مجلة الرسالة/العدد 227/دراسات في الأدب الإنكليزي

مجلة الرسالة/العدد 227/دراسات في الأدب الإنكليزي

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1937



جون ملتون

للأستاذ خليل جمعة الطوال

تتمة

خلاصة الفردوس المفقود

تقع هذه الملحمة بعد تنقيحها في اثني عشر جزءاً، وقد نقلها العلامة دريدن والشاعر الفذ (لوريت إلى أوبرا تمثيلية بطولية، وذلك بإذن مؤلفها عام 1674؛ وجعلا عنوانها وإليك خلاصة موضوعها:

(1) يحتوي الجزء الأول من هذه الملحمة على خلاصة موجزة لها. وبعدها يصف ملتون كيف أن الشيطان يتمرد على الله تعالى مع طغمة من الملائكة الأشرار، فيسقطهم الله في جهنم المتقدة حيث يفقدون الوعي مدة وجيزة، وبعدها يثوبون إلى رشدهم، ويقف إبليس فيهم خطيباً، ويذكرهم بالنبوة التي جاء فيها أن الله سيخلق خليقة جديدة وعالماً جديداً، ويقترح عليهم أن ينتقموا من هذه الخليقة الجديدة التي سيخلقها الله - لمجدهم الضائع

(2) فيعقد الملائكة الأشرار وعلى رأسهم إبليس اجتماعاً هاماً في مجلس إبليس الخاص ويدرسون فيه هذا الاقتراح وطرقة تنفيذه، فيقر أمرهم على إيفاد أحدهم إلى ذلك العالم لينشر فيه روح الشر، ولينصب فيه فخ المكيدة، فيتعهد إبليس أمر هذه الرحلة الخطرة، ويشرع بها وهو غير عابئ بما فيها من الصعوبات الجمة، فيصل أبواب الجحيم وقد سهر على حراستها وحشان غريبان مخيفان، فيتخطاهما بكل صعوبة وجهد. وبعد سفر طويل يواجه ذلك العالم الأرضي الجديد

(3) ثم يُبصرُ الله تعالى، وهو جالس على عرشه الشيطان وهو مسرع نحو ذلك العالم الجديد، فيشفق على خليقته الجديدة من شره، ولكنه يعدُ بإرسال ابنه فدية. أما الشيطان فيواصل السير حتى يصل إلى الشمس ويتقابل هناك مع (أوريال) - ملاك الشمس - فيرشده هذا إلى طريق العالم الجديد الذي جعله قبلته، فيسلكها حتى يصل إليه، وهناك يستريح على قمة أحد الج (4) ثم يبحث عن طريق الجنة، فيتسلل إليها بعد أن يتقمص جسم (غراب الماء وهناك يجثم على غصن من أغصان شجرة الحياة، ويأخذ في التطلع حوله، فيدهشه جمال الجنة الرائع، ثم ينظر آدم وزوجه حواء أثناء رجوعهما من صلاة العشاء للاستراحة

(5) وفي الليل ترى حواء حلماً مزعجاً، وتقصه في الصباح على آدم فيفسره هذا بما يسكن من روعها، ثم يذهبان للصلاة وبعدها يشرعان في الشغل في الجنة

(6)، (7)، (8) ثم يرسل الله الملاك رفائيل إلى آدم فيحذره من مكيدة إبليس، ويدور بينهما حديث طويل جداً

(9) ويعلم حارس الجنة بوجود إبليس فيطرده منها، ولكنه يرجع إليها ثانية في الليل بشكل الضباب، ثم يتقمص جلد حية. وفي الصباح التالي تقترح حواء على آدم أن يشتغل كلٌ منهما منفرداً عن رفيقه فيلبي اقتراحها، فيجد الشيطان الفرصة سانحة لتنفيذ مكيدته، فيسير إلى حواء ويغريها أن تأكل من الثمرة المحرمة، فتأكل وتناول بعلها فيأكل هو أيضاً

(10) فيحكم عليهما الله تعالى بالعذاب والموت ويطردهما من الفردوس. أما الشيطان فيرجع إلى بطانته مسروراً جذلاً

(11) ثم يندم آدم وحواء على إثمهما، ويطلبان منه تعالى الصفح، فيصفح عنهما ولكنه لا يرجعهما إلى الجنة ثانية

(12) بل يعدهما بإرسال ابنه ليكفر بموته عن خطيئتهما

أشعاره وشاعريته

قال العلامة (جون دريدن) وهو من معاصري ملتون: لقد جمع ملتون في شعره بين الجيد والرديء، وبين الجليل والمبتذل، وذلك لأنه كثيراً ما كان يعتسف النظم على غير حضور بديهته أو شبوب عاطفته؛ ولكن هذا لا يضع من مكانته كشاعر فذ ومفكر نابغ؛ إذ ليس من الضروري أن يكون الشاعر حاضر الخيال متوقد العاطفة في كل مناسبة يشعر فيها. وهل من الضروري أن تكون الشمس دائمة الإشراق والنور لنستدل على وجودها في الكون؟؟؟ ولست أرى مثيلاً لهذا القول إلا رأي سلم الخاسر في شعر أبي العتاهية إذ يقول: شعر أبي العتاهية كساحة الملوك، فيها الدرُّ والساقط. . .

