مجلة الرسالة/العدد 229/في الإسلام ضمان للعرش والديمقراطية

مجلة الرسالة/العدد 229/في الإسلام ضمان للعرش والديمقراطية

مجلة الرسالة - العدد 229
في الإسلام ضمان للعرش والديمقراطية
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 11 - 1937



للدكتور محمد البهي قرقر

كان من النتائج المباشرة للحرب العالمية الكبرى بعد أن مارست الأمم الكفاح أربع سنوات أن شعرت الطبقات الشعبية بأنها هي التي قامت بالدفاع، وأنها هي التي كانت تساق إلى ميادين القتال سوقاً، وأن غرم الحرب من الأنفس كان منها ومن الأموال كان مما تدفعه للدولة. شعرت بهذا فشعرت بأن لها الحق في قيادة الأمة في حال السلم والسيطرة على شئونها لأنها وحدها هي التي تنال أذى الحرب وتتحمل خسائرها فمن العدل أن تقودها

قوي هذا الشعور فأصبح مبدأ، وازداد هذا المبدأ تغلغلا في النفوس حتى تحول إلى سياسة عملية، قوامها نصرة الطبقات الشعبية وتمكنها من قيادة دفة الأمور، ولكن في صورة غير مألوفة من قبل

هذه السياسة العملية صحبها انقلاب رئيسي في نظام الحكومات نشأ عنه نوعان من الحكم الشيوعي والفاشستي، يتفقان في ادعاء الديمقراطية وهي تمكين الشعب من حكم نفسه تمكيناً عملياً، ويختلفان في الأسلوب تبعاً لاختلاف العوامل الاجتماعية الأخرى والغاية التي يقصد إليها

الديمقراطية الشيوعية

فالنوع الشيوعي تغالي في المعنى الشعبي وزاد في تقديسه، أو هو أساء في الواقع فهم المنزلة الشعبية؛ وتبع تلك المغالاة العداء للطبقة الأرستقراطية وازدياد السخط على الفرد الممتاز أو السيد الحاكم بأمره. وكانت نتيجة سياسته العملية ذات شقين، أولا إبعاد ذلك الفرد الممتاز عن الحكم، واضطهاد الطبقة الأرستقراطية؛ وبعبارة أوسع الطبقة التي كانت تبيح لنفسها، إما اعتماداً على ما لها من شرف أو لما في يدها من مال، أن تتزعم الطبقات الأخرى الفقيرة والمتوسطة. وثانياً رفع الشعب إلى منصة الحكم

ولكن لم يكد الشعب صاحب هذا النظام يتولى تنفيذ التقويض من جهة والرفع من جهة أخرى حتى اصطدم بالحقيقة الواقعة، وشعر بأن زوال الرأسمالية التي ترى فيها النظرية الشيوعية السعادة المتوهمة لكل أفراد الشعب، وتولي الدولة للشئون الاقتصادية وتوزيع العمل والإنتاج على الطبقات المختلفة تحقيقاً لمساواة صورية، عمل يضاد العدالة المبتغاة، إذ آخر أمره استبداد طائفة من الشعب بأفراد الأمة كلها على صورة قانونية

كما شعر الشعب نفسه، صاحب هذا النظام، بعدما ملك بيده زمام الأمر أن إقصاء صاحب الحق الشرعي في سيادة الدولة وهو القيصر، كان من الأسباب التي سولت لكثير من أفراد الشعب بأن له حقاً في الرياسة العامة إذ أنه يملك القسط المشترك وهو المعنى الشعبي الذي يخول له هذا. فالخصائص الأخرى في نظره عديمة الأهمية أو يجب ألا يكون لها اعتبار

ومن هذا الشعور النفسي تولدت هذه الثورات الداخلية في السوفييت الروسي، وسيستمر لهيبها ما بقي هذا الشعور، وسيظل باقياً مادام مبدأ الشيوعية يعتقد أو بمعنى آخر مادامت هذه الفئة الشعبية تملك قوة تسيطر بها على النفوس

