مجلة الرسالة/العدد 227/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 227/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1937



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 12 -

- لقد وضعك حسنك في طريقي موضع البدر؛ يرى ويحب ولا تناله يد ولا تعلق بنوره ظلمة نفس، لكن كبرياءك نصبتك نصبة جبل شامخ: كأنه ما خلق ذلك الخلق المنتثر الوعر إلا لتدق به قلوب المصدعين فيه. . . كوني من شئت أو ما شئت، خلقاً مما يكبر في صدرك أم مما يكبر في صدري؛ كوني ثلاثا من النساء كما قلت أو ثلاثة من الملائكة، ولكن لا تكوني ثلاثة آلام. انفحي نفح العطر الذي يلمس بالروح، واظهري مظهر الضوء الذي يلمس بالعين، ولكن دعيني في جوك وفي نورك. اصعدي إلى سمائك العالية، ولكن ألبسيني قبل ذلك جناحين. كوني ما أرادت نفسك، ولكن أشعري نفسك هذه أني إنسان. . .!)

(هو)

- (إن أمي ولدت نفسي ونفسي هي ولدتني، فلا ترج أن تصيب في طباع أنثى وإلا ضل ضلالك أيها الحبيب. . .)

- (هي)

هو وهي؟

(رجل وامرأة كأنما كانا ذرتين متجاورتين في طينة الخلق الأزلية وخرجتا من يد الله معاً؛ هي بروعتها ودلالها وسحرها، وهو بأحزانه وقوته وفلسفته. . .

(كانا في الحب جزءين من تاريخ واحد، نشر منه ما نشر وطوى ما طواه؛ على أنها كانت له فيما أرى كملك الوحي للأنبياء، ورأى في وجهها من النور والصفاء ما جعلها بين عينيه وبين فلك المعاني السامية كمرآة المرصد السماوي؛ فكل ما في رسائله من البيان والإشراق هو نفسها، وكل ما فيها من ظلمات الحزن هو نفسه!) لم تكن (هي) أولى حبائبه ولكنها آخر من أحب؛ عرفها وقد تخطى الشباب وخلّف وراءه أربعين سنة ونيفا حافلة بأيام الهناءة مشرقة بذكريات الهوى والصبابة والأحلام، وكان بينهما في السن عُمرُ غلام يخطو إلى الشباب. . .

سعى إلى مجلسها يوم (الثلاثاء) سعي الخلي إلى اللهو والغزل، يلتمس في مجلسها مادة الشعر، وجلاء الخاطر، وصقالة النفس؛ ومجلسها في كل (ثلاثاء) هو ندوة الأدب ومجمع الشعراء؛ وجلس إليها ساعة، وتحدث إليها وتحدثت إليه، وكان كل شيء منها ومما حولها يتحدث في نفسه. ولمسه الحب لمسة ساحر جعلت في لسانه حديثاً ولعينيه حديثاً. وطال انفرادها به عن ضيوفها؛ فما تركته إلا لتعتذر إليهم فتعود إليه. . . وقامت تودعه إلى الباب وهي تقول: (متى تكون سعادتي بالزيارة الثانية؟) فنهى النفس عن الهوى ونسأ الأجل إلى غد. . .!

ووقع من نفسها كما وقعت من نفسه، فما افترقا من بعدها إلا على ميعاد؛ ومحت صورتها من ماضيه كل ما كان من أيامه وكل من عرف، لتملأ هي نفسه بروعتها ودلالها وسحرها؛ وانتزعها هو من أيامها فما بقي لها من أصحابها وصواحبها غير مُصْيَفٍ مشغلةً في الليل والنهار

وكان الرافعي أول من يغشى مجلسها يوم الثلاثاء وآخر من ينصرف، فإن منعه شيء عن شهود مجلسها في القاهرة كتب إليها من طنطا وكتبت إليه على أن يكون له عوض مما فاته يومٌ وحده. . .

كان يحبها حباً عنيفاً جارفاً لا يقف في سبيله شيء، ولكنه حب ليس من حب الناس، حب فوق الشهوات وفوق الغايات الدنيا لأنه ليس له مدى ولا غاية. لقد كان يلتمس مثل هذا الحب من زمان ليجد فيه ينبوع الشعر وصفاء الروح، وقد وجدهما، ولكن في نفسه لا في لسانه وقلمه، وأحسّ وشعر وتنورت نفسه الآفاق البعيدة، ولكن ليثور بكل ذلك دمه وتصطرع خواطره ولا يجد البيان الذي يصف نفسه ويبين عن خواطره. . .

