مجلة الرسالة/العدد 229/كتاب حضارة العرب

مجلة الرسالة/العدد 229/كتاب حضارة العرب

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 11 - 1937



للكاتب الاجتماعي الكبير غوستاف لوبون

للأستاذ خليل هنداوي

تمهيد

لم يسبق أن تردد لفظ المملكة العربية والأمجاد العربية في يوم مثل هذا اليوم. ففي كل صوب من كل قطر عربي يهب هذا الحلم من نومه ويزحف هذا الراقد الفاني إلى حقيقة تمد ذراعيها وتدعو إلى تحقيق وجودها. وكل شيء من هذه الأحداث عامل يسرع في بيان ضرورة هذه الوحدة التي لا يقوم للعرب كيان بدونها. وما قيمة جسد فيه عضو يتحرك وأعضاء جامدة لا تتمشى فيها حركة؟ وكأن السياسة الاستعمارية أدركت أن هذا التقسيم الذي رمت به الجزيرة العربية إنما هو تخدير موقوت فكيف تعمل على جعله تخديراً دائماً؟ فخلقت النعرات القومية التي جرفها التاريخ فيما جرف، والتي بادت من الحاضر حتى أصبحت لا وجود لها. . . ولقد فتن بهذه السياسة قوم وعادوا يتجردون من القومية العربية ويحملون على الثقافة العربية، لأنها في رأيهم ثقافة لم تحمل شيئاً للإنسانية. وإنها لدعوى ملفقة لم يخلقها إلا الوهم الذي خلقته السياسة الاستعمارية، وجاراها عليه فئة ماتت فيها الفكرة الاستقلالية. وتجاه خطر هذه الفئة المتذبذبة التي لا تعرف لها ديناً ولا لوناً من ألوان القومية وجب أن تقوم حملات صادقة لتحطيمها ودوس كرامتها إن كانت لها بقية من كرامة. وهذا واجب تبعث عليه البواعث الوطنية التي تؤمن بحق العرب وثقافة العرب وعظمة العرب!

لقد تناول تاريخ العرب رجال من الغرب، منهم من كانت تسيره الأهواء، ومنهم من كان يستلهم العقل والحقيقة وما أقل هؤلاء! وقد كان بودنا أن نكتب تاريخنا بأيدينا بالهوى والعاطفة كما يقولون، لأننا نكتبه إذ ذاك بحروف الذهب، ونرسمه بخطوط اللهب، لأنه تاريخ قوميتنا وثقافتنا وغابرنا الذي بيده أمر حاضرنا

ألا يكتب كل قوم تاريخهم كما يشاءون؟ ألا يسجل كل شعب ماضيه كما يرغب؟ فيا كارهي مجد العرب أي عار وجدتموه إلا عار الأنفة والكبرياء؟ وأي وصمة أتوا بها إلا وصم الفتوح والسيادة؟ ونحن نرى المجد في الخضوع للمستعمر، وفي الذل وخفض الجناح، ونحن نرى الفخر في فتح أبوابنا له يلجها من يشاء متى شاء. وكيف يلتقي فخرنا وذلك الفخر؟ وكيف يصافح مجدنا ذلك المجد؟

لن نعرض لهؤلاء النافرين من مجد العرب شيئاً تسطره أقلامنا وأهواؤنا، ولكنا عارضون لهم صفحات جليلة، كتبها رجل لا يتعصب لنا ولا يريد باطلاً ولا جزاء ولا شكورا. وإنما ينشد حقيقة ما عرف التاريخ شهيداً كمثلها بين الحقائق التي نقلها. فأراد هذا الرجل إنصاف هذه الحقيقة، وأراد إنصاف العرب بما كتب

