مجلة الرسالة/العدد 228/القصص

مجلة الرسالة/العدد 228/القَصصُ

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1937



من أساطير الإغريق

3 - خرافة جاسون

للأستاذ دريني خشبة

- (ولمه؟ ألست بن ملك مثلها؟ ألست صاحب عرش عظيم؟ أليس لي ملك تساليا بعد أن أعود من رحلتي هذه؟

- بلى يا بني! ولكنها تخشى أباها أشد الخشية. أليس يرى فيك عدوه الأكبر لما تريد من استلابه الفروة الذهبية التي هي أكبر كنوزه؟

- دعي هذا الآن يا أماه، ولكن طمئنيني كان الله لك، هل تحبني ميديا حقاً؟

- ومن أنبأك هذا؟

- نبأَتْنِيه ربة من السماء لا تضل ولا تنسى!

- ربة؟ تقدس اسمها؟! من عساها تكون يا ترى؟

- هي جونو يا أعز الأمهات! لا أكذبك، إنها جونو!

- أتعرف ما تقول؟

- وهل يكذب بشر على آلهته؟

- إن كان ما تقول حقاً. فلا أذيع سراً أذاعته سيدة الأولمب، ومليكة جوف الكبير المتعال؛ أن ميديا يا بني مولعة بك ولوعاً شرد المنام من عينيها، وجعلها في أيام معدودات طيفاً لا يردد لسانه غير اسمك، ولا تذرف عيناه إلا من أجلك. . و. .

- ميديا تبكي؟ ومن أجلي؟ ولم تبكي؟

- تبكي لأنك كلفت بأمور لا تحملها الجبال! وأين أنت من عِجَلْي فلكان والأرض الجَبُوب التي لمارس؟ ومن أنت والجيش العرمرم من المردة من نبات أنياب التنين؟ ثم من أنت وما هذا كله في التنين الهائل الذي يحرس الفروة؟ حقاً لقد جازفت بنفسك حين وافقت الملك على خوض تلك المخاطرة. .

- وما الرأي إذن ولابد مما ليس منه بد؟ - الرأي أن تلقى ميديا فهي حبيبتك، وإن عندها، فضلا عن ذلك، أم كتاب السحر، ولن تبخل عليك بعلمها مهما كلفها ذلك من حَنَق أبيها، وإغضاب أربابها

لقد كان الليل يضرب على العالم بجرانه، وكانت النجوم تلتهب في فحمته كقلوب المحبين، والفرقدان يتقدان من هول الزيارة المضروبة بين العاشقة المُدَلّهة، والفتى المقاحم ذي الآمال

وأقبل جاسون فوجد العجوز تنتظره عند الباب الخلفي. . . وهمست إليه فسار في إثرها حتى كانا عند منعرج مُسَوّج بنبات ذي عساليج، يؤدي إلى رحبة واسعة ينتشر في أرجائها أرج الورود والرياحين، حتى ليوقظ القلوب النائمة، ويعطرها بفغمة الحب، ويسكرها برحيقه المختوم الذي كله لغو وتأثيم!

وهناك، كانت تنتظره ميديا بنفس غرثى، وقلب ظامئ خَفِق، فلما رأته غمرها إحساس ثائر، واستولت عليها عاطفة صارخة، لم تستطع معها إلا أن تلقي بنفسها على صدره القوي الرحب، تبلله بدموعها. . .

ووقف جاسون ساكناً هادئاً، كأنما كان يوجس خيفة من هذا الحب الذي أقبل فجأة يهاجمه ويَدّارأ عليه، ويدفع بعضه بعضاً من حوله. . . لقد كان قلبه بارداً كالثلج، وذراعاه جامدتين كالرخام. . . وكانت ميديا تبكي وتنثر اللؤلؤ من عينيها المرتجفتين، ولكنه لم يستطع أن يرد تحية واحدة من تحايا هذه الدموع. . . وكأنما كان يحس، حينما كانت الفتاة تلف ذراعيها حوله، أن حية رقطاء تتحوّى عليه، وتنفث سمها فيه. . . لماذا؟ لم تكن إلا الآلهة وحدها تدري!!