وإذن فالمبدأ الشيوعي لا يتفق مع فطرة الجماعة الإنسانية التي لا تخضع بطبيعتها إلا إلى واحد منها تعتقد فيه مزايا لا تتوفر لكل فرد من أفرادها، وخصائصه تعلو به عن طبيعة الإنسان العادي؛ كما لا يتفق مع طبيعة الأفراد التي لا يمكن أن تكون من نوع واحد؛ فمساواة إنسان بآخر مساواة مطلقة في كل مرافق الحياة إجحاف بأحدهما لا محالة، وإنكار للقوة الكامنة في إنسان دون آخر وهي التي قد تخلق منه شخصية بارزة في أية ناحية يفضل بها غيره

إذن فهو نظام (أوتوماتيك) يحاول أن يخلق من جماعة البشر أعضاء لا إرادة لهم إلا ما يريده مباشر السلطة العليا ولا حياة لهم إلا في ظل الضغط. يريد أن ينشئ من الشعب آلات مسخرة للإنتاج العام، وأن يكون منه جبهة لمقاومة كل نظام آخر يقوم على المبدأ الوطني ويقر بشيء من حقوق التملك للفرد

فغايته إزالة الفوارق الاجتماعية والمالية والطبيعية أيضاً بين الأفراد، ثم قيام الدولة وبعبارة أخرى مباشرة الهيئة الحاكمة بأمرها - وإن زعمت أنها تحكم باسم الشعب - للإنتاج الاقتصادي. وفوق ذلك فهو يرى أن له رسالة عالمية تتمم غايته وهي حمل الشعوب الأخرى على قبول هذا المبدأ الفوضوي

ومحاولة الوصول إلى هذه الغاية إما مستحيلة من الوجهة العملية كإزالة الفوارق السابقة، وما النداء به إلا إغراء للطبقات الشعبية فقط، أو اعتداء بينٌ على الحقوق الطبيعية لأفراد الشعب فضلاً عن الإخلال بحقوق الجوار والتدخل فيما هو من اختصاص الدولة الأخرى.

فهو نظام ضد الطبيعة وضد المبدأ الخلقي السائد بين الشعوب وهو مبدأ رعاية الجوار

الديمقراطية الفاشستية

أما النظام الفاشستي فهو نظام ديمقراطي أيضاً، أي نظام مبني على سيادة الشعب لنفسه، ولكنه لا يبالغ في المعنى الشعبي ولا يسيء فهم المساواة بين أفراد الشعب فيجعلها مساواة مزعومة في الإنسانية

فهو يعترف بسيادة الفرد الممتاز: الملك أو الرئيس الجمهوري، وبوجوب المحافظة على سيادته، وبذلك منع الإغراء بالمعنى الشعبي كما أنه لم يجعله وحده سبب التفضيل. فهو إن حرم النظام الأرستقراطي، أي قصر وظائف الدولة الكبرى على طبقة مخصوصة بما لها من شرف مزعوم، إلا أنه أباح لأفراد الشعب أن يتولوا تلك الوظائف إذا وهبوا الكفاية في العمل. وإذن فأساس القيام بالخدمة العامة والانتفاع بسلطة الوظائف الكبرى ليس هو النسب الأصلي على الإطلاق، ولا هو الشعبية بدون قيد، وإنما هي الكفاية والجدارة أينما وجدت. فمعنى إقصاء الأرستقراطية عنده عن الحكم إبعاد تلك الطائفة التي استعبدت الطبقات الفقيرة لا لسبب إلا أنها تنتسب إلى أصل قد تعوّد الحكم مع أنها في نفسها قد تكون مصابة في مزاجها العقلي ومنحطة في مبدئها الخلقي. ومعنى تقريب الشعب من الحكومة إعطاؤه هذا الحق وإزالة مبدأ (الأصل والنسب) من طريقه، أما مباشرة أمر الحكومة نفسها فذلك مرهون بالكفاية الشخصية

ولما كان النظام الفاشستي يقرر مبدأ الكفاية فانه لا يقول بإزالة الفوارق الطبيعية بين إنسان وآخر، أي لا يعمل على إهمالها وعدم اعتبارها لأن ذلك يناقض اتخاذ الكفاية قاعدة للاختيار، بل بالعكس هو يؤيدها ويتعهد القوى الفطرية في الفرد التي تؤهله لأن يقوم بعمل عام فيما بعد برعاية الدولة