قلت: كنت أريد أن يكتب تاريخنا بعاطفة وحرارة لأني أعتقد أن التاريخ في الأمم المتيقظة هو قلب قبل أن يكون عقلاً، لأن هذه الأمم - وهي في بدء يقظتها - لأحوج إلى قيادة العاطفة منها إلى قيادة العقل. وإذا عدت إلى استقراء تاريخ كل أمة ألفيت أن العاطفة هي القائدة الهادية، حتى إذا ما مشت هذه الأمة إلى هدفها واستقام سيرها، أخذت العاطفة تقر رويداً رويداً ويتسيطر على جموحها العقل. وهاهي ذي الأمم الغربية التي نقتفي أثرها ونمجد خيرها على رغم ما بلغت من نضج العقل ورسوخ القدم لا نقرأ تاريخها إلا موسوماً بميسم وطنيتها وعاطفتها لأن التاريخ المجرد يأتي هيكلاً مجرداً من الروح، وإذا لم ترد الأمة أن تطبعه بطابع حياتها وحاجتها، فما معنى حاجتها إلى هذا التاريخ إذن؟ على أننا لا نريد أن يأتي تاريخنا مشوهاً متحولاً مخالفاً للحقيقة، ولا نريد أن نسجله تسجيلاً كاذباً مختلقاً. ولو قدرنا على ذلك لما فعلنا، كما فعل ذلك العالم البلجيكي الذي أخذ يلوم أحد قادة الألمان على ما يرتكبون من فظائع في (بلجيكا) خلال الحرب العظمى وهدده بالتاريخ الذي سيحصي عليهم كل صغيرة وكبيرة، فما أجابه ذلك القائد إلا بضحكة استهزاء متمتماً: (هل تهددنا بالتاريخ، وما عسى يضع التاريخ؟ ونحن الأُلى نسجله غداً) يريد أن الظافر هو الذي يتولى كتابة التاريخ وتشويه الحقائق. إننا لا نسجل الآن شيئاً، وإنما رجال غربيون يسجلون. منهم صاحب حضارة العرب يسجل تاريخ حضارتنا كما تفهمه وتلمسه. وما أجدر هذه الفئة المنكرة الجاحدة لتاريخها وقوميتها بقراءة هذه الصفحات والنظر إلى ما راحوا يتنكرون منه ويوارون وجوههم خجلاً! وما كان أحق هذه الفئة بالتقديس لو أن لها من القوة والعبقرية والثقافة جزءاً مما لأجدادهم! ولكنهم قوم عميت منهم الأبصار والبصائر وشغفوا برداء يلبسه جارهم لا حظ لهم منه إلا النظر إذا سمح الجار بذلك

هذا ما بعثني على تعريب هذا الكتاب الذي خرج إلى العالم منذ خمسين عاماً، ولا تزال الخزانة العربية تجهله، أو تعرفه وتتخلف عن تبنيه كأنه لا يمسها في شيء أو لا يعنيها من أمره شيء. على أنه كان خير كتاب سطره يراع غربي في التاريخ العربي. ولعل في إرجاء تعريبه سراً لأنه يخرج الآن في وهلة أصبح تعريبه حاجة ماسة لجيل عربي تيقظ على أمجاد غابرة، وعاد إليه حنينه الأول وحلمه الأسمى! ومن حق هذه الأمجاد أن نعمل على بعثها حتى تغدو أصواتاً تتردد في كل فج، وتصبح أصواتها أصداء تتجاوب في كل رجاء

