مجلة الرسالة/العدد 23/العلوم
مجلة الرسالة/العدد 23/العلوم
نذير وبشير
للدكتور أحمد زكي
كل إنسان يحمل داءه، وكل حي يتضمن فناءه، إن فاته المرض، أدركه الكبر وحسبك بالكبر داء، والخلية الصغيرة من نبات أو حيوان، فيها البروتوبلازم، وهي معدن الحياة، ولكنها كذلك معدن الموت، تظل تنشط ما دبت الروح في الجسم، فإذا فارقته نشطت في التلف، في التفكك والتحلل، بمثل نشاطها في الحياة
وجماعات الأحياء على هذه الأرض كالأجسام تصحو حينا وتمرض حينا، وهي مثلها فيها أسباب الفناء، فهي لكي تفنى ليست بحاجة إلى أن ينقضّ عليها نجم أو تهوي من سمائها شمس، بل إن في الأرض كفايتها من أسباب العدم. والحياة على هذه الكرة رهينة بموازنات شتى بين أجناس الحيوانات والنباتات من إنسانها ودوابها وطيرها وحشرها وجراثيمها وطحالبها وفطرها أو حزازيِّها وسرخسيِّها وبذريِّها، موازنات عماده التقاتل المستمر بين هذه الأجناس جميعا، والتآكل الذي لا ينتهي، فما من قبيل إلا يأكل قبيلا، وما من قبيل إلا يأكله قبيل، وقد يزيد حظ هذا القبيل من الحياة وقد ينقص حظ ذلك منها، ولكن الحياة المطلقة في مجموعها ثابتة في هذا النضال. وهو نضال سجال، لا يغلب فبه غالب كل الغلبة، ولا ينغلب مغلوب كل الانغلاب، إذ لو كان هذا، لاختل التوازن بين جماعات الأحياء، وهو سر استمرار الحياة على النحو الذي نعرفه على سطح هذه البسيطة
والجمعية الإنسانية لا تشذ في ذلك عن جمعيات سائر الخلائق الحية، والتوازن الذي بين الإنسان وبينها لا بد أن يستمر ليعيش هو وليعشنَ هنَّ، فنحن نأكل الحيوان والنبات لنعيش، ونموت ليأكلنا الحيوان والنبات بالتباشر أو بالواسطة، فيعوضا بذلك ما فقدا، ولو أننا أكلنا منهما ثم أكلنا واستمررنا مع ذلك في حياة صريحة لا يخالطها عدم لفني، المأكول ففنى الآكل
إلا أن هذا التوازن قد يختل اختلالا يذهب بجماعة من جماعات الأحياء أو يكاد، وقد حدث في التاريخ أن انقرضت أجناس لا نجد الآن منها غير آثارها. وسؤالنا اليوم هل يجوز على الجمعية الإنسانية ما جاز على تلك الأجناس المنقرضة؟ هل يفسد هذا الاتزان في ناحية من نواحيه فيهوي بالإنسان إلى فناء محتم، أو على الأقل ينزل به في نظام الأرض إلى منزلة وطيئة وضيعة، تنقصه عدده، وتقل عدته، وتفقده هذه السيطرة المطلقة الحاضرة على سكان هذه اليابسة؟
هذا ما ينذر به (السير ملكولم وتسن) رئيس معهد رس الصحي بلندن، وهو رجل إذا قال استُمِع له، فهو يقول في مقال قريب انه لا يبالغ إذا ارتأى أن المدنية قد تنتهي باضطراد الزيادة في طرق المواصلات اضطرادا سريعا يسبق العلم في مكافحته النتائج السيئة التي تنجم عن صلات قريبة بين مناطق الأرض التي لم تصلها إلى الآن روابط وثيقة. واتخذ مضربا لمثله الحمى الصفراء، وهي حمى فتاكة، تبلغ الوفيات منها 60 في المائة، وقد بلغت في بعض الوافدات 94 ?، وهي تنتقل من فرد إلى فرد بواسطة جنس خاص من البعوض اسمه السليم بعد عضة البعوضة المعدية له لا يظهر عليه المرض في الستة الأيام الأولى ولا يكون عندئذ مصدراً للعدوى، فإذا ظهر عليه المرض كان مصدرا لها في الثلاثة الأيام الأولى فقط من ظهور المرض، فلا بد للبعوض السليم أن يعضه لكي يُعدى المريض في خلال هذه الأيام الثلاثة فحسب.
وهذه البعوضة ذاتها بعد دخول المرض فيها لا تُعدي بالعض إلا بعد عشرة أيام من ذلك، ولكنها خلافا للإنسان تحمل العدوى طول عمرها.
