مجلة الرسالة/العدد 23/جواب عن سؤال

مجلة الرسالة/العدد 23/جواب عن سؤال

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 12 - 1933



للأستاذ أحمد أمين

وجه الأستاذ علي الطنطاوي في العدد الماضي إلينا وإلى أدباء الرسالة سؤالا ملخصه: أنعمل وغايتنا الأدب للأدب؛ أم نعمل وغايتنا الأدب للحياة؟ ثم سأل لماذا ينصرف أدباؤنا عن الأدب القومي الذي يعالج (القضية الكبرى) إلى ذلك الأدب الغزلي الضعيف؟ وقد أجبنا أجمالا في ذلك العدد عن بعض هذا السؤال، وتفضل صديقنا الأستاذ أحمد أمين فأجاب تفصيلا عن البعض الآخر (المحرر)

لك الحق (كل الحق) يا أخي أن تصرخ ونصرخ معك في وجه زعماء

الأدب العربي طالبين أن يلتفتوا إلى الأدب القومي ويكثروا القول فيه،

فالعالم العربي كله يجيش صدره بآلام وآمال، والأدب يجب أن يعبر

عن هذه الآلام والآمال، بأسلوبه الرشيق، وعواطفه القوية، وخياله

الرائع؛ وإذ ذاك يجد الناس غذاءهم فيما يقرأون، ولذتهم ومتعتهم فيما

يسمعون وينشدون، والناس في كل عصر يتطلبون من الأديب أن يكون

موسيقاهم التي تناسب عاطفتهم، فأن كانوا فرحين مرحين كانت

الموسيقى فرحة مرحة، وان كانوا باكين محزونين كانت الموسيقى

حزينة باكية، ومن السماجة أن توقع الموسيقى نغمة فرحة في مأتم، أو

نغمة باكية في عرس، وقد كان الناس يقصدون إلى الشعراء يشرحون

إليهم عواطفهم ويطلبون منهم شعرا يناسبها ويرويها.

كان بيت بشار في البصرة مقصدا لهذا النوع من الناس، يذهب إليه الغزِل الذي تجيش في صدره عاطفة الحب ولا يستطيع أن يعبر عنها ليجد بشار من فنه ما يعبر عما في نفسه، وتذهب إليه النائحات لينشدهن شعرا يستنزف الدمع ويبعث الشجا والشجن

وكل عصر له مطالبه وكل أمة لها مواقفها وعواطفها، ولا خير في الأدب إذا لم يصف الحياة، ويغذ العواطف، ويجد الناس في كل موقف يقفونه قولا أدبيا قوياً يشرحه، وشعر جميلا يعبر عنه

والعالم العربي الآن له عواطف قومية جديدة لم تكن لديه قبل سنين، هي نتاج التيار الحديث الذي غمر أوربا وسار منها إلى الشرق، فملأ مشاعرها ألما مما هي فيه، كما ملأها أملا في حياة خير من الحياة التافهة التي يحيونها، ثم التفتوا إلى الأدب القديم فلم يجدوا فيه غذاءهم كافيا، ليس فيه شعر يتغنى بالحرية كما نود، ولا بالقومية كما نحب وإنما هي أبيات مبعثرة مجملة، قيلت لوصف مشاعر غير مشاعرنا وفي مواقف غير مواقفنا. وتلفتنا إلى الأدب العربي الحديث فوجدناه ناقصا كأخيه، لم يسد الفراغ، ولم يكمل النقص، قد أفرط القدماء في الغزل فأفرط المحدثون فيه، وقصر القدماء في وصف المناحي الإجماعية والنزعات القومية فقصر المحدثون فيه، وأصبح ناشئنا لا يجد الغذاء الكافي في القديم ولا في الجديد، فلك الحق أن تطلب من الزعماء وأن تطلب من الرسالة أن تدعوا الكتاب والشعراء أن يلتفتوا إلى وجوه النقص فيكملوها، حتى إذا احتاج الشباب إلى نشيد أو أناشيد وجدها، وإذا وقف موقفا يتطلب قصيدة في معنى من معاني القومية أو الحرية أنطلق بها لسانه، وإذا طرب لمنظر طبيعي في بلاده وجد القصائد قد قيلت فيه واستوفت محاسنه، وهكذا، ولك أن تطلب من كتاب الروايات أن يبحثوا عن نواحي الضعف في الحياة الإجماعية الشرقية، فيجلوها ويعالجوها، وأن يكون لهم نظر صادق في تعرف نفسيات الأفراد والجماعات فيحللوها، وأن يتجه الكتاب الاجتماعيون فيدرسوا أمراض قومهم، ويستخدموا الأدب في الخطب والمقالات تثير مشاعر الناس وتهيجهم، ليتخلوا عن رذيلة، ويستكملوا فضيلة، ويعالجوا نقصا، وينشدوا كمالا

لك الحق أن تنعى على الأدباء أن أكثرهم في الشرق لم يتجه هذا الاتجاه إلا قليلا، وانهم بين أن ينظموا في الأغراض القديمة ولا يحسنوها إحسان القدماء، وبين أن ينقلوا من الأدب الغربي ما فقد روحه، أو لم يتناسب وروحنا. وإلا فأين هو أدبنا القومي؟ وأين التغني بمناظر طبيعتنا؟ وأين الروايات الاجتماعية تصفنا؟ لا شيء من ذلك إلا القليل الذي لا يتناسب ونهضتنا الحديثة

