مجلة الرسالة/العدد 23/رسائل حزينة

مجلة الرسالة/العدد 23/رسائل حزينة

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 12 - 1933



هل كان حبهما خطيئة. .؟

أصحيح أنني ألقيت بهذا اللون من الرسائل الحزينة ظلالا شاحبة كئيبة على حياتك الباسمة بين أحضان الريف. وتحت سمائه الصاحية الجميلة. فان يكن ذلك حقا؟ وانك قد أصبحت تضيق ذرعا حتى بهذا القدر التافه من العزاء الذي أجده في الكتابة إليك ترويحا لقلب عان ونفس ثائرة مضطرمة، فقد ينبغي لك أن تعلم أن الشجرة التي انتصبت في الفضاء، تهزأ بالأعاصير والأنواء. ساخرة متحدية. حتى عريت من أوراقها وتحطم الكثير من أغصانها، ما يزال في جذعها الضخم العنيد، وأعراقها الراسخة القوية، ما يعينها على الصبر إلى نهاية المعركة، حتى ينجلي ليل محنتها قليلاً قليلا. ثم يطالعها في أعقابه فجر باسم حالم، ينبت فيها أوراقا بأوراق، وينشئ لها أغصانا بأغصان. ويومئذ تفيء الطيور إلى ظلها الوارف الظليل: لتملأ هذه الأجواء الحزينة شدوا شجى النغم حلو الرنين، يعيد إلى هذا القلب الذي هانت عليه آلامه فيضا دافقا من حلاوة المنى ولذة الأمل. وإذن فسأحتجن هذه الآلام من دونك بعد اليوم في صدري: فما يزال فيه قدرة على احتمال المزيد منها. وسأدير الحديث إليك في هذه الرسالة حول شخص لا تعرفه، قد آخت بيننا سهمة من الألم المشترك، وسأنفض إليك جملة حاله وجماع قصته علني أقف منك على رأي تراه له، لأنني - وأنت تعرف رأيي في المرأة - تحرجت من إبداء رأي قد يفسده ما أحسه اليوم في قلبي بسببها من جراح وندوب. والحق أنها قصة تعتبر تصويرا صحيحا لمشكلة من مشاكلنا الاجتماعية. أو قل إنها ثورة عنيفة على بعض تقاليد الأسرة المصرية وتحطيم لها. أو قل أنها استجابة حارة لهتاف الروح ودعوة القلب، وهي لهذا الذي أسلفت لك جديرة بشيء من العناية غير قليل.

انحدر إلى هذه الدنيا وحيدا لأبوين رزقاه على وجد للبنين بعدما كادت الأيام تشرف على ربوة العمر. فتهيأت له من هذه الناحية طفولة ناعمة مدللة أسلمته إلى دار من دور التعليم جعل يتخطى سني دراستها غير وان ولا متخلف، حتى وصل إلى السنة الثانية من دراسته في كلية الحقوق بالجامعة المصرية. وعندئذ بدأ الجدول العذب الذي كان يتسلسل في طريقه سهلا رفيقا يتحول إلى طريق ملتوية مليئة بالجنادل والأحجار. فقد توشجت بينه وبين زميلين من رفاقه بالجامعة أواصر الصداقة والمودة. واتفقا معه في نظرهما إلى الحياة من ناحيتها العابثة الماجنة. فكانت لهم في ظلال الليل متع سعيدة بسامة. ينهلون من خمرين: ريق ورحيق، ويتساقون من كأسين: آونة من فم الإبريق، وأخرى من خلال شفاه وردية في حمرة العقيق، وجعل في هذه الغمرة المجنونة لا يدع واجبا مدرسيا إلا أهمله حتى فوجئ بالفصل من الجامعة بعد رسوبه في اختبار النقل عامين متواليين. وكانت الصدمة عنيفة قوية. والحسرة على ضياع مستقبله الجامعي لذاعة أليمة. وأخذت آماله التي كانت تضيق بها الدنيا تتضاءل وتنكمش حتى وسعتها مدرسة البوليس على كره منه ومضض. . وتخرج في هذه المدرسة ضابطا يختال بنجمته اللامعة ويلقى من التحية ألوانا كلما مر في طريقه بواحد من أولئك الجندالمساكين. . . وعاوده الحنين إلى المرأة غلابا قويا. وأخذت جوارحه تهتف بنداء الجنس فيستجيب لها في جنون وشغفإلى أن وضعت الأقدار في طريقه تلك المرأة التي أنا بسبيل من الحديث عنها الآن.

