مجلة الرسالة/العدد 229/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 229/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 11 - 1937



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 14 -

(. . . أتذكر إذ التقينا وليس بيننا شابكة، فجلسنا مع الجالسين لم تقل شيئاً في أساليب الحديث، غير أننا قلنا ما شئنا بالأسلوب الخاص باثنين فيما بين قلبيهما؟

(. . . وشعرنا أول اللقاء بما لا يكون مثله إلا في التلاقي بعد فراق طويل، كأن في كلينا قلباً ينتظر قلباً من زمن بعيد؟

(ولم تكد العين تكتحل بالعين حتى أخذت كلتاهما أسلحتها. . . وأثبت اللقاء بشذوذه أنه لقاء الحب؟

(وقلت لي بعينيك: أنا. . . وقلت لك بعيني: وأنا. . . وتكاشفنا بأن تكاتمنا؟

(وتعارفنا بأحزاننا كأن كلينا شكوى تهم أن تفيض ببثها؟

(وجذبتني سحنتك الفكرية النبيلة التي تضع الحزن في نفس من يراها فإذا هو إعجاب؛ فإذا هو إكبار؛ فإذا هو حب؟

(وعودت عيني من تلك الساعة كيف تنظران إليك؟

(وجعلت أراك تشعر بما حولك شعوراً مضاعفاً كأن فيه زيادة لم تزد؟

(وكان الجو جو قلبينا. . .

(وتكاشفنا مرة ثانية بأن تكاتمنا مرة ثانية. . .؟)

(هي)

(. . . بماذا أصف مكاناً للحب كأنما مر به سر الخلود فإذا الوقت فيه لا يشبه نقصاناً من العمر بل زيادة عليه؛ وكانت يا حبيبتي كل دقيقة وثانيتها في مجلسك الساحر كأنها بعض الفكرة والحس لا بعض الزمان والمكان. . .

(. . . وكنت وما أشعر من سحرك إلا أني بازاء سر وضعني في ساعة من غير الدن وحصرني فيك وحدك. . .

(وهاجمتني من يقظتي واقتحمت عليّ من حذري. . .

(وخليتني وعينيك، وخليتني وما كتب عليّ. . .

(واتسعت روحي لتشملك، فما كنت تتكلمين ولا تضحكين ولا تخطرين في غرفتك ولكن في داخل نفسي. .

(. . . وكنا نتكلم ولكن ألفاظنا تتعانق أمامنا ويلثم بعضها بعضاً من حيث لا تراها إلا عيناي وعيناك

(وتراءت النفسان فملأتا المكان بأفراح الفكر، واستفاض السرور على جمالك بمعنى كلون الزهرة النضرة هو عطرها للنظر

(وقلت لي بجملتك: أنا. . وقلت لك بجملتي: وأنا. .)

(هو)

هي وهو؟

إني لأعرفه عرفاني بنفسي، فما بي شك فيما أكتب عن حبه؛ ولقد خلطني بنفسه زمنا فإني لأسمع نجواه وأقرأ سره، وأعرف ذات صوره، فما أصف من حبه إلا مستيقناً كأنما أنقل عن لوح مسطور في فؤادي، أو أثبت من حادثة في تاريخ أيامي ماثلة في نفسي بصورها وألوانها وحوادثها فما يغيب عني منها شيء. ولولا تقاليد الناس وآداب الجماعة لمزقت النقاب عن وجه الحديث وجلوته على القراء في بيان سافر كإشراق الضحى، ولكن. . . ولكنها هي. . .

أما هي فما في يدي شيء من خبرها إلا ما حدثني به الرافعي أو حدثتني رسائله، فما أتحدث عن حبها إلا راوية يكتب ما يسمع لا ما يشهد، أو محققاً يضع كلمة إلى كلمة، ويزاوج بين رسالة ورسالة، ليخرج منهما معنى ليس في يده من حقيقته شيء إلا ما يهديه الفكر وصواب الرأي وملابسات الحادثة

وإنها لأديبة شاعرة يعرفها كثير من قراء العربية وأعرفها عرفانهم أو يزيد، وحسبي هذا مقدمات إلى النتيجة، وما يعسر على من يمسك طرف الخيط أن يصل إلى آخره. . .