- جاسون. . . أحبك. . . أحبك من أعمق أغوار قلبي! لم أكن أعرفك قبل أن رأيتك من الشرفة تكلم أبي، فلما رأيتك فنيت فيك. . .

- أشكرك يا عزيزتي. . . أشكرك شكراً لا أدري كيف أعبر عنه!

- جاسون! ألا تكون لي إلى الأبد؟

- أنا خادمك. . . بل عبدك إذا شئت!

- لم رَضيت لنفسك ما عرضه عليك أبي يا جاسون؟

- وماذا يخيفني يا ميديا؟ نحن الإغريق لا نرهب الردى، ولا نخاف الموت! - هذا جميل. . . ولكن الموت أكره الأشياء وأقبحها لمثل هذا الشباب!

- قد أنتصر، والنصر، لاسيما في المخاطرات، أجمل تاج يتألق على جبين الشباب!

- هذا محال إذا لم أساعدك!

- تساعدينني؟

- أجل!

- وكيف؟

- عِدْني أولاً!

- وبماذا أعدك يا أعز الناس!

- أن تكون لي. . . أن نتزوج!

- أعدك!

- بل أعطني موثقك!

- أقسم لك!

- بل احلف بجونو؛ فهي حارستك! وأحلف بهياكاتيه!

- أ. . . أ. . . أحلف! أحلف بجونو! وبهياكاتيه!

- تحلف بجونو ماذا؟

- أحلف بجونو أن نتزوج!

- وأن يعيش كل منا للآخر إلى الأبد!

- إ. . . إ. . . إلى الأبد؟!

- إذن. . . لا ضير عليك. . . ستنجو من كل شيء يا جاسون. . . خُذْ!

- ماذا يا ميديا؟

- أسلحتك التي تقيك!

- أسلحتي!؟ هاتان عُلْبَتَان. . . وهذا حجر أسود صغير! أكل هذه أسلحتي؟ ماذا أصنع بها؟

- علبة من فضة إذا فتحتها اصّاعدت منها ريح تفل من حدة عِجْلَيْ فلكان، وتقي وجهك حر النار التي ينفثانها من منخريهما، فتستطيع أن تلجمهما، وتضع على عنقيهما النيّر حتى يكون المِقْوَم بيدك. . . أما الحجر الأسود الصغير فتقذفه وسط المحاربين الذين تنبتهم أرض مارس الجَبُوب، وإنه لحجر مُسَوَّم من سجيل، يجعلهم كعصف مأكول! وأما العلبة الصغيرة الذهبية فتنثر مما بها من طيب في وجه التنين فيسكر وتتخدر أعصابه وينام لساعته، ولك عندها أن تقضي عليه. . .

وسكتت ميديا. . .

ومدت فمها إلى جاسون، فطبع عليه قبلة فاترة خائفة ترتجف وترتعد، مما سمعت من سحر الحجر الأسود، وريح العلبة الفضية، وطيب العلبة الذهبية!!

وكان الجو العبوس القمطرير يزيد في منظر الحفل الحاشد روعةً ورهبة؛ وكان الملك الجبار يملأ بجسمه الضخم عرشه الممرد فوق الأكمة المشرفة على الأرض الجبوب المقدسة باسم مارس، وكان الناس الذين أقبلوا من كل فج مُشَاةً وعلى كل ضامر يجلسون على الشعاف وأَحْيَاد الجبال المطلة على الميدان متزاحمين متدافعين كأنهم في يوم حشر. . . وكان إخوان جاسون يجلسون عصبة بينهم وفي قلوبهم حسرات على صاحبهم، وألسنتهم ما تفتر عن الدعاء له، والتوسل إلى الآلهة من أجله. . . وكانت ميديا العتيدة تجلس في ركن من مقصورة الملك تشعوذ وتُعَوّذ وتطلق الرُّقى. . .