والحمى الصفراء تستوطن الآن غرب أفريقيا من السنجال إلى أنجولا، وبين هذه المنطقة الوبيئة وما جاورها من سائر أفريقيا حواجز طبيعية منيعة، فبينها وبين شمالها الصحراء الكبرى، وبينها وبين غربها جبال منيعة، وفي كلتا الحالتين يستغرق الإنسان للخروج من هذه المنطقة إلى بقية الدنيا أسابيع طويلة مشيا على القدم أو ركوبا على الدواب، فإذا أصاب المسافر عدوى وسافر عقبها فالموت يدركه أو الشفاء، قبل أن يصل إلى غايته شمالا أو غربا. كذلك البعوض المصاب لا يصمد لهذه السفرة الطويلة. وأما وقد أمكن الآن أن يصل الإنسان إلى تلك المنطقة أو يخرج منها بالسيارة أو القطار أو الطائرات في تسعة أيام فما دونها فقد أصبح من المحتمل أن يُعضّ المسافر في السنجال ويبلغه المرض في مراكش أو تونس أو في مصر. وجنس هذا البعوض موجود في تلك البلاد، فما هي إلا أن يحل بها المريض فيعضه البعوض فتعم البلوى على أن البعوض السنجالي نفسه في استطاعته أن يسافر على الطائرات، وقد ثبت ذلك فعلا فقد امتحنت مائة طيارة بعد سفر 1250 ميل فوجد أن منها اثنتي عشرة تحمل بعوضا.
وإذا دخل المرض أفريقيا الشمالية والشرقية فلن يقف عند هذا الحد، فهو لابد سائر إلى جزيرة العرب فالهند فالشرق الأقصى، إما أرضا وإما على السفن بحراً وإما في الطيارات جوا، وإذا هو أدرك آسيا انتشر انتشار النار في الهشيم لزحمة السكان، ولوجود هذا البعوض بكثرة لا سيما في المناطق الاستوائية منها، ففي كولومبو بحثوا المنازل بحثا منظما فوجدوا البعوض في 98 ? منها. وكذلك الحال في الملايا
وإذا طغى المرض على أفريقيا وآسيا هذا الطغيان فقد طغى على أكثر من نصف المعمورة فأنقض صرح التجارة وامتنع التبادل بكل أنواعه بين الشرق والغرب ووقفت السفن واعتلت الحياة واهتزت أسس المدنية اهتزازا ينذر بالتداعي.
هذا حلم لا شك مريع يقصه علينا السير (وتسن) لا نريد بروايته إلا التمثيل بما يمكن أن يحدث للمجتمع الإنساني من جراء قبيل دنيء من الأحياء إذا أعطيت له الفرصة للسيطرة على قبيل الإنسان: جراثيم صغيرة فتاكة صغرت حتى مرَّت في المرشحات البكتريولوجية، ودقت حتى لا تراها الميكروسكوب العادية. ولكن الإنسان بطبيعته يقظ لكل اختلال في اتزان يقع بينه وبين أي قبيل من قبائل الأحياء، ولا أدل على هذه اليقظة من إنذار السير (وتسن) نفسه، ومن إنذارات مثلها سبقته حدت برجال العلم، وهم جنود البشر في هذا النوع من الكفاح من زمن بعيد إلى دراسة هذه الحمى، أصلها، وموطنها، وناقلاتها، وطرق الوقاية منها، ووسيلة علاجها، وقد خطوا في هذه السبيل خطوات واسعة تدلنا على أن النصر تراءى ولو من بعيد. ففي الشهر الذي ينذرنا فيه عالم بالدمار، يبشرنا علماء آخرون أن الأمل كبير في وقاية السليم بالتطعيم. ذلك أنه بادئ بدء استكشفوا أن ميكروب الحمى الصفراء إذا عُرّض للهواء أو لفعل مواد كيمياوية كالفرمالين والفينول والجلسرين يفقد بالتدرج شيئا من حدته، فإذا حقن به السليم عندئذ لا تظهر عليه أعراض المرض الإكلينيكية ولكنه يكتسب بذلك حصانة ضد العدوى. وقد استخدم هذا اللقاح بنجاح في مكافحة وافدة هذه الحمى في عاصمة البرازيل عام 1928. لكنهم وجدوا أن تحضير هذا اللقاح لا يخلو من خطر، فانهم إذا أطالوا تعريض الميكروب للمواد الكيمياوية المذكورة بلغ به الضعف أنه لا يكسب حصانة، وإذا قصروا تعريضه كان من القوة بحيث لا يؤمن شره، وفوق هذا فاللقاح بعد