مجلة الرسالة/العدد 230/الإسلام والسيف!
مجلة الرسالة/العدد 230/الإسلام والسيف!
للأستاذ محمد كامل حته
(مهداة إلى الأستاذ خليل جمعة الطوال)
إن من الجناية على الحق والافتراء على التاريخ أن يقول قائل إن الإسلام قد انتشر بالسيف! أي سيف كان يحمله محمد، وهو الأعزل الذي لا حول له ولا قوة، الوحيد الذي لا ناصر له ولا معين، يناله السفهاء بالأذى فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ويأتمر به قومه ليقتلوه فيفر بحياته إلى يثرب؟. . .
لقد ظل محمد - ﷺ - ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يكن له من سلاح غير ثقته بالله وإيمانه بأنه على حق، ولقد لاقى هو وأصحابه في سبيل هذه الدعوة من ضروب الفتنة والاضطهاد ما لا يثبت عليه إلا الذين عمرت قلوبهم بالإيمان، واستيقنت أنفسهم من نصر الله!
كان الرسول يوماً يصلي في الكعبة، وبينما هو ساجد إذا بعقبة بن أبي معيط، يطأ عنقه الشريف حتى كادت عيناه تبرزان. . .
وخنقه بردائه خنقاً شديداً، والناس من حوله شامتون، حتى أقبل أبو بكر مشتداً وخلص الرسول منه وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟
ولما خرج إلى الطائف يدعو أهلها للإسلام، أغروا به سفهاءهم فترصدوا له بالطريق وأخذوا يحصبونه بالحجارة حتى تخضبت قدماه بالدماء!
ولما أبى عمه أبو طالب أن يسلمه إليهم ليقتلوه تعاهدوا على مقاطعة أوليائه من بني هاشم، ودامت هذه المقاطعة ثلاثة سنين لقي فيها هذا البيت الكريم من العنت والإرهاق أعظم البلاء. . .
وعذب عمار بن ياسر وأهله عذاباً شديداً، فكان الرسول يمر بهم وهم في العذاب ويقول: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة!
ومن ذلك أن أبا جهل طعن سمية أم عمار بحربة فقضى عليها فشكا عمار ذلك إلى الرسول قائلاً: يا رسول الله، بلغ منا العذاب كل مبلغ! فقال ﷺ: (اصبر أبا اليقظان، اللهم لا تعذب من آل ياسر أحداً بالنار!) وقد استشهد أفراد هذه الأسرة الكريمة في سبيل الله، ولم يبق منهم إلا عمار الذي كان يعذب حتى لا يعي ما يقول
وممن عذب في سبيل العقيدة بلال بن رباح كان مملوكاً لأمية ابن خلف، فلما اعتنق الإسلام حنق عليه سيده وأمره بالرجوع إلى عبادة الأصنام، فلم ينصع لأمره لأنه ذاق حلاوة الإيمان، فأنزل به ألواناً من العذاب: كان يطرحه على الرمضاء، ويصهر على صدره دروع الحديد، ويضع عليه الأحجار الثقيلة حتى قُدّ ظهره! وهو يهتف دائماً: أحد، أحد، إلى أن أنقذه أبو بكر فاشتراه من سيده، وأعتقه لوجه الله. . .
