي كان أكثف من أن تخترقه العين، فقد رأيت الوادي وقد فتح من نهايته وتكشف عن محيط واسع تتوسطه صخرة فتقسمه قسمين متساويين؛ ولقد تجمعت السحب فوق أحد هذين القسمين فلم أر فيه شيئاً، ولكني رأيت في الآخر محيطاً واسعاً تتناثر فيه طائفة من الجزر لا عداد لها؛ وكان سطح تلك الجزر مغطى بأشجار الفواكه والزهور تتخللها غدران صغيرة عديدة، واستطعت أن أرى أناساً يلبسون فخم الثياب وتكلل هاماتهم الزهور وهم يمشون بين الأشجار أو يجلسون حول النافورات أو يضطجعون على سرر من الزهر، واستطعت أيضاً أن أسمع ترنم الطيور الشادية وخرير المياه المتدفقة مختلطة بأصوات الناس وأنغام الموسيقى

ولشد ما أبهج نفسي أن رأيت ذلك المنظر الرائع وتمنيت لو أتيح لي جناحا نسر فأطير إلى هذا المكان السعيد، ولكن الجني أفهمني أن لا سبيل إليه إلا سبيل الموت؛ ثم خاطبني قائلاً (إن الجزر الخضراء التي تراها أمامك والتي تغطي سطح البحر على مد البصر أكثر عدداً من الرمال التي تغطي شاطئ ذلك البحر، ويوجد وراء هذه الجزر التي تراها أعداد أخرى لا يصل إليها نظرك ولا يمكن أن يتسع لها خيالك، وتلك هي مساكن الصالحين بعد الموت، وهم يحلون بها كل حسب درجة صلاحه، وفيها من ألوان النعيم ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. أو ليست تلك الجنان يا مرزا جديرة بأن يسعى الإنسان إليها؟ وهل تكون الحياة شقية إذا كانت وسيلة إلى تلك الغاية السعيدة؟ وهل تخشى الموت الذي يذهب بك إلى مثل هذا النعيم المقيم؟ كلا لا تحسبن الإنسان قد خلق عبثاً. وكيف يخلق عبثاً من أعدت له هذه السعادة في تلك الخبأة البهيجة؟)

وهنا خاطبت الجني قائلاً: (هل لك أن تطلعني على ما تحت هاتيك السحب التي تحجب القسم الآخر من الأسرار؟ ولما لم أتلق جواباً عن سؤالي درت رأسي لأخاطب الجني مرة أخرى، ولكني لم أجد أحداً بجواري، فتلفت ثانية نحو المنظر الذي كنت أراه أمامي ولكني لم أجد في مكان الموج الزاخر والقنطرة ذات الأقواس والجنان الخضراء سوى وادي بغداد المستطيل وقد وقفت الثيران والأغنام والإبل ترعى العشب على جانبيه.

محمود الخفيف