ولأن الكفاية الشخصية هي مبدأ التفضيل فقد أصبحت الفوارق الاجتماعية: فوارق الطبقات المختلفة، عديمة الأهمية والاعتبار، كما أصبحت الرأسمالية قليلة الأثر في اختيار من يقوم بالأمر ويتقلد مناصب الحكومة

أما تحويل الإنتاج الأهلي إلى حكومي ومنح حق التملك للحكومة وحدها، كما ترى نظرية النظام الشيوعي تحقيقاً لمعنى المساواة الموهومة المغرية، فلا يجد قبولاً لدى النظام الفاشستي، لأنه من الوجهة العملية عسير التحقيق فوق ما فيه من إخماد للقوى الفردية وإنكار لمنزلتها الأدبية وإنتاجها العملي أيضاً. ولكنه في الوقت نفسه يبيح للدولة التدخل في اختصاص الرأسمالية لمصلحة الفرد العامل وموازنة إنتاج الأمة، فتدخله بمثابة كف لطغيان الرأسماليين في الهيئة العاملة، أو منع محاولة ضغطهم على الحكومة في توجيهها توجيهاً معيناً لمصلحتهم الشخصية أو لغرض سياسي دولي آخر

الديمقراطية البرلمانية

والواقع أن النظام الشيوعي والفاشستي جاءا وقد وجدا أمامهما مسائل كثيرة عجز النظام الديمقراطي البرلماني عن حلها، إما تمشياً مع وجهة نظره أو لكثرة إجراءاته وطول مدتها التي من شأنها العمل على تحويل بعض المسائل الاجتماعية الصغيرة في بدء أمرها إلى معضلات تظهره فيما بعد بمظهر العاجز. ومن أهم تلك المسائل تحكم أصحاب رءوس الأموال في الطبقات الفقيرة الذي تسبب عنه هذا الجفاء الكبير والعداوة الشديدة بين صاحب العمل والعامل

فالديمقراطية البرلمانية الشائعة التي تفهم من المساواة الإخاء الشعبي والعالمي، ومن الحرية تفكير الفرد في دائرة القانون العام وعادات الأمة، ومن العمل أن يتعدى حدود المصلحة العامة إلى غيرها، هذه الديمقراطية التي تسيء في الواقع فهم المساواة وفهم الحرية إن هي نجحت في مكافحة الأرستقراطية أو على الأصح في كبح طغيانها قد ساعدت على تحكم أصحاب رؤوس الأموال بحجة (الحق المشروع) والمحافظة على حرية الفرد في تصرفه فيما يملك ولو كان في ذلك ضرر الغير وضياع المصلحة العامة. وفي الواقع هي لا تحافظ على حرية الفرد وإنما تغريه بما يخرج عن معنى الحرية الفردية الصحيحة؛ تغريه أن يتحكم بما له في الطبقة التي دونه في الثروة أو على تبذيره والإسراف فيه ابتغاء شهواته النفسية؛ تغريه بالاستخفاف بعادات غيره ومعتقد السواد الأعظم من الشعب، كل ذلك باسم الحرية. فهي تؤمن بنظرية الفرد، أكثر من إيمانها بنظرية - تقدِّس الفرد وتضحي بمصلحة المجموع. فللفرد أن يعمل ما شاء وإن فنيت الدولة في عمله. وهذا في الواقع رد فعل لحكم الاستبداد الذي سبق الحكم الديمقراطي البرلماني. فالفردية في الحكم الأرستقراطي كانت مستمرة لا لمصلحة الجماعة بل لمصلحة الفرد الحاكم. فلما جاء النظام الديمقراطي البرلماني حرر الفرد من تبعيته تبعية مطلقة للحاكم المستبد وغالى في ذلك، وكان من الطبيعي أن يفضل مصلحة الجماعة لأنها لم تكن الهدف للكفاح وإنما الذي كان مقصوداً يسعى لتحقيقه هو حرية الفرد ومصلحته

بقيت مصلحة الجماعة مغفلة وحرية الفرد معكوساً فهمها، فلما جاء النظام الشيوعي عمل من جديد على تقييد سلطة الفرد الشعبي وخصوصاً في الناحية المالية، وقصر حق التملك على الدولة التي حلت في الواقع محل الفرد في النظام الديمقراطي البرلماني.

