مجلة الرسالة/العدد 226/فلسفة الأسماء

مجلة الرسالة/العدد 226/فلسفة الأسماء

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 11 - 1937


للأستاذ عباس محمود العقاد

أقام السير رونالد ستورز طويلاً في القاهرة، واشترك في كثير من حوادث مصر والشرق الأدنى قبل الحرب العظمى وبعدها، وأعطى نفسه نصيباً وافياً من المتعة بالأدب والفنون ولاسيما الموسيقى والتصوير إلى جانب اشتغاله بالسياسة خافيها وظاهرها. وقد لقيته مرة أيام البحث في تحويل (الأوقاف) من ديوان إلى نظارة، وكان يومئذ (سكرتيراً شرقياً) لدار الوكالة البريطانية، فبدأنا الكلام بروايات برناردشو والنقد الإنجليزي الحديث، ثم استطردنا إلى أعمال الاحتلال والإدارة الوطنية فقال: أظن أن ديوان الأوقاف مختل لأنه المصلحة الوحيدة التي ليس عليها رقابة أجنبية! ولا أدري أكانت هفوة لسان منه أم كان سبراً لغوري واختباراً لمقدار ما يستبيحه من الأقوال والآراء على مسمع مني في صدد الأوقاف وتحويلها إلى رقابة الحكومة. فقلت له: إن المجلس البلدي الإسكندري أعظم اختلالاً من ديوان الأوقاف وهو مملوء بالرقابة الأجنبية. فاستدرك كلامه الأول وأخذنا في حديث آخر، وانصرفت وهو يقول بعد انصرافي للأستاذ حسين روحي الذي كان واسطة التعارف بينه وبيني: (صاحبك لا يزال في بداية الشباب)

ولم أره بعد ذلك، ولكني سمعت بمشروعاته الكثيرة ومنها ما حدثني به في تلك الزيارة، كإحياء صحيفة (المؤيد) وإنشاء بعض الصلات الأدبية والفكرية بين الغرب والشرق على أيدي المثقفين من الأوربيين والمصريين. ثم وصل إلينا في هذا الشهر كتابه الذي أسماه (تشريقات) أو مشرقيات، وضمنه تاريخ حياته في مصر وفلسطين وقبرس وبلاد العرب وغيرها من الأقطار الشرقية القريبة، فإذا هو كتاب حافل بالملاحظات واللمحات كما ينتظر من تعليقات رجل سياسي فنان حسن المراقبة للناس والمتابعة للحوادث والأحوال. ولقد أخطأ في بعض هذه الملاحظات واللمحات خطأ ربما ساقه إليه حب الزخرفة والتنميق. ولعلنا نعود إلى بيان بعضه في مقال آخر، ولكني أردت في هذا المقال أن أقف عند ملاحظة لاحظها على أسماء الخدم والخصيان في قصر الأميرة نازلي وغيره من القصور، وهي أنها محصورة في محاكاة الجواهر والرياحين قلما تخرج عنها، لأنني عنيت بهذه الأسماء في بعض الأوقات ودار البحث فيها بيني وبين أناس من المشتغلين بعلم النفس في المدارس المصرية العليا، فعللوها تعليلاً يخالف ما اعتقدت ولا يوافق المتواتر عن تاريخ الزنوج والعبيد

كنا في إحدى المكتبات العامة فدخل إليها خادم زنجي له اسم من أسماء الجواهر، فقال أستاذ واقف معنا: ألا ترون (مركب النقص يفعل فعله في أسماء هؤلاء الخدم؟ إنهم يشعرون بما لهم من بخس القيمة فيعوضونها بنفاسة الأسماء!)

وكان هذا التعليل يستقيم على ذلك الوجه لو أن الخدم الزنوج يختارون الأسماء لأنفسهم ولا يختارها لهم النخاسون والسادة الذين يشترونهم، ولكن الواقع أنهم يسمون بغير علم منهم، وعلى غير معرفة باللغة العربية ولا بأسماء الجواهر والرياحين فيها أو في غيرها

وإنما الحقيقة على ما يبدو لي أن رغبة السادة هي الملحوظة في التسمية لا رغبة العبيد والخدم المبيعين، ولهذا يقصرون تسمية العبيد على نوع من أربعة أنواع بين الأسماء: المقتنيات النفيسة وما شابهها من الرياحين الجميلة، أو ألفاظ التفاؤل، أو الشهور والأيام التي تم فيها الشراء أو تمت فيها الولادة، وإلا فكلمة عبد مضافاً إليها اسم من أسماء الله الحسنى كعبد الله وعبد الكريم وعبد الباسط وما يشعر بالتفاؤل والدعاء خاصة