ولئن لم يكن ملتون متوثب الشعور في جميع أشعاره، لقد جمع في شعره بين إحساس العاطفة ورزانة العقل، أو قل بعبارة أوضح بين الشعر كفن والفلسفة كميزان لجميع الفنون والعلوم. تدل على ذلك قصائده العديدة التي تحمل خلال جميع أبياتها جرثومةً من مسحة العقل وأثراً من عمق التفكير. وما أشعاره في الحقيقة إلا قبس من النور يومض في عتمة تلك الحروب المذهبية السياسية الحالكة التي اندلعت في إنكلترا بسبب تحطيم الأرستقراطية على صخرة الديمقراطية الناشزة. وهل أوحى إلى ملتون بملحمة الفردوس المفقود غير ذلك النزاع الذي خاض غماره؟ أم هل كانت أشعار ملتون جميعها إلا صورة جلية تتبين منها حقيقة ذلك النزاع؟

ابتدأ ملتون يعبث بالشعر ولما يبلغ بعد الثالثة عشرة من العمر. ولئن كانت أشعاره إذ ذاك خالية من ابتكار المعنى إلا أنها كانت - بالنسبة لصغر سنه - تحمل بين أسطرها جراثيم النبوغ والتفوق. فهذه قصيدته الشهيرة المعروفة والتي نظمها عام 1629 تكاد تكون لروعتها وجمالها خير قصيدة غنائية في الشعر الإنكليزي، بل هي من فتىً حدث كملتون لم يبلغ بعد حدّ نضوج العقل والعاطفة، أروع قصيدة على الإطلاق. . .

وفي عام 1633 نظم ملتون قصيدتين رائعتين وهما:

(1) ' و (2) وقد أجمعت آراء الأدباء على أنهما خير نموذج للجيد من شعره، وذلك لما فيهما من الدقة البالغة في التصوير والحرارة الملتهبة في الشعور. وفي عام 1634 نظم قصيدة القومس وهي قصة شعرية دراماتيكية، يكثر فيها ظهور الأحراج والأشباح الغيبية، ولكنها ليست من دقة الفن بقياس قصص شكسبير الدراماتيكية التي من نوعها - كدرامة كما تحب مثلا - وذلك لأن شكسبير كان شاعراً بالفطرة، وبارعاً في تمثيل سوءات المجتمع وعاداته؛ وهو إذ ينظم القصيدة فكأنما يصور بالألفاظ عواطفه الحساسة، وينحت في صخر اللغة مشاعره الوثابة، بينما كان ملتون - مع اعترافنا به كشاعر فذ - مبالغاً في التصنع، ومسرفاً في إجهاد القريحة، واستفزاز المخيلة، فمعانيه - في معظمها - تكاد تقرب من الابتذال في شيوعها، وأخيلته إلا القليل منها مستكرهة على الشعر، ثقيلة على الطبع لشذوذها. وليس أدل على هذا من مناجاة كومس لليدي!! ولعل خير قطعة في هذه القصيدة هي تلك التي تمثل الشجار بين ليدي وكومس، وذلك لأنها قطعة فنية من نفس ملتون الثائرة المتمردة التي تهزها الثورة أكثر مما تحركها الدعة والطمأنينة، ولأنه في هذه القطعة إنما ينفض علينا مكنون طويته ويصور لنا دخيلة نفسيته. وإليك تحرير المعنى في هذه القصيدة:

يذهب أخوان وأختهما إلى حرج عظيم كثيف، فتضل الأخت طريقها في هذا الغاب، فيتركها أخواها هائمة على رأسها تائهة في طريقها، ولا يهتمان ألبتة بما تقاسيه في ذلك الحرج المخيف من مرارة الجوع، وحرارة العطش، وألم الوحدة، ووحشة الغابة التي ترتعد منها الفرائص. ويذهبان بعيداً عنها في جمع ثمر العليقي؛ حتى إذا تضيفت الشمس للمغيب عادا إلى بيتهما تاركين في الغابة القفر أختهما الوحيدة ضحية للألم والجوع، وفريسة للوحوش والسباع

فأنت ترى أن مثل هذا التخيل الفسل المكروه ليس من الحقيقة في شيء، إذ ليس من الممكن للطبع البشريّ مهما أوغل في التحجر والقساوة أن يتصور وقوع مثل هذه المأساة الخيالية الملفقة!!