ثم لم يكتف هذا النظام بما فعله نحو الطبقة الأرستقراطية من حد سلطتها بل بالغ في معاداتها، أو هو أساء فهم خصومتها كما أساء فهم نصفة الشعب فجاء نظاماً غير عادي ولا مألوف، نظاماً استبدادياً لا يتفق مع فطرة الفرد ولا مع طبيعة الجماعة

بينما اكتفى النظام الفاشستي بما وقف عنده النظام البرلماني في وضع حد الحكم الأرستقراطي وإن خالفه في فهم معنى الحرية والمساواة. ولذا أجاز لنفسه التدخل في وضع علاقة للرأسمالية مع الفرد العامل، وهو تدخل للمصلحة العامة ولمنع الجفاء بين طبقات الشعب المختلفة. وقد كان من أثر هذا التدخل أن توحدت الأمة، وقد صارت وحدتها في النهاية عن رضا وفهم متبادل بين الطبقات، بينما يتحول اتجاه عداوة الشعب وجفائه في الأمم الديمقراطية البرلمانية من الأرستقراطيين إما إلى الطبقة الحاكمة لأنها تخص نفسها بما له وتضن عليه بما يؤمنه على حياته الضرورية ثم تنظر إليه نظرة صغار لأنها (مهذبة) دونه، وإما إلى أصحاب رؤوس الأموال لعنتهم وتشددهم في حفظ مصالحهم الخاصة

غاية أنواع الحكم الديمقراطية المختلفة ومعايبها

وإذن فالنقص الذي أخذ أسلوب الحكم الحديث على نفسه العمل لتلافيه هو عدم التوازن إما في علاقة الطبقة الأرستقراطية بالشعب، أو في علاقة أصحاب رؤوس الأموال بالطبقات الفقيرة، أو في ارتباط مصلحة الفرد بالجماعة

ومن الطبيعي أن تكون الغاية الإيجابية لأسلوب الحكم في الوقت الحاضر، ولو على سبيل الادعاء، تحقيق الإخاء والمساواة، وبعبارة أخرى العمل على سيادة العدل الإنساني

فالنظام الديمقراطي البرلماني نظر إلى هذه الغاية نظرة إفراط أو نظرة من ناحية واحدة، فبينما هو يشل سلطة الهيئة الأرستقراطية إذا به يبيح لأصحاب رؤوس الأموال بمقتضى إفراطه في منح الفرد حريته التحكم في الطبقة العاملة؛ وبذلك اختل توازن العلاقة من جديد ولكن بين طبقتين من الشعب

والنظام الشيوعي ينظر لتحقيق هذا الإخاء وتلك المساواة نظرة هوج وخيال، فبدل أن يتناول علاقة الطبقة الأرستقراطية بالشعب، ثم علاقة أصحاب رؤوس الأموال بالطبقات العاملة، بالتسوية تناولها بالهدم، فزالت الأرستقراطية وزالت الرأسمالية واختل توازن العلاقة مرة أخرى وأصبحت علاقة حاكم مستبد، مخادع مغرر، بأفراد شعب سلبوا الحقوق الفطرية والاجتماعية بدل المساواة المزعومة

والنظام الفاشستي نظر إليها نظرة قاصرة على الحدود الطبيعية للأمة، فعمل على التوازن أيضاً، ولكن جعل مقياسه مصلحة الجماعة من الشعب؛ فلا داعي لاضطهاد الأرستقراطيين إذا لم يسيئوا لمصلحة الجماعة، كما يجب التدخل في حرية الفرد إذا هددت تلك المصلحة بالخطر. ولأن هذا النظام قصر جهوده على الأمة كان نظاماً وطنياً بحتاً، بينما المعنى الدولي متحقق بكل معانيه في النظامين السابقين قبله. ولذا كانت اليهودية العالمية من ألد خصوم الفاشستية وأعز أنصار الديمقراطية البرلمانية والديمقراطية الشيوعية وإن أزالت هذه الأخيرة نظام رؤوس الأموال لأنها لا تنكر عليهم التوطن في أي جهة