بلى، قد كتب ونظم وكان من إلهام الحب شعره وبيانه، ولكنه منذ ذاق الحب أيقن أنه عاجز عن أن يقول في الحب شعراً وكتابة، ومات وهو يدندن بقصيدة لم ينظمها ولم يسمع منها أحد بيتاً، لأن لغة البشر أضيق من أن تتسع لمعانيها أو تعبر عنها، لأنها من خفقات القلب وهمسات الوجدان

و (هي) أديبة فيلسوفة شاعرة؛ فمن ذلك كان حبها وكان حبه (من خصائصها أنها لا تعجب بشيء إعجابها بدقة التعبير الشعري. . . إنها تريد أن تجمع إلى صفاء وجهها وإشراق خديها وخلابتها وسحرها، صفاء اللفظ وإشراق المعنى وحسن المعرض وجمال العبارة، وهذا هو الحب عندها. . .)

(ولا يستخرج عجبها شيء كما يعجبها الكلام المفنن المشرق المضيء بروح الشعر؛ فهو حلاها وجواهرها؛ وما لسوق حبها من دنانير غير المعاني الذهبية؛ فإنها لا تبايعك صفقة يد بيد، ولكن خفقة قلب على قلب)

وكذلك تحابا، وتراءيا قلباً لقلب، وتكاشفا نفساً لنفس، ومضى الحب على سنته. ونظر الرافعي إليها وإلى نفسه وراح يحلم، وخيل إليه أنه يمكن أن يكون أسعد مما هو لو أنها. . . ولو أنها كانت زوجته. . . ثم عاد إلى نفسه يؤامرها فأطرق من حياء. . . وكانت خطرة عابرة من خطرات الهوى أطافت به لحظة وما عادت. وقالت له نفسه وقال لنفسه، فكأنما انكشفت له أشياء لم يكن يراها من قبل بعيني العاشق، وأوشكت القصة أن تبلغ نهايتها وتنحل العقدة، فجاءت كبرياؤه لتخط الخاتمة. . .

وراح الرافعي يوماً إلى ميعاده، وكان في مجلسها شاعر جلست إليه تحدثه ويحدثها؛ ودخل الرافعي فوقفت له حتى جلس، ثم عادت إلى شاعرها لتتم حديثاً بدأته، وجلس الرافعي مستريباً ينظر؛ وأبطأت به الوحدة، وثقل عليه أن تكون لغيره أحوج ما يكون إليها، ونظر إلى نفسه وإلى صاحبه، وقالت له نفسه: (ما أنت هنا وهي لا توليك من عنايتها بعض ما تولي الضيف. . .؟)

فاحمر وجهه وغلا دمه، ورمى إليها نظرة أو نظرتين، ثم وقف واتخذ طريقه إلى الباب. . . واستمهلته فما تلبث، وكتب إليها كتاب القطيعة. . .!

وعاد إليه البريد برسالتها تعتذر وتعتب وتجدد الحب والإخلاص في أسطر ثلاثة، ولكن الرافعي حين وجد كبرياءه نسي حبه، وكان هو الفراق الأخير. . .!

كان ذلك في يناير سنة 1924

وثابت إليه نفسه رويداً رويداً، وخلا إلى خواطره وأشجانه ليكتب رسائل الأحزان! ومضت ثلاث عشرة سنة لم يلتقيا وجهاً لوجه، إلا مرة في حفل أدبي في طنطا؛ فما كانت إلا نظرة وجوابها، ثم فر أحدهما من الميدان وخلف الآخر ينتظر. . .

على أن الرافعي لم ينس صاحبته قط، وعاش ما عاش بعد ذلك اليوم وما تبرح خاطره لحظة، وما يأنس إلى صديق حتى يتحدث إليه فيما كان بينه وبين (فلانة)، ثم يطرق هنيهة ليرفع رأسه بعدها وهو يقول: (هل يعود ذلك الماضي؟ إنها حماقتي وكبريائي، ليتني لم أفعل، ليت. . .!) ثم ينصرف عن محدثه إلى ذكرياته، ويطول الصمت. . .

وكان لا ينفك يسأل عنها من يعرف خبرها، حتى عرف أنها سافرت إلى الشام تستشفي منذ عام فأقامت هناك، فهفت إليها نفسه وتحركت عاطفته إليها في لون من الحب وغير قليل من الندم؛ فكتب إلى صديقة في (دمشق) لتزورها في مستشفاها وتكتب إليه بخبرها؛ فكتبت إليه:

(. . . . . . بالصدق يا صديقي إنني كلما استعدت بذاكرتي وصية (فلانة) المؤلمة ونتيجتها المحزنة، تعتريني حالة انقباض شديد وحزن لا حد له. . . إن الموت في مثل هذه الحالات يعد كنزاً ثميناً لا يحصل عليه إلا السعيد. وإني أتهمك قانوناً. . . بأنك كنت السبب فيما نابها، فماذا عليك لو لبيت الدعوة؟ آه، لقد كنت قاسياً وفي منتهى القسوة، فهل كان يحلو لك تعذيبها بهذا الشكل، وإلا فماذا تقصد من هذه القطيعة؟ إن المرأة على حق حين تظن، لا بل حين تعتقد أن الرجل. . . . . . لا، السكوت أولى الآن. . .)