فالخصيان والعبيد يسمون بجوهر وفيروز ومرجان وياقوت ولؤلؤ وألماس كأنهم قنية نفيسة يباهي بها صاحبها؛ ويلحق بهذا تسميتهم بريحان وكافور ونرجس كأنهم من أدوات التجمل والزينة في البيوت

فإن لم يكن هذا فهم يسمون بما يدل على التفاؤل والاستبشار بالخير بعد شرائهم، فيدعونهم بسعيد وبخيت وسرور وفرحات وقدم خير وخوش قدم وما إلى ذلك من ألفاظ التمني والرجاء؛ والملحوظ في ذلك هم المالكون كما أسلفنا لا العبيد والجواري

فإن لم يكن هذا ولا ذاك فأسماء العبيد تكثر فيها أسماء الأيام والشهور والمواسم مثل خميس وجمعة وشعبان ورمضان ومحرم وعيد وربيع، لأن مالكيهم حين يشترونهم لا يعرفون لهم سمة يسمونهم بها غير اسم اليوم أو الشهر الذي كان فيه الشراء

عنيت باستقصاء هذه الأسماء ودلالاتها في بلدي أسوان حيث تعيش جمهرة من الزنوج السود، وحيث يندر بيت لا يكون فيه عبد أو جارية من بقايا أيام الدراويش

ثم التفت إلى الأسوانيين أنفسهم فتبين لي من أسمائهم وحدها أن البلدة (عصبة أمم) عجيبة يلتقي فيها أناس ترجع أصولهم إلى جميع القارات ما عدا القارة الأمريكية، فمنهم من هو في أصله تركي أو كردي أو من فارس وأعلى العراق، ومنهم من هو عربي أو مغربي أو حبشي، ومنهم من هو مجري أو بشناقي أم من أهل البلقان، وبعضهم لا يذكرون هذه الأصول وإن دلت عليها حروف وإضافات في الألقاب

على أنني لم أكن أحفل بالدلالات الجغرافية والتاريخية كما كنت أحفل بالدلالات النفسية والاجتماعية، ففي هذه دليل أمتع من كل دليل على قرابة الإنسان وتشابه العقائد والخوالج بين البشر وإن باعدت بينهم البحار والصحاري وآماد الدهور

كنت أعجب لأناس يدعون بأسماء الكلاب والحشرات، وأحسب أنها ألقاب تحقير أطلقها عليهم الأعداء أو المتهكمون الماجنون ثم غلبت عليهم فعرفوا بها بدلاً من أسمائهم، ولكني علمت أن أسماء الكلاب والحشرات هي أسماؤهم التي دعاهم بها آباؤهم وأمهاتهم، وأن الآباء والأمهات قصدوا إلى ذلك قصداً ليعيش لهم أولئك الأبناء، كأنما يحقرونهم ويشبهونهم بالحيوان الأعجم والحشرة المهينة ليزهد فيهم الموت ويأنف من أخذهم إليه!

والعجيب أن هذه العقيدة كانت سارية في يونان القديمة ومصر القديمة والشرق القديم، ولا تزال سارية حتى اليوم في بعض القبائل الأفريقية التي تؤمن بالأرواح الشريرة وتخاف منها على أطفالها وصغارها، وتحصنهم منها بمحصنات شتى إحداها حقارة الأسماء أو بشاعتها. ولا شك أن اسم (معاوية) مثلاً وهي الكلبة التي تعاوي الكلاب يمت بصلة إلى هذه العقيدة، كما يمت إليها اسم هريرة وما إليه

ولحقارة الأسماء وبشاعتها سبب آخر غير تزهيد الأرواح الشريرة فيها، وذاك هو التخويف بها أو احترام (الطواطم) المعبودة حيث كان الأقدمون يتبركون بها ويعتقدون أن أسلافهم من سلالتها

ففي القبائل المقاتلة التي تعيش على الغارة ولا تزال في خوف من الإغارة عليها يسمى الرجل بما يكره الأعداء، وترى بينهم من يدعونه ذئباً أو أسداً أو حنظلة أو جمرة أو حرباً وما إلى ذلك من المخوفات والمنفرات