فالرأسمالي اليهودي لا يبيح لنفسه في دولة ديمقراطية فاشستية باسم حرية الفرد أن يطغى على الطبقة الفقيرة كطغيانه في فلسطين التي تتبع في سياستها الرئيسية بلداً ديمقراطياً برلمانياً. فهناك في فلسطين يباح لليهودي المالي أن يجرد العربي الساذج من كل ما يملك، وفي الوقت نفسه يذل العرب في مجموعهم باسم حرية التملك. وإذا طلب من حكومة فلسطين أن تتدخل في الأمر لمصلحة الجماعة أجابت بأنها لا يمكنها ذلك لما فيه من اعتداء على حرية الفرد. أما المصلحة العامة فهي ضحية تلك الحرية التي لم تفهم على وجهها الصحيح. وأما مجموع الشعب فلا مانع من فنائه تدريجياً مادام الفرد يتمتع بحريته التامة

والواقع أن هذا عكس الطبيعة، ولا يقر أحد في أي بقعة من بقاع الأرض أن المجموع يفنى لمصلحة الفرد كما لا يقر تضحية الشعب محافظة على تنفيذ نصوص القانون

وقد يظن لأول الأمر أن النظام الفاشستي هو المعتدل من هذه النظم الثلاثة. وقد يكون في ذلك وجه من الصحة. ولكن جمع السلطة وتركيزها في يد فرد من أفراد الشعب إن أتى بنتائج إيجابية في وقت وجيز يعجب الإنسان منها ومن عظمتهافقد لا يضمن الوفاء بأمثالها في المستقبل إذا ما انتقلت السلطة إلى فرد آخر ربما يستغل هذا التركيز لغير مصلحة الأمة. والمعروف اليوم أنه إذا كان رجال الحكم الفاشستي قد جمعوا كل سلطة في الدولة في أيديهم إلا أنهم لا يبرمون أمراً إلا بمشورة ذوي الخبرة في الأمة وبمعونتهم أيضاً وإن لم تكن لهم علاقة تبعية بالحزب السياسي. وأنا أذكر أن زعيم ألمانيا يحرص الآن على أن يتولى المناصب الاقتصادية الرجال الأخصائيون في المسائل المالية ولو كانوا من غير أتباع حزبه، كما أنه يأخذ برأي وزير الخارجية ووزير الدفاع في كل المسائل الخارجية وهما لم يتبعا في يوم من الأيام الحزب الوطني الاشتراكي

والديمقراطية معنى غير محدود. وكل نظام من نظم الحكم الثلاثة يدعي أنه هو الديمقراطي الصحيح كما ادعى كل فيلسوف من فلاسفة اليونان القدماء أنه هو وحده الذي وصل إلى الحقيقة في العالم. وفي الواقع لم تكن هناك حقيقة مطلقة ولكنها نسبية مقيدة وإذا كانت هناك حقيقة مطلقة فإنها على وفق المقدمات والدعاوى التي يفترضها الفيلسوف لنفسه

الديمقراطية الإسلامية

والآن بعدما تبين أن من معايب الحكم الديمقراطي البرلماني الجوهرية فناء المصلحة العامة أو التغاضي عنها محافظة على حرية الفرد المطلقة وعلى مصلحته الخاصة

ومن معايب النظام الشيوعي أن العلاج الذي يتخذه في توازن طبقات الشعب المختلفة هو الثورة والهدم وأن أسلوب حكمه على العموم هو الفوضى المطلقة

كما أن من نقائص الحكم الفاشستي عدم قابلية الفرد الشعبي الذي بيده سلطة الحكم للعزل مع احتمال طغيانه

