مجلة الرسالة/العدد 23/في الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 23/في الأدب العربي

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 12 - 1933



الطبيعة في شعر ابن خفاجة

1

في سنة 450 للهجرة ولد الشاعر أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة في الأندلس في جزيرة شقر ونشأ فيها كما ينشأ غيره حسب نظام الحياة في تلك العصور على أخذ اللغة العربية عن الرواة والنحويين، وعلى تلقن أحكام الفقه عن الفقهاء والمعلمين، حتى كانت له في الفقه مكانة لم ينكرها معاصروه فلقبوه بالفقيه.

ربما خطر ببالك أننا سنأخذ بعد هذه المقدمة في وصف حياة الشاعر بعد زمن التعلم، وربما لاح لك أن حياته بعد أن صارت له بالفقه تلك المكانة ستكون مملوءة بالأحاديث العلمية والمجادلات الدينية وانه سوف لا يخرج من مجلس علماء إلا ويدخل في مجلس فقهاء، ربما لاح لك أن حياته ستكون بعد أن لقب بالفقيه حياة مدرس جاد أو قاض عادل، أو انه سيسلك سبيل المناصب في الدولة من أمارة أو وزارة، ربما لاح لك ذلك على وجه الظن إن لم يكن على وجه التحقيق، لأنه نتيجة محتومة لحياة التلمذة التي قضاها بين الجد والدرس، وبين مسائل الفقه وأحكام الدين، وبين كتب الكوفيين وكتب البصريين، فنحن نجيبك عما خطر ببالك بالإيجاب، وعما لاح لك بالسلب، ونقول فيه انه كان في طبيعة أبي نؤاس وفي حالة فقيهان غلب عليهما الشعر، وعالمان غلب عليهما الظرف والدعابة

عاش ابن خفاجة في الأندلس وهي يومئذ جنة الله في أرضه، أكسبها موقعها اعتدال المناخ ورقة الهواء، وسقاها الغمام من دموعه، في أكثر أيام السنة، وتفجرت أرضها بالينابيع والجداول في كثير من وديانها، ونبتت الأعشاب والأزهار حول هذه المياه، وقامت فيها الأشجار فلا ترى إذا سرت فيها إلا مياها قوية دافقة، وظلالا وارفة واسعة، في أيام استتب الأمن فيها على يد العرب الفاتحين، وعملت يدهم فيها فأقاموا الجسور وشيدوا القصور وبنوا المدن، ثم خططوا الرياض والبساتين وغرسوا بها الأشجار والأزهار والرياحين، وأسالوا إليها مياه الأنهار والجداول، وأقاموا فيها البرك الجميلة، والبحيرات الواسعة، والمجاري الكثيرة، فدنت قطوفها وكثرت خيراتها، وتحولت من حقول خربة واسعة وأحراش كثيفة إلى بلاد عامرة، ورياض زاهرة، وقصور مشيدة، فتحولت من ملك مضطرب قبل الفتح إلى ملك ثابت وطيد بعده، وتحولت حياتها من حياة ريفية مقلة، إلى حياة مترفة ساحرة

وكان من الطبيعي أن يكون لسكان تلك الأرض عواطف رقيقة ونفوس جميلة لما للطبيعة الماثلة في كل وقت وفي كل مكان أمام أعينهم من أثر، ولما في حياتهم من ترف ونعيم

وابن خفاجة في حياته يمثل لنا الرجل الأندلسي الذي عاش في تلك العصور أحسن تمثيل، وفوق ذلك كان لا يميل إلى مناصب الدولة ولم يكن له عمل من الأعمال العامة، وإنما عاش كما وصفه الأستاذ الزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي (عيشة الفنانين خيلع العذار طليق الإسار) وكان له من طبيعته خير مساعد على الهرب بنفسه من بين كتب الفقه والنحو، ومن بين جدران قاعات الدروس والمجالس العلمية، فاقتصر في حياته على مشاهدة طبيعة بلاده الساحرة ومناظرها الزاهية، في اجتماعاته على مجالس الأدباء والشعراء في بياض يومه، وحضور ليالي اللهو والخمر تحت أشجار الأراك بين الأباريق والأقداح وبين الورد والريحان، حتى يمسح الصبح كحل الظلام (فامتلأت عينه ونفسه من جمالها، وراح يبرز هذا الجمال المعنوي في حلل شعرية)