وفي القبائل التي تؤمن أو كانت تؤمن (بالطواطم) يسمى الرجل كلباً أو ثعلباً أو صقراً أو نسراً كما يتفق من أصول الطواطم القديمة الباقية بعناوينها وإن نسيها أبناء القبيلة ويقول السائحون بين القبائل التي على الفطرة إنهم يكرهون البوح بأسمائهم ويستريبون بمن يسألهم عنها، لاعتقادهم أن الاسم جزء من الإنسان من عرفه استطاع أن يسلط على صاحبه أرواح الشر والمرض واتخذه هدفاً يقذف عليه المتاعب والملمات. ونحن المتحضرين المحدثين نحسب أننا بعيدون مترفعون عن هذه الطبقة المسفة من طبقات العقول الآدمية، حتى نسمع (سحاراً) يسأل عن اسم المقصود بالسحر واسم أمه فنعلم أن المسافة بيننا وبين الفطريين أقرب مما نتوهم، ولاسيما في سراديب الظلام التي يهبط إليها من يهبطون ساعة الفزع أو ساعة الضغينة

ولا ريب أن حياة الأمة بين ماضيها وحاضرها تتمثل كثيراً في أسماء أبنائها؛ فنعلم أن الأقوام التي تنحصر أسماؤها في الظواهر الطبيعية سماوية كانت أو أرضية إنما هي أقوام فطرية لم تدرك من العلامات غير هذه الظواهر لتمييز الرجال والنساء، وأن الأقوام التي تظهر فيها أسماء الصناعات كالنجار والحداد والقصاب والزيات والعطار والعقاد قد تقدمت أشواطاً في الحضارة، وأن الأقوام التي تظهر فيها العناوين الاجتماعية قد عرفت بذخ الملك وألقاب التشريف ومراتب الطبقات، وأن الأقوام التي يذكر فيها الحرب والبطش والعداء قد درجت على الغزو ورعاية الماشية، والتي يذكر فيها الهدى والرشد والصلاح وأوصاف الفضائل قد أخذت بقسط من الدين وفلسفة الإخاء، وقس على ذلك ما تنم عليها معاني الأسماء وتراكيبها

بل ربما استطلعنا تاريخ الأمة السياسي من بعض الأسماء. فاسم (تفيدة) في مصر يدل على أن المصريين كانوا زمناً من الأزمان يتشبهون بالترك تشبه المحكومين بالحاكمين، إذ الاسم في أصله عربي صحفه الترك من (توحيدة) لأنهم ينطقون الواو فاء ولا ينطقون الحاء، فأصبح تفيدة ونقلناه نحن عنهم نقل المحاكاة

بل ربما عرفت الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الرجل من دلالة اسمه واسم أبيه، فالأغنياء مثلاً قلما يسمون أبناءهم بعبد الغني أو عبد الرزاق، والمثقفون قلما يسمون أبناءهم بالأسماء المنسوبة إلى أماكن وبلاد إلا لمناسبة مفهومة، فالرجل المثقف لا يسمي ابنه (حجازي) أو (حبشي) وهو لم يولد في الحجاز أو الحبشة أو في موسم حج وعلاقة حبشية، ولا يسمي ابنه (مرسي) وهو لم يولد في مرسية ولا في مكان إلى جوار المرسي أبي العباس وما شابه ذلك من المناسبات

وربما ألممت بقبس من تاريخ الأسرة وتكوين ذريتها إذا سمعت اسم رجل أو امرأة منها. . . فإذا سمعت في الصعيد باسم (قنعنا) فاعلم أنها اسم بنت لها أخوات ثلاث أو أربع، ويغلب أن تسمى إحداهن (رضينا) والأخرى (حمدنا) وهكذا مما يشف عن الغيظ وعن الخوف مع ذلك من التمرد والشكاية

ونحن نعرف أسماء كثيرة تكذب مسمياتها: حسن وهو دميم، وبدر وهو مظلم، وعزيز وهو ذليل، وصادق وهو كاذب، وسليم وهو شديد الإيذاء، ولكني لا أعرف اسماً يكذب مسماه أدل على المجون والظرف من اسم (قبيحة) جارية الخليفة (المتوكل) وقد كانت أشهر جواريه بالصباحة وروعة الجمال؛ ولخير ألف مرة أن يفاجأ الإنسان هذه المفاجأة من أن يترقب الحسن فيخيب رجاؤه بمرأى قبيح ومخبر لئيم. ومن سمع اسم (قبيحة) قنع بجمال يسير ليرضى ويبتهج، أما من سمع اسم (جميلة) فهو يحسب أنه مغبون مخدوع إن لم ير هذه الجميلة في الذروة العليا من الجمال

إن فلسفة الأسماء بحث ليست له نهاية، وفيما تقدم نموذج لمن يشوقه أن يسترسل فيه

عباس محمود العقاد