بعدما تبين كل هذا نريد أن نعرف رأي الإسلام والحلول التي يقترحها ضماناً للتوازن، وبعبارة أخرى تجاه المسائل الاجتماعية التي يهتم بها نظام الحكم الحديث والتي هي في الحقيقة منذ بدء الجماعة الإنسانية تظهر من حين لآخر في شكل معضلات

نريد أن نعرف رأي الإسلام، وهل هو مع كونه ناجعاً يتجنب تلك الأخطار التي في أسلوب الحكم الخاص؟ الإسلام ليس نظاماً روحياً، نظام كهنة وكنيسة، وإنما هو مبادئ خلقية للفرد، وقوانين عامة تحفظ نظام الجماعة. وهو بهذه الصفة يتدخل في علاقة الفرد بالفرد وتنظيم علاقته بالمجموع، وفي علاقته بالمجموع يبغي أيضاً الإخاء والمساواة، يبغي الوحدة ويعمل على تماسكها، يريد التوازن وتأسيسه على قواعد ثابتة

ولكنه في إقراره الإخاء يريد تقرير مبدأ آخر للتفضيل بدل مبدأ الجنسية الذي ساد قبل الإسلام ويسود أيضاً الآن من وقت لآخر، يريد تقرير مبدأ الكفاية والعمل (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فالإخاء معناه عدم اعتبار الانتماء إلى قبيلة أو شعب مرجحاً ومميزاً لفرد عن آخر لمجرد هذا الانتماء كما يقصد اليوم من محاربة الأرستقراطية، وعدم جعلها القاعدة الأولى في الاختيار والتفضيل

وفي إقراره المساواة لا يرى زوال الرأسمالية، ولا منع الفرد من التملك وقصره على الدولة وحدها، وإنما يقصد المساواة أمام القانون، أمام المبادئ الخلقية، أمام التكليف بالواجبات، والقيام بالأعمال العامة. فليس لشريف أن يخلي نفسه من التكليف، ولا لحاكم أن يستبد بمصالح الأمة لنفسه اعتماداً على أنه مميز لمجاله من التهذيب (الرسمي) أو لانتمائه إلى جنس كذا أو قبيلة كذا

وفي إقراره المساواة على هذا النحو لم يمنع التفضيل لصفات أخرى، لم يحرم الفرد أن ينال جزاء مجهوده الشخصي في هذه الحياة الدنيا، ولكنه فرض عليه فيما اكتسبه من علم أو مال أن يخصص جزءاً منه لمن هو دونه: لمن هو أقل منه معرفة، أو أقل ثراءً؛ فرض أن تقرب الخاصة نفسها من عامة الشعب، حتى لا يكون هناك جفاء بين عالم وجاهل أو عداوة منشأها الحقد بين غني وفقير، حتى يكون (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)

(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. . .) هذا واجب العالم في علمه في أية ناحية تعلق علمه بها نحو أمته، نحو أكثريتها الجاهلة

أما الغني صاحب الثروة فواجبه في ماله الزكاة لمستحقيها، لفقراء الأمة المعوزين. وهو واجب يخف على النفس عمله، بل يسرها القيام به، لأنه تلبية لنداء الدين ورغبة ناشئة عن إحساس التدين؛ وما نشأ عن التدين والاعتقاد كان كالصادر عن التعود، كالعادة نفسها في المواظبة على عملها وعدم الشعور بمضض في الإتيان بها

وليس من شك في أن التكليف الوضعي أي تشريع الدولة وتقنينها لا يساير التكليف الديني في نتائجه الإيجابية. فنسبة من يعتقد من أفراد الأمة بعدالة قانون وضعي أقل بكثير ممن يعتقد بعدالة قانون إلهي؛ لا لأن القانون الوضعي قد لا يطابق المصلحة العامة، بل لأنه يعتقد على العموم أن واضعه ممن يجوز بل ممن يغلب عليه الخطأ، ولكن من ينسب إليه القانون الديني هو ممن يستحيل عليه فوات الصواب في تشريعه