الممنا في المقدمة السابقة إلمامة قصيرة بوصف طبيعة الأندلس، وطبيعة ابن خفاجة، فالأولى كانت جميلة المناظر، زاهية الألوان، والثانية كانت كوجه البحيرة صفاء وركودا ينعكس فيها كل مشهد من مشاهد الكون جميلا جذابا، وقلنا إن طبيعة ابن خفاجة أحبت طبيعة بلاده حبا بلغ به حد الغرام حتى هجر حياة الدرس وحياة العمل واقتصر على حياة كحياة الفنانين الذين ينقطعون إلى مشاهدة مناظر الحياة التي تتعلق بفنهم، ولعلك ترانا محتاجين إلى مثل هذه المقدمة، فان الموضوع الذي كلفنا أنفسنا بحثه يحتاج إلى مثل هذه المقدمة، إذ كل ما نقصد من هذا الموضوع أن نقدم بين يديك الصور التي اجتلاها بن خفاجة عن الطبيعة.

ترى الطبيعة في شعر ابن خفاجة ماثلة واضحة، تقرأ له القطعة فترى وتسمع وتشم. ترى الناظر واضحة جلية، وترى خضرة الأشجار، وحمرة الأثمار، وبياض الحباب، وصفرة الشمس، وترى ذهب الأصيل ولجين الماء وزرقة السماء، ثم تسمع نشيد المغني ووقع الرباب وغناء الحمام، ورنين المكاء وخرير الماء، وتشم عرف الروضة الغناء، وأريج الأزهار البيضاء، ورائحة الورد الحمراء، ثم تقرأ له من التشبيه الساحر والطباق الدقيق، والكتابة اللطيفة ما لا يخرج عن الربا الخضراء والوهاد الشجراء والأدواح اللفاء، وما لا يخرج عن العنبر والعرار والسوسن والأقحوان. إن بلاداً يصفها الشاعر فيما يصف فيقول:

يا أهل أندلس لله دركموا ... ماءوظلوأنهاروأشجار

ماجنةالخلدإلا فيدياركموا ... ولو تخيرت هذا كنت أختار

لا تحسبوا بعد ذا إن تدخلوا سقرا ... فليس تدخل بعدالجنة النار

وان حياة يحياها الشاعر كما وصفها فيقول:

إنما العيش مدام أحمر ... قاميسقيهغلامأحور

وعلى الأقداح والأداوح من ... حببنور وتبرأصفر

فكأن الدوح كأسأزبدت ... وكأن الكأس دوح مزهر

إن تلك الأرض وهذه الحياة لدليل واضح على صفاء نفسه ودقة حسه، وعلى تأثيره بمشاهد أرضه إلى حد يشبه جنون الفنانين فقد كان يذكر الطبيعة في مواقفه التي وقفها راثيا باكيا وفي مواقفه التي وقفها زاهدا متململا، وفي مواقفه التي وقفها معاتبا ممضا، وفي مواقفه التي وقفها مادحا يمدح الإخوان والقضاة، وفي مواقفه مداعبا إخوان الود ورفاق اللهو والسمر

لقد كان للطبيعة في لطف نفس الشاعر ورقة حسه أثر، وكان للطبيعة في شعره ظل، وكان للطبيعة في كل أغراضه التي قال بها الشعر ذكر، فهو (شاعر الطبيعة ومصورها) كما قال الأستاذ الزيات

2

نفس الشاعر:

لأبن خفاجة في شعره صورة صادقة من طبيعة نفسه ففي قوله:

إنما العيش مدام أحمر ... قام يسقيه غلام أحور

إلى آخر الأبيات صورة لتلك النفس التي لا ترتاح إلا إلى خمرة حمراء من يد جميل أحور في ظل الدوح المزهر

فهو لا يرى في الحياة شيئا غير هذا، أو كأنه لا يريد أن يرى في الحياة شيئا غير ما ذكر، أو قل أنه يضع بذلك نموذجا للحياة اللذيذة كيف تكون، ألا ترى أنه كيف عكف على رشف الكؤوس الحمراء ومراقصة الأغصان الخضراء:

عاظر إخلاءك المداما ... واستسق للأيكة الغماما

وراقص الغصن وهو رطب ... يقطر أو طارحالحماما

فهو لا يرى للحياة أن تنهك الأذهان بالتفكير فيها، ولا يرى لها أن تهلك المرء بالعمل لها، وليس للحياة أن نجعل من الإنسان عبداً ذليلا للجد والعمل. ولكنه يرى أن تكون الحياة ألهية جميلة يتلهى بها الإنسان عن مشاقها، ويتسلى بها عن أحزانها، ويرتاح لها، ولا يرى في الحياة ألذ من رشف الكأس الوردية، ولا أروح للنفس من مراقصة الأغصان الرطبة، ولا ألذ في السمع من مطارحة الحمام ولا أجمل في العين من ألوان النور في الصباح والمساء في الروضة الغناء، فابن خفاجة لا تطيب له الحياة إلا عند شواطئ الجداول والينابيع وتحت ظلال الأدواح، وبين الأباريق والأقداح انظر إليه كيف يقول:

أمالديك حلاوة ... أما عليك طلاوة

طايب وداعب ولاعب ... واترك سجايا البداوة

فكأن حياة الجد وطبيعة الانقباض والوحشة لا توافق مذهبه أو قل لا تتشابه ولا تتجانس مع طبيعته التي تتعشق السرور ونفسه التي تحب اللهو والعبث.

لم يبق بعد هذا من شك في أن طبيعة الرجل كانت طبيعة سرور وطرب، بل كانت فوق ذلك طبيعة متفائل يهزأ بمصاعب الحياة وليس من شك في أن نفسه كانت تميل إلى الهزل وتميل إلى العبث، بل ليس من شك في أن حياته كانت حياة مستهتر يهرب من وجه الحياة العابس إلى وجهها الضاحك، فلم يتول عملا من الأعمال العامة. ولم يتصد لمدح الأمراء والوزراء والملوك على كثرة تهافت العلماء عليهم، وعلى حاجة الملوك إلى أمثاله.

هنالك ملاحظة أخرى: هي أن ابن خفاجة كان على علمه وفقهه لا يشتغل بالعلم ولا بالفقه، ولعله كان يعتقد أن للعلم فضيلة في ذاته وان على الإنسان أن يتعلم العلم لا ليجعله آلة تدر عليه المال، بل كان يعتقد أن العلم جمال لأهله وزينة لهم. ومثل هذا الاعتقاد نجده في قوله:

درسوا العلوم ليملكوا بجدالهم ... فيها صدورمراتبومجالس وتزهدوا حتىأصابوافرصة ... في أخذ مال مساجد وكنائس

فهو ينعى على أولئك الذين يجعلون العلم وسيلة لتصدر المجالس، ولنهب المساجد والكنائس، ويعيب عليهم ذلك. ولعل هذا هو السبب الذي دعا ابن خفاجة إلى أن يعرض عن مجالسة علماء عصره وأن يصدف عن مجالس العلم ومسائل الفقه، وأن يقتصر في مجالسه على مجالس الأدباء والشعراء، وأن يقتصر في أحاديثه على ذكر المتنزهات، وأن يقتصر في شعره على وصف الطبيعة:

هذه هي الصورة الواضحة التي نراها للرجل في شعره. نفس تميل إلى السرور والبهجة وطبيعة تهرب من الجد إلى الهزل، ومن الانقباض إلى الانشراح، ومن اللذة الآجلة إلى اللذة العاجلة، ومن التحجب والحياء والتكلف إلى اللهو والعبث والمجون. فليس بغريب أن تميل هذه النفس وتلك الطبيعة إلى مجالس السرور والطرب وإلى معاطاة المدام، وليس بغريب بعد هذا أن يصف ابن خفاجة في شعره مجالس أنسه، وأن يصور لنا بمقطوعات رائعة الأنهر الفياضة والضفاف الخضراء والرياض الفيح.

