مجلة الرسالة/العدد 227/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 227/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1937



كان ما كان

تأليف الأستاذ مخائيل نعيمة

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

كان ما كان. . . ألا إنها كلمة سحرية تفيض بالذكريات والأحلام، وتفتح على النفس آفاقاً من الماضي، وما أحب الماضي إلى النفس وإن كان كله الشقاء! ولعل هذا المعنى هو الذي لحظه الأديب اللبناني الأستاذ مخائيل نعيمة في وضع هذه الكلمة عنواناً لمجموعة من قصصه، وهي مجموعة تشتمل على ست قصص وفصل من رواية مسرحية اسمها (جمعية الموتى) كان الأستاذ قد كتبها عن المجاعة اللبنانية إبان الحرب. ونعيمة لاشك أديب قصاص، عنده طبيعة فنية، وله في فنه ميزات ومواهب، وهو في قصصه يحيا حياة روحية نبيلة كلها صفاء وتصوف، فعنده (أن الفطرة حقيقة صافية، والمدنية رياء موشى) وهو (يحب الروح النظيفة في جسم قذر، عن الروح القذرة في جسم نظيف) ومن رأيه (أن الأرض روح طاهرة في جسم طاهر لا تساد ولا تستعبد، فهي ميزان العدل الإلي، ولذلك لا تخجل من أن تنبت الوردة والشوكة والقمحة)، وإنه لينظر إلى سبل الحياة في الشرق والغرب، فيرى (الشرق يسير إلى المحجة ومركبته قلبه، وجياده عواطفه وأفكاره، وأعنته إيمانه وتقاليده المتصلة بالآزال، بينما الغرب يسير في مركبة روحها البخار أو الكهرباء، وعضلاتها لوالب ودواليب من حديد وفولاذ، وأعنتها ادعاؤه واعتداده بنفسه). ومع أن الغرب يلتفت إلى الشرق هازئاً، والشرق يبهره ما يرى فيقر للغرب بالمجد، فإن نعيمة يرفع الشرق في روحانيته الصافية، على الغرب في ماديته الملوثة؛ وهو يأسف على الشرق إذ (يطرح مركبته، ويبيع روحه، ليحصل على مركبة كمركبة جاره)، لأن الحياة المادية في الواقع (حياة مقنعة) كلها زحمة باطلة، وجلبة فارغة، وما الإنسان في وسط هذه الجلبة إلا (كالهر يلحس المبرد فيتلذذ بطعم الدم السائل من لسانه جاهلاً أنه دمه. . .)

ونعيمة أيضاً رجل باحث، يعاني النقد والدراسة التحليلية، وله (سياحات في ظواهر الحياة وبواطنها). ولاشك أن القصاص في حاجة إلى مواهب الباحث، من دقة الملاحظة، وصواب الفكر، وحسن التقدير؛ ولكن ليس من الصواب أن يفنى شخص القصاص في شخص الباحث، حتى لا يضعف النهج القصصي في القصة كما يلاحظ في بعض قصص نعيمة؛ فهو يهتم بأن يقول لك كل شيء في نفسه، ويعنيه كثيراً أن يشرح كل شيء يعترضه؛ ومن ثم فهو يستطرد كثيراً ويخرج بك إلى كل ناحية تتصل بالحديث، ومن ثم كانت القصة عنده فكرة قويمة، وحكمة غالية، وبحثاً اجتماعيا كاملاً، ولكنها ليست على ما يجب من الاستواء الفني والاتساق القصصي، فأنت تقرأها وكأنك تقرأ مقالاً ممتعاً، أو بحثاً ضافياً؛ ولقد تعمد إلى بعض أجزائها بالحذف فما يضير ذلك، ولا هو يقطع صلة الحوادث في القصة؛ ولقد تجده يطيل كثيراً في التحليل النفسي للأشخاص إطالة قد تتحملها القصة الطويلة، ولكنها لا تليق بالقصة القصيرة. وإليك مثلاً: تلك القصة التي أسماها (ساعة الكوكو) والتي صدر بها الكتاب، فإن نعيمة قد حشاها بكثير من الحكم والمواعظ، ونقل فيها كلاماً طويلاً من كلام (بو معروف) وعرض فيها لشخصية (خطار) فحللها تحليلاً نفسانياً دقيقاً صور فيه كل شيء حتى الخواطر والأحاسيس، وساق كلاماً عن الشرق والغرب، والمادية والروحية، ولكنه ساق كل ذلك مساقاً إن اغتبط به فكر الباحث فلن يرتضيه تقدير القصاص، لأن القصة ليست خطاباً يلقى أو حكاية تروى، ولكنها حدود مرسومة، وأبعاد مقدرة، وحبكة قوية في البدء والنهاية، وخطة هي طبيعة الحياة ومظهر الواقع؛ وبالجملة فهي قطعة فنية مستوية لا استطراد فيها ولا زوغان. ولو أن نعيمة راعى ذلك في قصصه لكان من غير شك سباق الحلبة وحامل لواء القوم في القصة