ثم دق الناقوس الكبير فصمت الناس وشملهم سكون عجيب. . وانفتح باب الزّرب فبرز عجلا فلكان ثم جعلا يعصفان ويتلبطان وينفثان من منخريهما شرراً ودخاناً يختلط بهما لهب أزرق ما مسَّ شيئاً في الميدان إلا حرقه. . . حتى العشب الرطب المندّى بَلْه الهشيم اليابس. . .،. . . وبرز جاسون من مكمنه، فانحبست أنفاس الناس، وسكنت الريح، وأشرفت الآلهة من نوافذ السماء تنظر إلى هذا اللقاء العظيم. . . وأهطع أصحاب البطل وطارت ألوان وجوههم، وتحسس كل منهم فؤاده. . . ولكن جاسون الهائل خطر شطر العجلين غير هياب؛ وعليه دروعه، وفي يده سيفه؛ فلما كان قاب قوس منهما جعل يتلطف بهما، ثم فتح العلبة الفضية فصعدت منها ريح هدّأت ثورتهما وأسلست قيادهما فأسرع إلى النير فوضعه على عنقيهما وشد وثاقه، ثم ربط إليه المحراث وبدأ عمله الشاق. . . وكانت الريح السحرية قد بطل عملها أو كاد فعاد العجلان إلى سابق دأبهما من التوحش والقماص والشبوب وعاد منخراهما يقذفان دخاناً أبيض وشواظاً. . . بيد أن جاسون سيطر عليهما حتى أتم حرث الأرض كلها، ثم قادهما إلى زَرْبها وأطلقهما، وغلق عليهما، وقصد ناحية الملك يسأله أنياب التنين ليزرعها. . . فدفعها الحراس إليه وطفق يغرسها في الأرض الرحبة حتى إذا فرغ من عمله، نظر فإذا رؤوس مقنعة في خوذات من حديد تنبت من الأرض، ثم تنمو فتبرز الرقاب، ثم تظهر الصدور وعليها الدروع السابغات، ثم تشقق الأرض وتكون الجذوع كلها من فوقها، وتخلص الأذرع وفي أكفها السيوف المرهفة تلاعب الهواء. . ثم ترتفع الأفخاذ وعليها كل لأْمة دلاص، ثم يقف أمام جاسون جيش عرمرم من هذه الشياطين المسلحة ترغى وتزبد وتزأر، ثم ينقض عليه الجيش بأكمله وقد شرع كل جندي حسامه، فيتلقاهم البطل بأحسن ما علمه شيرون أستاذه العظيم في قوة في كر، وحزم في فر، وحذق في تحرُّفٍ لقتال، ورسم لخطط للنضال. . . وكان الملك ينظر إلى كل ذلك ويتعجب، وكان الشعب يفغر أفواهه من دهش وذهول. . . وكانت ميديا - برغم ما سلحت به جاسون من سحر - تمسك قلبها الخفاق بيدين مرتجفتين. . . أما رفاق جاسون، فوا رحمتاه لهم!! لقد كانوا يرون الأبالسة يحدقون به من كل صوب، ويزلزلون الأرض تحت قدميه، فتزيغ أبصارهم وتقلب قلوبهم، وتتثلج مشاعرهم، وينظر بعضهم إلى بعض، لا يملكون لهذه الحال ردّاً ولا دفعاً

وظل جاسون يناضل ويناضل، وكلما قتل عشرة وقفت مائة مكانها، وكلما جندل مائة بُدلت بألف؛ فانقذف شيء من الرعب في قلبه، وسرى إلى نفسه دبيب من اليأس كاد يقتله، لولا أن أقبلت جونو تكلمه في نسمة روحت عن قلبه، وتذكره بالحجر الصغير الأسود. . . ولكن الحجر الصغير الأسود كان في جيب صداره، فأَنى له به ولو غفل لحظة عن الدفاع عن نفسه لباء بقتلة شنيعة يقطر سمها من ألف ألف سيف!!