وهكذا أثر العقيدة الدينية التي تكوِّن من نفس الإنسان جزئها الأعظم. ولذلك كان من المهمة الأولى للدين أن يخلق من التكاليف والالتزامات مبادئ خلقية تُعتقد، جزاء فعلها أو تركها منوط بالخالق القادر، وفي عالم آخر لا اطلاع لإنسان عليه في هذه الحياة الدنيا. وإذن فالشوق إلى جزاء الفعل - كالخوف من جزاء الترك - لا يقاس في تصور النفس له بجزاء القوانين الوضعية، لأنه في عالم محدود معروف فيه أقصى درجة الثواب والعقاب

والمصلح السياسي أو زعيم الدولة الذي يفهم كنه الإصلاح ويهتم بتنفيذه واتباع الشعب له لا يألو جهداً في بناء قوانينه الإصلاحية على مبادئ الدين أو صبغها على الأقل بصبغة دينية حتى يكون لها نصيب من معتقدات الشعب، وبهذا يكون لها قوة الاستقرار والدوام. والاستقرار من أهم عوامل نجاح الإصلاح

فكثير من القوانين الإنكليزية وخصوصاً قوانين العائلة الإصلاحية أسست على مبادئ فلسفية خلقية قام بها بعض الفلاسفة الإنكليز الدينيين

حتى في بعض الحكومات الفاشستية التي يُظن أنها تحارب الدين، نجدها لا تتخلى عن ربط مبادئها السياسية بالمبادئ الدينية العامة؛ فهي في الواقع لا تحارب الدين، وإنما تحارب سلطة الكنيسة، أي سلطة طائفة أخرى تتمتع بنفوذ كبير في الشعب ربما تحد من سلطة الدولة. فخطباء الحزب الاشتراكي الوطني هنا في ألمانيا يعظون الشعب في كل يوم أحد بواسطة الراديو محاولين في وعظهم إرجاع أعمالهم الاجتماعية، كمساعدة الشتاء، وخدمة العمل العام، وتنظيم هدايا عيد الميلاد التي هي أقرب شبه بزكاة الفطر في الإسلام، إلى مبادئ الدين الصحيح حتى يضمنوا للحكومة طاعة الشعب، ومن وراء ذلك تنفيذ أعمالهم الإصلاحية فقاعدة الحكم عندهم مبنية على قيادة الرئيس وعلى طاعة الشعب له. والدين هو خير ضامن وأقوى كفيل بتلك الطاعة عن رضا واختيار ولمدة طويلة

أما بناء السياسة العامة لتركيا الحديثة على إبعاد الدين فلا يصح أن يقوم حجة على أنها مع ذلك سياسة إصلاحية ثابتة أو أنها ستنجح في جيل مقبل. فالثقافة التركية التي كان عمادها الدين قد تزعزعت من أساسها؛ ثم ما يدخله مدعو الإصلاح في تركيا الحديثة من ثقافات البلاد الأجنبية لا يصح أن يعوض ثقافة الشعب الأصلية كما لا يؤمل أن يكوِّن ثقافة ثابتة في المستقبل للشعب التركي. وما تمتعت به الحكومة التركية للآن من طاعة الشعب لها فسببه عقيدة الشعب التي لم تفن بعد من وجوب الطاعة للقائم بالأمر، فهو في الواقع أثر من آثار العقيدة الدينية

فإذا كان الإسلام يتدخل في سلطة الرأسمالية بنظام الزكاة فهو تدخل مقبول لدى النفوس بحكم ما فيها من قوة التدين، وفي الوقت نفسه هو نظام غير مرتبط بقيام فرد بالحكومة دون آخر بل هو كأي نظام ديني أبدي غير مؤقت بوقت

فتقرير مبدأ الإخاء والمساواة على النحو السابق، والاعتراف بالجزاء على المجهود الشخصي من حق التملك، ثم حصر نفوذ الفرد في حدود المصلحة العامة، هو نوع من أسلوب الحكم الديمقراطي الذي لم يصل إليه تشريع وضعي للآن. فقد رأينا كل نوع من أنواع الحكم في العصر الحديث الذي تدعي فيه أوربا أنها وصلت آخر المرحلة التي يمكن للإنسان أن يصل إليها، ومع ذلك فكل نوع منها لا يسلم من أخطار عديدة لاستحالة تنفيذه أو لعجزه عن حل بعض المشاكل الاجتماعية الكبرى، أو لأنه قد لا يضمن الوفاء في المستقبل بمثل ما حققه الآن من نتائج