قد يقول بعضهم: إن بين مصادر المؤلف مصادر واهية يظهر ضعفها، والكتاب ذاته ليس بذي قيمة كبيرة. ولقد يكون هنالك ضعف في المصادر وضعف في بعض المستنتج، وضعف في إحصاء أشياء، ولكن هذا لا يخلع عن الكتاب قيمته العلمية لأنه كتب في عهد بعيد قبل أن تكثر المواد التي جلت تاريخ العرب. وقد أبقينا على هذه الأخطاء لأن القارئ النبيه يستطيع تمييزها بسهولة، لأننا أحببنا أن ننقل الكتاب صورة صادقة أمينة يطلع القارئ خلالها على آراء الغربيين فينا إبان ذلك العصر. ولكن هذه التهمة لم يكن الباعث عليها ضعف المصادر فحسب، وإنما تعود أسبابها إلى أن المؤلف الذي يكتب عن العرب ينبغي له أن يعنى بإظهار سيئاتهم وطرح حسناتهم، وأن يعمل على تصويرهم شعباً مهدماً للمدنية لا بانياً، فجاء غوستاف لوبون العالم الجريء المنصف خارقاً عادات القوم متخطياً بدعتهم السيئة فكتب عن العرب ما لا يكتبه العرب عن أنفسهم، وفتح العيون العمي على ما لهم من حضارة وفضل على الإنسانية بوجه عام، وعلى الحضارة الغربية بوجه خاص، ولذلك لم يلق كتابه الرواج المنتظر في أمته. وناهيك بأن سياسة الغرب في ذلك العصر كانت تعد العدد وتختلق الحيل لاستعمار الشرق فكيف يروقها أن يظهر من يعدد لها فضائل هذه الأقطار التي تريد استعمارها بتهمة الوحشية ودعوة التمدين. فكان عدم رواجه نتيجة منطقية معقولة لهذه الفكرة المسمومة؛ وكانت حملات عليه كاذبة حاولت أن تطعن في العرب وفيمن ينتصر لهم. ومن دواعي الأسف أن هذه الفكرة لا تزال تصاحب هذا الكتاب، وسوف لا تزل مرافقة له حتى ينفض الغرب يده من هذه الأقطار وييأس من استعمارها!

وقد قص عليّ أستاذ صديق أنه خلال وجوده في باريس طلب إلى إحدى مكتبات المطالعة أن يطلع على هذا الكتاب فتأفف صاحب المكتبة، فقال له الأستاذ: أراك مشمئزاً، لعل الموضوع لا يرضيك! فأجابه: ليست المسألة مسألة موضوع، وإنما مسألة انتشاله من تحت أنقاض الكتب المتراكمة فوقه. فمد يده إلى خزانة ربما يطلق صاحبها عليها خزانة الكتب المهجورة والمغفلة، ولبث يقلب حتى علقت يد صاحبنا بالكتاب في قاع الخزانة!

وهذا يدل على أن الفكرة التي شوهته لا تزال ترافقه وأن الغربي قد ألقى في خلده أن كل ما يكتب عن الشرق والعرب بلهجة الإعجاب هو شيء كاذب مدسوس، وإنما الحق كل الحق فيما يتناولهما بالذم والسخرية والتحقير. وكأني بأفراد قلائل قد استطاعوا أن يطلقوا عقولهم من هذه الأوهام وينظفوا دم تفكيرهم من هذه السموم، ولكن عدد هؤلاء محدود، وما أقلهم لو استطاعوا أن يطهروا أنفسهم!

وأسباب ذلك كما قدمت تعود إلى أضاليل الغاية الاستعمارية التي استلهمت أيضاً العصبية الدينية، وتكاتفتا معاً على إخفاء محاسن العرب، وعلى اظهارهم شيئاً هو دون الشعوب. ويقيني لو أن موازناً منهم قارن بين شعب من الزنوج والعرب لشالت كفة العرب ولرجحت كفة الشعب الزنجي لأن هذا الشعب تم لهم استعماره وتحضيره وذلك لم يتم ولما يتم لهم منه شيء

أما أجري الذي أنشده من هذا التعريب فهو أمنيتي التي أرجو أني وصلت إليها في وضع لبنة واحدة في صرح المملكة العربية الحديثة وفي استجلاب كثيرين ممن ضلوا مجد أمتهم الغابر ليحثهم على بناء المجد الحاضر، وما هنا إلا صفحة من صفحات هذا الفاتح الذي ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم منه. . . فاقرءوا أيها العرب وأنفذوا منها إلى بقايا صفحات تاريخكم المجيد

(تتلوه المقدمة)

خليل هنداوي