لقد التقيا وما بينهما شابكة ولا يربطهما سبب؛ فما كانت إلا نظرة وجوابها حتى ارتبطا قلباً إلى قلب؛ وكان الأدب رباط بينهما أول ما كان، ثم استجرهما الحديث إلى فنون من الكلام فكشفت له عن آلامها وكشف لها عن آلامه فكان عطف وإشفاق؛ ثم تحدثت عن أحلامها وتحدث عن أحلامه، فكان الحب؛ ثم. . . ثم كانت القطيعة حين بلغ الحب غايته ونال مناله من نفسها ومن نفسه، فافترقا حين كان يجب أن يبدأ اللقاء ليتذوقا سعادة الحب ويقطفا من ثمراته. . . وضرب الدهر من ضرباته فإذا هو تحت الرغام، وإذا هي في المستشفي تتمرض من داء هيهات أن تجد له الدواء!

لم تكن (هي) تقصد الحب ولا تعمدته ولا كان هو، ولكنها أديبة تعرف موازين الكلام، لقيت الأديب الذي تعجب به ويفتنها بيانه، فأحبته (عقلاً جميلا) كما تسميه في بعض رسائلها. . .

وكان سعيه إليها يلتمس الشعر والحكمة، والشعر والحكمة هما رابطتها إليه وفاتنتها به؛ فتصنعت له لتفنه وتزيده شعراً وحكمة، ثم تصنعت لتزيده، ثم تصنعت لتزيده، ثم تصنعت لتزيد هي به؛ لأنها وجدت به نفسها، ووجدت به الشعر والحكمة والبيان؛ فأحبته (أستاذها ومرشدها) لأنه أوحى إليها ما عجز دونه الآخرون، لأنه فجر لها ينبوع الشعر وعلمها البيان هكذا تقول في بعض رسائلها. . .

وهي فتاة لم يسالمها الدهر ولم تزل منذ كانت - غرضاً لسهام الأيام، تنوشها الآلام من كل جانب، ولها نفس شاعرة تضاعف أحزانها فتجعل لها من كل همٍّ همين، وإن حواليها لكثيراً من الأصدقاء يزدلفون إليها ويخطبون ودها، ولكن. . . ولكنها تريد الصديق الذي يستمع إلى شكواها من الأيام فتستريح إليه، أكثر مما تريد الصديق الذي لا تسمع منه إلا كلمات الزلفى والتحبّب واصطناع الهوى والغرام. . . وتحدث إليها الرافعي وتحدثت إليه، وقصت عليه من أحزانها فاخضلّتْ عيناه وأطرق فوضعت يدها على يده وهي تقول:

(سأدعوك أبي وأمي متهيبة فيك سطوة الكبير وتأثير الآمر، وسأدعوك قومي وعشيرتي، أنا التي أعلم أن هؤلاء ليسوا دواماً بالمحبين؛ وسأدعوك أخي وصديقي، أنا التي لا أخ لي ولا صديق؛ وسأطلعك على ضعفي واحتياجي إلى المعونة، أنا التي تتخيَّل فيّ قوة الأبطال ومناعة الصناديد! (وسأبين لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك وأنت لا تدري. . .!)

وأحبته (صديقاً) تفزع إليه إذا ضاقت بآلامها وحزبتها الهموم. . .

وهي الفتاة التي لم تعرف في حياتها إلا التجهم والعبوس، ولم تعرف من دنياها إلا الجد الصارم؛ وما كان لها من عمل غير الاستغراق في الفكر، أو الاستغراق في الفن؛ وإنها لأنثى وإن كانت فيلسوفة شاعرة. . .

والرافعي رجل - كان - لا يحمل من هم، فما يدع النكتة ولا يترك المزاح والدعابة وإن الدنيا تصطرع حواليه، وإن كان القضاء منه بمرصد يراه ويتوقعه؛ وإنه ليهزل في أجدِّ الجد وأحرج الساعات هزله في أصفى حالاته وأسعد أيامه؛ فما يجالسه ذو هم إلا سُرِّى عنه كأنما يمسح قلبه فيمحو أحزانه. . .