أنا معك في هذا كله - ولكن لست معك في إنكارك: أن يكون الفن للفن، والأدب للأدب، ولست معك في أن تطلب أن يكون الأدب للحياة - فليس من شك في أن القطعة متى استوفت عناصرها الأدبية كانت أدبا، مهما كان موضوعها الأخلاقي، وليس أحد ينكر أن قصائد أبي نؤاس الفاجرة الداعرة أدب، كما لا ينكر أحد أن الصورة العارية إذا أجيد تصويرها فن جميل، وان لم ترض عنها الأخلاق. فالأدب للأدب والفن للفن، ولكن هذا لا يمنع أن تكون سلطة المصلحين فوق سلطة الأدباء؛ فإذا رأى المصلحون أن ضربا من الأدب يحل الأخلاق ويفك عرى المجتمع، حاربوه بكل ما استطاعوا من قوة، وإذا رأوا أن ضربا من الأدب في الأمة ضعيف ويجب أن يقوى، طلبوا الإكثار منه بشتى الوسائل، وشجعوا عليه ومهدوا له السبل، وهذا هو موقفنا بالضبط. فقد كثر فينا ما نسميه بالأدب المائع كثرة تحل الأخلاق وتضعف الرجولة، وهذا الأدب المائع من غير شك أدب، وقد يكون أدبا راقيا، ولكن يصح أن نخضعه لنظر المصلح. فإذا كان المصلح الاجتماعي قويا ضرب على هذا النمط من الأدب ولو إلى زمن محدود، حتى تستكمل الأمة قوتها ورجولتها. ومثل الأدب في ذلك مثل العلم، فالأدب للأدب كالعلم للعلم - فان أردت بقولك أن الأدب لا يكون أدبا إلا إذا خدم الحياة فأنا مخالفك، وان أردت أن المصلحين والدعاة يجب أن يخضعوا الأدب لأغراض الحياة الصحيحة فإني موافقك.

وبعد - فقد غلوت يا أخي في رأيك، فلم ترد أن يكون في الأدب حب إلا من نوع خاص، وأردت من الأدب أن يكون قويا وقويا فقط، وبعبارة أخرى تريد أن تكون حياة الأدباء حياة حربية ليس فيها إلا القوة وما يبعث على القوة، ليس فيها زهرة جميلة ولا غزل ظريف، وأنا أخشى أن الأدب باقتصاره على القوة يفقد القوة، فان للنفوس سآمة، ويحسن أن يكون بجانب صوت المدفع والقنابل صوت العود والقانون. ولقد كنت أكتب في هذا الموضوع حتى إذا وصلت إلى هذا الموضوع شعرت بملل، فما هو إلا أن سمعت نغمة رقيقة من بيانو فأصغيت إليها حتى استكملتها فعادة نفسي إلى نشاطها - ألا يكون في هذا مثل صالح للحياة الأدبية؟ فجد وهزل، وتغن بالحرية، ونعي على الاستبداد، وتغزل في زهرة، وفكاهة حلوة. هذا يا أخي أصلح حتى من الناحية الجدية، فمن لم يله أبدا قصرت حياة جده وتقبضت نفسه، ولم يتحمل طويلا مرارة العمل، وأن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى. أحب أن تكون الحياة الأدبية كفرقة الموسيقى: لا طبلا فقط، ولا نايا فقط، بل هما وغيرهما، وعيب حياتنا الأدبية الحاضرة أنها رخوة فقط، فيجب أن يضاف إليها نغمات القوة، لا أن تحل النغمات القوية وحدها محل النغمات الرقيقة، فأنا إن فعلنا ذلك كان الأدب أبعث على الحياة، وأحفظ للقوة، فطمئن نفسك ولا تأس على شاعر طال ليله وأرق جفنه حبيب أعرض عنه وابتسامة احتجب عنه نورها، فمن يدرينا لعل الحب كله من واد واحد، فمن أحب فتاته أسرع استعدادا لأن يحب أمته، ويحب ربه، ومن تحجر قلبه لم يبك على شيء.

وبعد فموقف (الرسالة) كما أفهم من مبادئها يجب أن يكون الدعوة إلى تكميل النقص في الأدب العربي، وحث قادته على أن يطرقوا من الأبواب ما نحن في أمس الحاجة إليه حتى يكون أدبنا صورة تامة لنا، وحتى يكون غذاء كافيا لمختلف عواطفنا، يجب أن يكون موقفها - فوق الموقف الأدبي، موقف المصلح، فترفض أن تنشر الأدب الساقط المرذول، المضعف للخلق، المفسد للرجولة، ولكن يجب كذلك أن تفسح صدرها لنوع من الأدب لا هو بالقوي الذي تتطلب الاقتصار عليه، ولا هو بالضعيف المائع، هو أدب الحب العف، والفكاهة الحلوة البريئة، والهزل يشف عن جد، والمزح مبطنا بعظة، ونحو ذلك، ففي التزام الجد خروج إلى الجفاء، وانحدار إلى الجمود.

هذا إلى أن الرسالة يجب أن تكون بجانب دعوتها إلى الإصلاح سجلا للنزاعات الأدبية على اختلاف أنواعها ما لم تكن النزعة مستهترة، تميط قناع الحياء، وتخرق حجاب الحشمة.

وأخيرا لك الشكر (يا أخي) على ما حوى كتابك من غيرة صادقة، وعاطفة نبيلة، وما أثرت من موضوع يستحق العناية، ويدعو إلى طول التفكير.

أحمد أمين