وبتقرير الإسلام هذه المبادئ كان نظام توازن واعتدال. لا يترك طائفة تتحكم في أخرى حتى تلجأ الطائفة المتحكم فيها إلى عمل ثوري أهوج مبني على العاطفة وحدها غايته الهدم والتخريب. وبتقريره هذه المبادئ كان أيضاً دين الفطرة والطبيعة، أي أنه يساير الطبيعة ويقضي على ما شذ منها

ولكونه دين الفطرة والطبيعة كان لنظام الملك منه سند قوي يعتمد عليه في حكمه، لأنه مغروس في طبيعة الجماعة أن تخضع لفرد واحد منها خضوعاً ناشئاً عن عقيدة؛ وكلما علا شأن هذا الفرد كانت العقيدة بالخضوع له أشد وأعم. وليس بلازم أن تعرف الجماعة ميزة هذا الفرد - بل من المصلحة العامة ألا تتناوله بالتحليل - وإنما يكفي أن تعتقد أنه ممتاز

فإذا كان هذا الفرد الممتاز الذي يجب أن تكون له السيادة وتخضع له الجماعة ليس من عامة الشعب أمنت حكومته انقلاباً شعبياً، ولم تكن هناك أطماع في استبداله بآخر، لأن الشعب مازال يعتقد فيه ميزة ليست لكل فرد. وكلما استقر الحكم في يد من له الأمر كانت نتائجه أثبت وأضمن لمصلحة الشعب نفسه

ونظام الملكية هو أقرب النظم الفطرية للجماعة الإنسانية، بل هو أضمن لوحدة الجماعة، لأنه يحول بين أي فرد من أفراد الشعب وبين أن تسوِّل له نفسه أنه أجدر بالقيام بالأمر من هذا أو ذاك، مما يترتب عليه ثورة داخلية لا ينطفئ لهيبها كما هو حال النظام الشيوعي اليوم

فكما يميل الإسلام إلى نظام الملكية لأنه أقرب نظم الحكم إلى فطرة الجماعة، ويفرض طاعة الأمة لرئيسها الأعلى مادام قائماً بدستور الإسلام وهو كتاب الله وسنة رسوله، كذلك يؤيد روح الشورى ويهيئ الشعب للعمل على وفق مبادئ خلقية، كمبدأ الشعور بالواجب والشعور بالحرية المهذبة والشعور بالمساواة والاعتراف بالكفايات، تلك المبادئ التي منها تتكون الديمقراطية الصحيحة

ففي الوقت الذي يأمر فيه الإسلام الشعب بالطاعة لولي أمره حتى تسلس قيادته، يقيد هذه الطاعة بقيام العدل في الرعية

وفي الوقت الذي ينادي فيه بحرية الفرد حتى فيما يعتقد لا يتركه يتعدى مصلحة الجماعة

وفي الوقت الذي يشجع فيه على اكتساب الرزق ويبيح فيه للفرد حرية التملك، يكلفه بالتنازل عن جزء مما ربحه لمن أشقاه الفقر في حياته

وهكذا يقصد الإسلام دائماً إلى التوازن والاعتدال، فهو دين الفرد والجماعة، بينما الديمقراطية البرلمانية، كما رأينا، تتحيز للفرد وحده، والفاشستية تؤيد الجماعة فحسب، والشيوعية تهدم مصلحة كل من الاثنين

ففيه كدين فطري للجماعة الإنسانية ضمان للعرش، وفيه كمنادٍ بمبدأ الإخاء والمساواة وعاملٍ أيضاً على تحقيق هذا المبدأ بوسائل ناجعة ومنفذ لمبدأ التفاضل على حسب الكفاية والعمل لا غير، اتباع لقواعد الديمقراطية الصحيحة وحاجز حصين ضد الشيوعية الفوضوية

محمد البهي قرقر

دكتور في الفلسفة وعلم النفس

وعضو بعثة الأستاذ محمد عبده