تحضيره سريع العطب حتى إذا أختزن في الثلاجات العادية. عند ذلك اتجهوا في التفكير وجهة جديدة فذكروا أن المريض إذا نجا اكتسب بمرضه حصانة فلا تأتيه العدوى مرة أخرى ولو تعرض لها، فطلبوا الوقاية في دم هذا المريض الناقه فاستخلصوا منه مصلا حقنوا به الأصحاء فأكسبهم حصانة ضد الداء، ولكنها لم تدم سوى أسابيع قليلة بعدئذ جمعوا الاثنين معا، اللقاح والمصل، فوجدوا مدة الحصانة تطول، ولكن لم يزل بذلك الخطر من استخدام لقاح قد يحتوي الميكروب في تمام حدته. فكان لابد من كشف طريقة جديدة لأضعاف الميكروب إضعافا يذهب بسورته دون الذهاب بحيويته فبلغوا الغاية من ذلك بامرار الميكروب بمخ الفئران بضع مرات متعاقبة، وحصلوا على ميكروب لا بالضعيف ولا بالقوي، يحقن به الإنسان فيتحصَّن ضد الداء بمقدار ما يتحصن من عاناه. إلا أن ملاحظات جديدة أظهرت أن الخطر لم يزل تماما، وأهم من ذلك أن دم المحقون بهذا اللقاح الجديد يحتوي الميكروب الحي فهو مصدر خطير لعدوى البعوض. عندئذ فكروا في الجمع مرة أخرى بين هذا اللقاح الجديد وبين مصل الناقهين، لأن هذا المصل يزيد حصانة المحقون عقب الحقن فيقاوم فعل اللقاح إذا زاد على الحد، وظُنّ فيه كذلك أنه قد يمنع وجود الميكروب الحي في الدم. وقد دلت النتائج على أن الجمع بين هذين يزيد في حصانة المرء زيادة كبيرة دون أن تظهر عليه عقب الحقن أعراض المرض، أو يظهر الميكروب الحي في دمه فيكون سببا في عدوى البعوض فالناس.
والعقبة الوحيدة التي باتت رهينة التذليل هي صعوبة الحصول على المصل من دماء الناقهين من بني الإنسان. وحتى هذه يظهر أنها ذُللت بما أُعلن في نشرة علمية في مايو الماضي من أن الخيل إذا حقنت مرارا متتالية بميكروب الحمى اكتسب دمها القدرة على مقاومة الميكروب، وإذن ففي الاستطاعة إبدال دم الخيل بدم الإنسان
هذا ما يختص بالبحث في زيادة حصانة الناس حتى لا تفجأهم العدوى وهم غافلون، ولكن لعل أهم من هذا أن يُستأصل البعوض الذي ينقل العدوى. وقد جرت أبحاث في ذلك، ولكن عادات هذا البعوض وطريقة معيشته وأسلوب إفراخه أعجزت البحاث، فالبعوض يُفرخ في الماء ككل البعوض، إلا انه يفرخ في كل ماء حتى في الحُفَن الصغيرة منه والاسآر القليلة، في شقوق الشجر أو فلقات الحجر، وفي الكوب والزير وسائر ما يحمل الماء في البيوت. وقد استخدموا الزيت يضعون منه على الماء المكشوف فيمتد فِلْما رقيقا على سطحه فيمنع الأفراخ، ونجح هذا بالطبع، ولكن كم من أرباب المنازل في المدن الصغيرة والكبيرة يركن إليه في القيام بهذا، وكيف تصل يد الإنسان بالزيت إلى كل فجوة وكل نقرة في الأصقاع عامرها واليباب. وجربوا كذلك السمك الصغير يضعونه في مستودعات مياه الشرب في المناطق الحارة، فيأكل العلق قبل أن يستحيل بعوضا. وقد قدر لهذه الوسيلة بعض النجاح أما المرض وقد أصاب المريض فليس له دواء. أمامك المريض يتضور من الألم الشديد، ويقيء الدم الأسود الصديد، قد اصطبغ جلده صفرة، وعلت وجهه وعيناه وخياشيمه حمرة، ولا حيلة لك فيه غير التمريض بتخفيف الأعراض بالثلج وأشباهه ثم الصبر حتى يقضي قضاء الله، كل هذا وأنت نفسك معلق بين الموت والحياة
ولكن مع كل هذا، وبعد كل هذا، أليس يحق للإنسان أن يظل يتساءل: أفي الإمكان اختلال الاتزان بين قبيل الإنسان، وقبيل من سائر الأحياء، ولو دنيئا كالذي نحن بصدده، اختلالا يذهب بسيد الحيوان ويمسح آثاره من رقعة الوجود؟