كان الفصل شتاء، والسماء عابسة يدوي في جوانبها الرعد، مظلمة يلتمع في حواشيها البرق، والليلة باردة الأنفاس، مقرورة النسمات، وكان الفتى على موعد مع رهط من أصدقائه في حفلة غنائية ذهب يشهدها، فاتفق له أن يجتاز في طريقه ميدانا صغيرا من ميادين القاهرة، فلمح على هامش الطريق فتاة تعبث الرياح الغاضبة بثيابها الفضفاضة عبثا منكرا قبيحا، تتململ في وقفتها الضارعة الذليلة. وترعش أوصالها تحت أضواء هزيلة يرسلها على الطريق مصباح باهت شاحب. فعرف أنها طريدة من طرائد الليل قد أتاحتها له الفرص السعيدة في هذه الليلة العصيبة. فمشى إليها جريئا يختال بنجمته اللامعة وسمته الرائع الجميل، وسدد إليها تلك النظرة التي تعرف المرأة وحدها سر ما تنطوي عليه. فأغضت حياء وقد اصطبغ وجهها بلون الورد في زمن الربيع. . واستقل معها عربة إلى مسكنه الخالي إلا من خادم ريفي يتوفر على خدمته والعناية بشأنه. وهناك في تلك الخلوة التي تهيج في المرأة أشجانها المستورة، وتثير عواطفها المكمودة، ترقرق الدمع في مآقيها وجعلت تفضي إليه بودائع قلبها الدامي الجريح في لهجة محزونة تنتزع من أصلب القلوب ألوانا من العطف والإشفاق والرثاء. . . عرف أنها واحدة من تلك الضحايا البريئة التي غلبت على أمرها في خلوة مجنونة عابثة. مأخوذة بمعسول الأماني وبواسم الأحلام. زين لها لص من لصوص الأعراض سحر الخطيئة. فأكلت من الشجرة الملعونة ثم تنكر لها. وعلم أهلها بعارها فنبذوها، وعضها الجوع وأذلتها الحاجة، فخرجت إلى الطرقات دامعة العين مصدوعة القلب غير مستعصية على طالب متعة لقاء ثوب تلبسه، وفضلة من طعام تأكلها. ولقد هتفت بكل ما فيه من رجولةورحمة أن يستبقيها في بيته خادما ترعاه وتعبده، وأن يمسك عليها تلك البقية الباقية من شباب ذبلت زهرته، وحياء كادت تأتي عليه عوادي الليل وأحداث النهار. . . . . . فتجمعت الدموع في عيني الشاب عطفا عليها ورثاء لها. وبدأت تخامر قلبه من نحوها عاطفة مجهولة غامضة. عاطفة إن لم تكن حبا فهي قريبة من الحب. وأجمع أمره على أن يعصمها من السير في هذه الطريق الشائكة الملتوية. وسيشعرها في جواره هناء الحياة ولين العيش. وحسبها تكفيرا عن زلتها ما لاقته من أهوال وخطوب.

ولبثت في بيته عاما كاملا لا تكشف الأيام منها في خلاله إلا عن كل ما يملك القلب ويأسره، خلق رضي كالماء رقة وعذوبة ووفاء يسمو إلى حد التضحية. وعرفان للجميل أحبته من أجله حبا هو أشبه بالعبادة والتقديس منه بأي عاطفة أخرى. وأحس الشاب إحساسا عميقا بهذا كله فبادلها حبا بحب، ووفاء بوفاء. وأقدم على الزواج منها زواجا رسميا ترامت أخباره في الريف إلى أبويه وهو وحيدهما. فجن جنونهما وثارا به ثورة عنيفة لم يجد في تهدئتها توسل ولا رجاء. وآذناه بالقطيعة والحرمان من ثرائهما العريض إن هو لم يفصم تلك الروابط التي تربطه بهذه المرأة الآثمة كما نقل إليهما خادمه الريفي الذي هجره من عهد قريب.

وبعد. . . فهل يهدم الشاب هذا العش الجميل الذي يتذوق فيه السعادة خالصة والنعيم محضا ليجدد على أنقاضه مودة أبوية. وليرضي تقاليد الأسرة العريق التي ينتمي إليها، ويرسل تلك المرأة التي تعبده الآن وتسعده، لتحيا من جديد حياة كلها عار ورجس ودنس. أم تراه يمسك عليه زوجه ويدع للأيام أن تبلي غضب أبويه كما يبلي في هذه الحياة كل شيء. . . . هذا هو الموضوع. ويسعدني أن أشرك معك أيها الصديق في إبداء الرأي كرام الكاتبين من قراء (الرسالة) العظيمة.

عبد الوهاب حسن