أما أسلوب المؤلف فأسلوب سهل مرسل، يريده نعيمة على أن يكون أداة لإفهام القارئ فحسب. ولقد يهمل حق البيان واللغة في بعض الأحيان، فيقدم حيث يجب التأخير، ويحذف في مقام الذكر، ويرجع بالضمير إلى غير ما هو له، كأن يقول: (ولا يزال نحو المائة منهم ينتظرون الدخول وراء السور) يريد ولا يزال نحو المائة منهم وراء السور ينتظرون الدخول. وكأن يقول: (لكنهم يبكون كلاماً، وينوحون من قلوب ضاحكة وأجواف مفعمة) يريد أن بكاءهم لا حزن فيه وأنهم ينوحون وأجوافهم ممتلئة (بالسرور)، ولكن العبارة لا تفي بما يريد، لما في صدرها من الخطأ اللغوي، ولما في عجزها من القصور. وكأن يقول في بعض تشبيهاته: (فكأن دماغي قد تحول إلى مسحوق دقيق ذرته يد خفية في هاوية تلبدت بدخان) وهذا تشبيه لا يسوغه الذوق البياني

على أننا لو تجاوزنا عن مثل هذا فما يصح أن نتجاوز عن حق اللغة والنحو في مثل قوله: (ويلتقي الأخ أخاه) وقوله: (لنشاركه بالفرح) وقوله: (ولا يلعب بالقمار) وقوله: (كانت تحوي على صفات) وقوله: (فلنباشر يفحصهم) وقوله: (وذقنك المستطيلة وأحناكك النافرة) إلى آخر ما هنالك من التعابير التي لا أحسب أن نعيمة الناقد يرضاها من غيره. وهل من اللائق أن تكون الفكرة من الذهب وأن يكون لبوسها من الخشب؟!

ثم هناك هنوات طفيفة كأن يقول (ص57) واختلت مع جميل في مخدعها، وسياق الكلام يقضي أنها اختلت مع عزيز وما أحسب ذلك إلا سبق قلم

وفي قصة الكوكو (ص8) يقول: في حقيبتي رسالة تسلمتها في أيار سنة 1922 والذي في ذيل القصة أنها كتبت بتاريخ سنة 1915 ولعل هذا من تحريف الطابع

أما بعد، فقد كانت فترات طيبة تلك التي قضيتها في قراءة (كان ما كان)، وما أبالغ إذا قلت إن نعيمة قد غمرني بفيض من الفكرة (الروحية البحتة) التي يخدمها ويخلص لها في قصصه. وإنها لفكرة سامية ما أحوج الناس إليها وقد جرفتهم أوضار المادة الفاسدة، ولكن من لها بأمثال نعيمة في روحانيته وإخلاصه؟

محمد فهمي عبد اللطيف