أما الصونيتس فقد كتبها في فترات متقطعة ومناسبات كثيرة. ويذهب جونسون في نقده لملتون إلى أن - الصونيتس - ليست من الفن الشعري بدرجة تستحق أن توضع في غربال النقد. ولكنها مع ذلك عذبة اللفظ طلية الأسلوب. وفي عام 1644 ألف الـ وهي رسالة نقدية دافع فيها عن حرية الطبع والنشر دفاعاً قيماً في وقت بلغ فيه التزمت حداً عظيماً. أما الفردوس المسترجع فقد ألف عام 1671 وهو يمتاز عن بقية مؤلفاته الشعرية بميزات سامية كثيرة سنوردها في مقالاتنا الآتية التي سنكتبها عنه، وفي ذلك العام أيضاً ألف قصيدة الـ وسنعرض لها أيضاً فيما بعد

أسلوبه

لم يكن أسلوب ملتون على نمط واحد في جميع أشعاره، فقد كان مشرق الديباجة سلس العبارة حيث تكون الفكرة مختمرة في رأسه، والعاطفة متوثبة في صدره، ولكنه حين كان يعتسف النظم كانت تجيء أشعاره ملتوية العبارة، غامضة المعنى، ووعرة الأسلوب

وتدل أشعاره العديدة التي كتبها بخط يده والتي لا تزال محفوظة في مكتبة كلية ترنتي في كمبردج على أنه كان مولعاً بصيد أوابد الكلمات، واستقصاء غريب الألفاظ. ومما تجب الإشارة اكتظاظ أسلوبه بالكلمات اللاتينية المهجورة قال العلامة ماكولي في مقالته عن ملتون: ألم تسمع قط بتأثير الشعر السحري وبتياره الكهربائي العنيف؟ ألم تسمع قط بالأسلوب الرائع الذي يقيد عليك مشاعرك ويهز منك جميع أوتار حسك؟ أما سمعت قط بالشعر الذي يأسر القلب، ويذيب العاطفة؟ إن هذه الصفات جميعها إن هي إلا من مدلولات شعر ملتون وأسلوبه. . . لم يكن ملتون بارعاً في ابتكار المعاني، إلا أنه كان كثيراً ما كان يتناول المعاني المبتذلة الشائعة فيسبكها في قالب لفظي متين يزيد في روعتها وجمالها ويجعل منها أفكاراً سامية تسحر العقل وتذهب اللبّ. على أنك لو بدلت كيفية صياغتها اللفظية، أو حوَّرت ولو قليلا أسلوبها الذي صيغت به لما كان لها أي أثر في نفسك أو تقدير في قياسك

خاتمة حياته وموته

لقد عاش ملتون وهو في عنفوان الشباب عيشة مترفة رخية، شأن أبناء ذوي اليسر والجاه، ولكن الدهر أبى ألا أن يقلب له ظهر المجن، ويجرعه كأس الشقاء المرة حتى الثمالة. ففي عام 1652 غشيت إحدى عينيه، ثم ابتدأت المصائب تنثال عليه بغير حساب، فقد شُرد وطُرد وغرم في أمواله وأملاكه ثم أصيب بداء النقرس. ونفي خارج وطنه وأهله أكثر من مرة. وأخيراً عزل من منصبه السياسي الذي كان يتبلغ براتبه. وفي عام 1662 فقد عينه الأخرى فتم عماه؛ إلا أن هذه المصائب كلها لم تضع من عنجهيته، ولا فلت من شباة نفسه، بل صادفها وتقبلها بقلب وادع مطمئن وصدر عامر بالإيمان والثقة بالنفس. ولئن كان لها من أثر يذكر في نفسه فذلك أنها شحذت قريحته وأرهفت إحساسه، ووثبت شعوره، وزادته جلداً على الدرس، ومثابرة على الاجتهاد

تزوج ملتون ثلاث زوجات. والراجح أنه لم يكن موفقاً في غرامه ولا سعيداً في زواجه. وقد توفي في شهر نوفمبر عام 1674 في مزرعة بنهل تاركاً وراءه زوجه الثالثة، وثلاث بنات. وقد قبر في مقبرة. وبعد وفاته بسنين عديدة أقيم له نصب تذكاري في وست منستر أبي. وهكذا بات ملتون مزملاً بنبوغه وشهرته، تئن رفاته في جدثها من ظلم المنتقصين المغرضين، وغلو المناصرين المفرطين.

خليل جمعة الطوال أسانيد البحث

1 -

2 - 1779.

3 -

4 -

5 -

6 - 1825

7 -

8 -