وتحدث إليها وتحدثت إليه، فأحبته (الرفيق الأنيس) الذي تسيطر عليها روحه فينتزعها من دنياها العابسة إلى دنياه. .

واستمعت إلى صوته يتحدث، فكان له في نفسها رنين؛ ونظرت إلى سحنته الفكرية النبيلة فرأت فيها مرآة نفس صافية لا تعرف الخداع والتزوير؛ ولمحته يبتسم، فجذبتها إليه ابتسامه لم تجد مثلها إلا زيفا على شفاه الرجال؛ ونظر إليها ونظرت إليه، وقال وقالت، وتحدث قلب إلى قلب، وتناجيا في صمت؛ وتركها وهي في نفسه، ومضى وهو في مجلسها؛ وأحست في نفسها إحساساً ليس لها به عهد؛ فتناولت قلمها لتكتب إليه:

(. . . سأستعيد ذكرك متكلما في خلوتي لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك، حكاية البشر المتجمعة في فرد واحد؛ وسأتسمع إلى جميع الأصوات علِّي أعثر فيها على لهجة صوتك، وأُشرِّح جميع الأفكار وأمتدح الصائب من الآراء ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكارك. . . وسأبتسم في المرآة ابتسامتك

(في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك. . .

(سأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عاديِّ الانفعال برزانة وشهامة لتستسلم ببسالة وحرارة إلى الانفعال النبيل. . .

(وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخوراً، لأنك أوحيت إلي ما عجز دونه الآخرون.

أتعلم ذلك، أنت الذي لا تعلم؟ أتعلم ذلك، أنت الذي لا أريد أن تعلم. . .!)

وكان حبها إعجاباً بالعقل الجميل، ثم تقديراً لأستاذها الذي فجر لها ينبوع الشعر والبيان، ثم إجلالا للصديق الذي وجدت مفزعها إليه، ثم انعطافاً إلى الرفيق الأنيس الذي كشف لها عن أفراح الحياة، ثم. . . ثم حباً يستأثر بنفسها ويسيطر عليها في غيبه ومشهده فما لها عمل إلا أن تفكر فيه. . .

وأضلها الهوى وأضله؛ وخيل إليها أنها تستطيع أن تكون أرفعَ محلاًّ لو أنها منعته بعض ما تمنحه، وخيل إليه أنه يستطيع وقالت له: (أنا لا أشفق على آلامك؛ وهل تراني أكره لك النبوغ والعبقرية؟) وقالت له كبرياؤه وغيرته وظنونه غير ما قالت صاحبته؛ ومضى كل منهما إلى طريق والقلب يتلفت؛ وما عرفت إلا من بعد أنه يحبها حباً لا يطيق أن يتسع أكثر مما تتسع له نفس إنسان؛ وما عرف إلا من بعد أنها كانت تجافيه لتطلب إليه أن يكون في الحب أجرأ مما كان. . .

وعرف وعرفت، ولكن العقدة لم تجد من يحلها وبينهما فلسفة الفيلسوف وكبرياء المتكبر؛ وظلّ وظلت وبينهما البعد البعيد على هوى وحنين. . . حتى جاء الموت فحل العقدة التي استعصت على الأحياء. . .!

إن كثيراً ممن يعرفونها ويعرفونه ليدهشون إذ يقرءون قصة هذا الحب، وسيتناولونها بالريبة والشك؛ وسيقول قائل، وسيدعي مدع، وسيحاول محاول أن يفلسف ويعلِّل؛ ولا عليّ من كل أولئك مادمت أقص القصة التي أعرفها وأستيقنها، والتي كان لها في حياة الرافعي الأدبية تأثير يُردّ إليه أكثر أدبه من بعد، وحسبه أنه كان الوحي الذي استمد منه الرافعي فلسفة الحب والجمال في كتبه الثلاثة: رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وحسبي أنني قدمت الوسيلة لمن يريد أن يدرس هذه الكتب الثلاثة على أسلوب من العلم جديد

(شبرا)

محمد سعيد العريان