وكثير غير هؤلاء ممن آمنوا بمحمد في مبدأ بعثته، كانوا يلاقون العذاب الهون والبلاء العظيم، حتى أذن الرسول ﷺ لمن ليس له أنصار يحمونه من هذا العدوان أن يفر بدينه إلى الحبشة، فهاجر إليها جم غفير. واستأذن أبو بكر في الهجرة إليها فأذن الرسول ﷺ له، فلما كان على مسيرة يومين، لقيه ابن الدغنة سيد قومه فسأله: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال: إن مثلك لا ينبغي أن يَخرج أو يُخرج من أرضه؛ ثم رجع به إلى قريش وأدخله في جواره، على شرط أن يعبد الله
فابتنى أبو بكر مسجداً بفناء منزله، وصار يصلي فيه ويتلو كتاب الله، فكان نساء قريش وشبانهم يجتمعون حول داره، يستمعون لتلاوته، ويؤخذون ببلاغة القرءان وروعته! ففزع القوم وشكوا أبا بكر إلى حليفه، فأغلظ الحليف لأبي بكر في القول وقال له: إما ألا تستعلن بعبادتك، وإما أن تعيد إليّ ذمتي. فقال أبو بكر: إني أرد لك جوارك وأرضي بجوار الله عز وجل
فكيف اجتمع هؤلاء الناس على محمد؟ أبالسيف وهو أعزل لا يستطيع أن يعصم نفسه؟ ومتى كان السيف وسيلة لتكوين العقائد في النفوس؟
ولماذا باعوه أرواحهم يبذلونها رخيصة في سبيل دعوته؟ أطمعاً في مال وهو فقير لا يكاد يملك من حطام الدنيا شيئاً؟ ومتى كان للمال هذا السلطان القاهر على العقول والأفهام؟
كلا؛ لا بهذا ولا بذاك، وإنما بهذا الدين الحنيف الذي استحوذ على العقول وأخذ بمجامع القلوب، وبهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي حين سمعه وفد الحبشة من القسس والرهبان، خشعت قلوبهم وفاضت أعينهم وأسلموا لله رب العالمين، فنزل فيهم قوله تعالى: (. . . ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين)
ولقد ظل المسلمون على هذه الفتنة الطاغية فترة من الزمن، حتى إذا استفحل الخطب وعظم البلاء، شرع الله لهم القتال دفاعاً عن النفس وذباً عن الدين، فقال تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)، (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير)
كان موقف الإسلام إذن موقفاً سلبياً في حروبه الأولى، لا يقصد به غير الدفاع عن أهله، ورد عدوان المعتدين. فلما استقرت قواعده، وانتهت إليه الخلافة في الأرض، كان عليه أن يقف موقفاً إيجابياً لحماية المؤمنين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)
وهذا يدل على أن الحرب في الإسلام وسيلة لدرء المفاسد وإقرار السلام، لا إرضاء لشهوة الفتح والاستعباد. وإذا كان الإسلام قد حث على الاستعداد الحربي بقوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) فإنما يرمي بذلك لإطفاء جذوة الحرب في نفوس الأعداء، وهو ما يعرف في هذا العصر بالتسلح السلمي!
وهذه مبادئه الحربية شواهد ناطقة بعدله ورحمته وإحسانه، انظر إليه يأمر بالسلم إذا جنح إليها العدو، ولو كان جنوحه خداعاً ومخاتلة: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم؛ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله، هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)
وما تم في معاهدة الحديبية، يدل على مبلغ حرص الرسول - ﷺ - على السلم وكراهية الحرب، فقد رضى أن توضع الحرب بين المسلمين والمشركين عشر سنين، في الوقت الذي كان المسلمون يتحرقون على القتال، وينتظرون منه كلمة واحدة، يندفعون بعدها كالسيل الجارف صوب مكة، حيث ينتصفون لأنفسهم وللإسلام من أولئك الذين أخرجوهم من ديارهم بغير حق، فكان الرسول حائلاً بينهم وبين ما يشتهون، حتى كادت تحدث بينهم فتنة عمياء لولا أن الله سلم. . .
وكان الرسول يوصي أتباعه دائماً في الحروب بقوله: (اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله؛ لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعته، ولا تحرقوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناء!)
هذه مبادئ الإسلام في الحرب، وهي أرحم بالإنسانية وأشرف غاية من المبادئ السلمية - ولا أقول الحربية - التي تطبقها الدول القوية على الأمم الضعيفة باسم المدنية في هذا العصر
وإليك هذا الموقف الرائع النبيل، حين فتح الرسول مكة، ومكنه الله من رقاب قريش، وقد وقف على باب الكعبة والناس من حوله ينتظرون كلمة الفصل: فإما موت وإما حياة! فقال لهم: ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء! فكان ذلك سبباً في إسلام قريش بأجمعها، وحقن دمائهم ودماء المسلمين
فالقول إذن بأن الإسلام انتشر بالسيف فرية باطلة، وإنما انتشر الإسلام بالحجة والبرهان، وبسماحة مبادئه ومتانة أصوله. ولا عجب فهو الذي يقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم)
(حلوان الحمامات)
محمد كامل حته