أما هذه (الوصية) التي أوصت بها (فلانة) زائرتَها لتبلغها إلى الرافعي، فلست أعرف ما هي؛ فقد قص الرافعي هذا الجزء من الخطاب قبل أن يصل إليّ، ولست أعرف أين خبأه من مكتبه، ولعل ولده الدكتور الرافعي يدري، فإن كان عليه حقاً للأدب أن يحتفظ بما عنده من الرسائل إلى أوانها، فسيأتي يوم تكون فيه هذه الرسائل شيئاً له قيمته في البحث الأدبي

قلت: إن الرافعي قطع ما بينه وبين صاحبته منذ ثلاث عشرة سنة لم يلتقيا إلا مرة، ولكنه كان يكتب لها وتكتب له رسائل لا يحملها ساعي البريد، لأنه كان ينشرها وتنشرها في ثنايا ما تنشر لهما الصحف من رسائل أدبية، يقرؤها قراؤها فلا يجدونها إلا كلاماً من الكلام في موضعها من الحديث أو المقالة أو القصة، ويقرؤها المرسل إليه خاصة فيفهم ما تعنيه وما تشير إليه، ثم يكون الرد كذلك: حشواً من فضول القول في حديث أو مقالة أو قصة؛ هي رسائل خاصة ولكنها على أعين القراء جميعاً وما ذاع السر ولا انكشف الضمير، وفي أكثر من مرة والرافعي يملي عليّ مقالاته - كان يستمهلني قليلاً ليُعَيِّث في درج مكتبه قليلاً فيخرج ورقة أو قصاصة يملي عليّ منها كلاماً، ثم يعود إلى إملائه من فكره، وأعرف ما يعنيه فأبتسم ويبتسم ثم نعود إلى ما كنا فيه؛ وتنشر المقالة، فلا نلبث أن نجد الرد في رسالة تكتبها (فلانة) فيتلقاها الرافعي في صحيفتها كما يفض العاشق رسالة جاءته في غلافها مع ساعي البريد من حبيب ناء. . .

هي طريقة لم يتفاهما عليها ولكنهما رضياها، وأحسب ذلك نوعاً من الكبرياء التي ربطتهما قلباً إلى قلب، والتي فرقت بينهما على وقدة الحب وحرقة الوجد والحنين. . .!

وكنت مع الرافعي مرة بالقاهرة في شتاء سنة 1935، فقال لي: (مِلْ بنا إلى هذا الشارع!) ولم تكن لنا في ذلك الشارع حاجة ولكني أطعته، وانتهينا إلى مكان، فوقف الرافعي معتمداً على عصاه، ورفع رأسه إلى فوق وهو يقول: (إنها هنا، هذه دارها، من يدري، لعلها الآن خلف هذه النافذة. . .!)

قلت: (مَن؟) قال: (فلانة!)

قالت: (ولكن النوافذ مغلقة جميعاً ولا بصيص من نور؛ فأين تكون؟)

قال: (لعلها الآن في السيما. إذا كان الصباح فاغْدُ عليّ مبكراً لنزورها معاً، إن بي حنيناً إلى الماضي. . . ليتني. . . ولكن أترى من اللائق أن أزورها بعد كل ما كان؟)

قلت: (وما يمنع؟ أحسبها ستسرّ كثيراً بلقياك. . .!)

قال: (إذن في الصباح، ستكون معي، ولكن احذر، احذر أن تغلبك على قلبك. . . أو تسمح لخيالك أن يسبح وراء عينيك. . . إنها فاتنة!)

قلت: (لا، إنها عجوز، فما حاجتي بها. .؟) وضحكت مازحا

فزوى ما بين عينيه وهو يقول: (وَيْ! عجوز، إنها أوفر شباباً منك!)

قلت: (قد يكون لو وقفت بها السن منذ اثنتي عشرة سنة. . .!)

قال: (صدقت. . .! اثنتى عشرة سنة. . .!)

وسكتَ وسكتّ حتى أوصلته إلى الدار، فلما كان الصباح غدوت عليه فأذكرته موعده، فابتسم ابتسامة هادئة وهو يقول: يا بنيّ، إنها ليست هناك، إن (تلك) قد ذهبت منذ اثنتي عشرة سنة، أما (هذه) فأظنني لا أعرفها. . . إنني أحرص على الماضي الجميل أن تتغير صورته في نفسي. . بحسبي أنها في نفسي. .!)

ثم يلبث بعد ذلك أن جاءه أنها سافرت إلى الشام لعلة في أعصابها. . .!)

(لها بقية)

محمد سعيد العريان