وصف الطبيعة: -

وفي وصفه مناظر الطبيعة وفي تشبيهه إياها بمناظر وأشياء تشابهها لا يخرج في كل هذا عن الطبيعة في شيء. فيشبه النهر المتعطف والأزهار النابتة حوله بمجرة السماء.

متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء

ويشبهه أيضا وقد حفت به الغصون بأهداب العين الزرقاء

وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب يحف بمقلة زرقاء

ويصف موقد قد اشتعلت فيه النار فيقول:

منقسم بين رمادأزرق ... وبينجمرخلفه يلتهب

كأنما خرت سماءفوقه ... وانكدرت ليلا عليه شهب

فهو في وصفه الطبيعة لا يخرج عن الأوصاف والتشبيهات التي تحتويها الطبيعة: فالنهر المتعطف والأزهار النابتة حوله، وزرقة النهر وأغصان الأشجار القائمة على شاطئيه، والموقد المشتعل، والرماد الأزرق والجمر الأحمر، كلها مناظر طبيعية؛ كذلك مجرة السماء والمقلة الزرقاء والسماء المتساقطة، والشهب المنكدرة كلها مناظر طبيعية، من هذا يمكنك أن تلاحظ إلى أي حد بلغ غرام ابن خفاجة بالطبيعة وحبه لها. وأنظر إليه كيف يصف ما فعل بهم الطرب وكيف يشبه الهلال بالطوق المذهب:

واهتز عطف الغصن من طرب بنا ... وأفتر عنثغرالهلالالمغرب

فكأنهوالحسنمقترنبه ... طوق على برد الغمامة مذهب

فهو يشبه اهتزازهم من شدة الطرب وقت المساء الساحر بالغصن يهتز وينعطف، ثم شبه الهلال الذي ابتسم عند المغرب بطوق ذهبي على برد الغمامة. وقال يصف الصباح الرائع:

والصبح قد صدع الظلام كأنه ... وجه مضيء شف عنه قناع

فقد شبه نور الصبح حين ينتشر فيمحو ظلمة الليل بوجه وضاء شف عنه قناع رقيق. ويصف الصباح في غير موضع فيقول:

وقد مسح الصبح كحل الظلام ... وأطلع فود الدجى أشيبا

فكما أن الصبح المضيء والدجى المظلم من مناظر الطبيعة فكذلك كحل الظلام وفود الدجى الأشيب صورتان عن الليل المظلم والصباح المنير، ويقول في تشبيه الظلام بالكحل والقطر بالعبرات

يجول للغيم كحل ... فيه وللقطر عبره

فلم يخرج في تشبيه الغمامة الدكناء والأمطار الهاطلة عن كحل الكاحل وعن العين المستعبرة، ويشبه خيوط الشمس الذهبية في المساء، ولون الماء الصافي فيقول:

والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء

والذهب الأصفر واللجين الفضي كلها ألوان طبيعية: فكأن ابن خفاجة يحتقر الصناعة ويحتقر ألوانها، فلا يشبه مناظر بلاده التي يراها إلا بمناظر وألوان طبيعية، ولا يصور الطبيعة إلا بألوان وأدوات طبيعية، أو قل أنه رأى أن الصناعة والحياة الاجتماعية أقل مناظر وأقل ألوانا من الطبيعة، فمال عنها إليها يمتع الطرف ويقول الشعر ويصف الشيب والشباب فيقول:

فأحسن من حمام الشيب عندي ... غراب شبيبة ألف النعيبا

فهو يشبه الشيب المخضب بالحناء بالحمام، ويشبه شعر رأسه الأسود في زمن الشباب بالغراب، ثم يقول: إن نعيب الغراب المشؤوم أحسن عندي من هديل الحمام المحبوب.

ونختم كلامنا الآن بهذه المقطوعة وهي تصف عشية من عشيات الأنس، ولاحظ إذا شئت فيها أنه لا يخرج في تشبيه مناظر الطبيعة عن الطبيعة:

وعشي أنسأضجعتني نشوة ... فيه تمهدمضجعي وتدمث

خلعتعليبهالأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدث

والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعديرقىوالغمامة تنفث

عبد الرحمن جبير. أدلب