وجعل المسكين يحاول مرة بعد مرة أن يخرج الحجر الصغير الأسود. . . ولكن محاولاته كلها ذهبت سدى. . . وكان قد بلغ منه الجهد، وتولاه الإعياء والضنى. . . فلهج لسانه فجأة باسم جونو. . . فأسرعت سيدة الأولمب لنجدته، وأخرجت الحجر الأسود من جيبه، ووضعته في يده، فقذفه جاسون وسط جيش الأعداء المحدقين، فما هي إلا طرفة عين حتى تفرقوا من حوله، ثم تصرّعوا غير مأجورين. . . وماتوا جميعاً

وأهرع أصحاب جاسون إليه، وطفقوا يحيونه ويهنئونه، ويذرفون حوله دموع الفرح لما كشف عنه من غُمة هذا البلاء ثم حملوه وهم يهتفون باسمه أحر الهتاف، وأهرعت الجموع الزاخرة في آثارهم نحو البحر، وهي تفتأ تردد صيحات الإغريق، حتى خاف الملك على عرشه أن يثله شعبه، وأن يجلس عليه جاسون. . لذلك اربد وجهه، وانتشرت عليه سحابة من الكآبة والهم تملأ أساريره

وبلغ الإغريق سفينتهم فشكروا للكولخيين جميل ما حيوا به بطلهم. . . ثم خَلَوْا بعد ذلك إلى جاسون فنضوا عنه ثيابه، وضمخوه بالطيوب والعطور، ثم هيأوا له طعاماً وشراباً، من أفخر ما يقتنون. . وفي الليل أسر إليهم بسره، وانطلق ليلقي ميديا

ولقيته ابنة الملك بابتسامة لم يجزها عليها بمثلها. . . ثم تركها وقتاً غير قليل تغمره بُقُبَلها وتنضح يديه وخديه وجبينه بدموعها وتعبر له عما كان يقيمها ويقعدها حينما انبرى لِعجليْ فلكان، وحين أحدق به أبالسة التنين يقاتلونه ويتكاثرون عليه، وهو صابر لهم، صامد لجموعهم، حتى قذف الحجر فانقذفت في قلوبهم المنايا

- أرأيت إذن يا حبيبي ما صنع الحجر الأسود من السحر أيقدر على مثل ذلك غير من أوتي من العلم ما أوتيت؟

- كلا!

- ما لك لا تتكلم يا جاسون؟

- الفروة الذهبية! أريد أن أفرغ من هذا الهم الطويل؟!

- الفروة الذهبية لك من غير ما ريب، فلا تبتئس! قبّلْني!

وطبع على ثغرها قبلة مَيّتَةً كانت ترتجف من شياطين السحر التي ترقص دائماً في فم ميديا. . . وانطلقا إلى الجانب القصي من الغابة المجاورة، حيث كان التنين الهائل يحرس الفروة المعلقة على شجرة السنديان، وهناك، فتح جاسون العلبة الذهبية ثم اقترب من التنين في غفلة منه، وقذف في وجهه بما كان فيها من قطرات السحر. . . فترنح الوحش المخيف الرائع؛ واستل جاسون جُرَازه، وأغمده في صدر الأفعوان الكريه، فخر يتلبط في دم غزير. . . وانقض الفتى على الفروة الثمينة التي ترجح ألف كنز فانتزعها من الشجرة. . . وعادا عجليْن إلى القصر الملكي الرهيب، حيث كانت وصيفاتها في انتظارها، وقد جمعن كل ما استطعن حمله من أذخار القصر، كما رسمت لهن ميديا من قبل وحين أوشك الجميع أن يغذوا السير إلى الآرجو. . . إذا بالفتى أبْسِرْتوس، أخو ميديا غير الشقيق، وولي عهد الملك، يقبل لبعض شأنه، فتغريه أخته بالسفر معها في رحلة جميلة إلى أبدع بلدان العالم. . . تساليا. . . ويرضى ولي العهد. . . وينطلق الجميع إلى المرفأ حيث رست الآرجو، فيركبون فيها، وتقلع بهم في موج كالجبال

في العدد المقبل (خاتمة ميديا)

دريني خشبة