مجلة الرسالة/العدد 230/مقدمة حضارة العرب
مجلة الرسالة/العدد 230/مقدمة حضارة العرب
لغوستاف لوبون
للأستاذ خليل هنداوي
قد علم قراء كتبنا الأولى هذا الكتاب الحديث، وعلموا أننا بعد انتهائنا من درس الإنسان والمجتمعات ينبغي أن ننصرف إلى درس تاريخ الحضارات!
كان كتابنا الأخير (الإنسان والمجتمعات) مختصاً بوصف الأشكال المتتالية للأشكال الطبيعية والعقلية عند الإنسان، والمواد المختلفة التي تتألف منها المجتمعات. ولقد أوضحنا في ذهابنا إلى أقصى العصور الغابرة كيف تألفت الجماعات الإنسانية، وكيف تولدت الأسرة والمجتمعات، وجميع أصناف الفنون والمعتقدات، وكيف استحالت هذه المظاهر خلل العصور، وكيف كان مبدعو هذه الاستحالات!
وبعد أن درسنا الإنسان المنعزل وحركة المجتمعات، يجب علينا لكي يتم غرضنا الذي قصدنا إليه أن ندرس الحضارات الكبرى بحسب هذه المناهج التي عرضناها
أجل! إن المشروع واسع، ومشاكله كبيرة. لا نتكهن إلى أي مدى نستطيع أن نصل به. ونحن نريد أن يأتي كل كتاب من هذه الكتب كاملاً مستقلاً حتى إذا استطعنا أن ننجز الثمانية أو العشرة - بما يتم هدفنا به جاء عمل تصنيفها ودرس الحضارات المختلفة عليها أمراً يسيراً!
وقد بدأنا بحضارة العرب لأن حضارتهم جلتها لنا رحلاتنا وعرفتنا بهم تعريفاً حسناً؛ وحضارة العرب هي من الحضارات التي كمل سيرها، وظهر فيها تأثير المؤثرين ممن جربنا أن نحدد عملهم ونعين تأثيرهم، وهي تعد من الحضارات التي يشوق تاريخها ومع ذلك لبثت مهملة
إن حضارة العرب تسيطر - منذ أثنى عشر قرناً - على القطر الواسع الذي يمتد من شواطئ الاطلانطيك إلى البحر الهندي، ومن شواطئ البحر الأبيض حتى رمال أفريقية الداخلية، والشعوب والقبائل التي تسكنه تدين بدين واحد وتنطق بلسان واحد، وتتلقن تعاليم واحدة، وفنوناً واحدة، وهم يؤلفون جزءاً من المملكة
إن النظر نظراً شاملاً إلى مظاهر هذه الحضارة عند الشعوب التي سيطرت عليها، وأتت بالمعجزات التي غادرتها في الأندلس وأفريقيا، وفي مصر وسوريا، وفي فارس والهند: هو نظام لم يجرب بعد! والفنون ذاتها التي يرتكز عليها صميم الحضارة العربية لم تخضع بعد لهذا الدرس الشامل! وأولئك المؤلفون القليلون الذين دنوا من وصفها كانوا يقررون أنها ناقصة، ولكن خطأ أدلتهم وأسانيدهم حال بينهم وبين تجريبها. ومن الحق الذي لا ريب فيه أن مشابهة العقائد قد رمت إلى توطيد قربى قوية الوشائج في مظاهر فنون هذه الأقطار المختلفة الخاضعة للإسلام، ولا يقل عن هذا وضوحاً أن اختلاف الذريات والبيئات يجب أن يولد تبايناً واختلافاً كبيرين. فما كانت هذه المجانسات؟ وما كانت هذه الاختلافات؟ والقارئ الذي يطلع على هذه الصفحات المختصة من كتابنا بدرس فن العمارة والفنون، سيجد أن العلم الحاضر لم يعط جواباً على هذه الأسئلة!
وكلما توغلت في درس هذه الحضارة رأيت النتائج قد اتسعت والأفق قد فسح مداه، وعلمت أن القرون الوسطى لم تعرف تاريخ الأجيال القديمة إلا بواسطة العرب، وأن الجامعات في الغرب لبثت طوال خمسة قرون تتهافت على كتبهم في الرياضيات والمباحث العقلية والأخلاق. هؤلاء هم الذين مدنوا أوربا وعمروها بأنوار الحضارة؛ وعندما يدرس دارس آثارهم العلمية ويقف على اكتشافاتهم يجد أنه لا شعب أنتج ما أنتجوه في عهد قصير الأمد، وعندما نمتحن فنونهم نعلم حق العلم أنهم كانوا يملكون مقدرة على الإبداع لا تعلو عليها مقدرة
إن أثر العرب - على عظمته في المغرب - كان أعظم تأثيراً في الشرق ولم يعرف التاريخ عن شعب تأثيراً مثله بلغ قوته وروعته فالشعوب التي سيطرت على العالم من آشوريين وفرس ومصريين ويونان ورومان قد توارت بين أطواء الأجيال وثنايا العصور، ولم تغادر وراءها إلا ركاماً! أما دياناتهم ولغاتهم وفنونهم فقد بادت ولم يبق منها إلا ذكريات. والعرب قد تواروا بدورهم كما توارى أولئك، ولكن عناصر حضاراتهم، تلك العناصر القوية من دين ولغة وفن لا تزال حية. وهناك عدد يربو على مائة مليون (يبدو للقارئ أن إحصاء المسلمين بهذا العدد إحصاء مغلوط) يتوزعون بين المغرب والهند لا يزالون قائمين على تعاليم الرسول
فاتحون كثيرون اقتحموا الغرب وما سمعنا بفاتح واحد أراد أن يستبدل حضارة بالحضارة التي أنشأها العرب، وكل هؤلاء الفاتحين قد اعتنقوا ديانتهم، وقبسوا منهم فنونهم، وأخذ جلهم لغتهم، وإن شريعة هذا الرسول - وإن تزعزعت في بعض مواطن - لشريعة يشبه أنها قامت لتكون ثابتة إلى الأبد. ففي الهند قد جرفت في طريقها ديانات بلغت من الكبر عتياً، وحولت مصر القديمة الفرعونية بأسرها إلى مصر العربية، وهي البلد الذي لم يؤثر فيه الفرس واليونان والرومان إلا قليلاً! والشعوب الهندية والفارسية والمصرية والأفريقية كان لها معلمون وهداة غير خلفاء محمد، ولكنهم منذ اعتنقوا شريعة هؤلاء الخلفاء ثبتوا عليها ولم يستبدلوا بها ديناً
حقاً إنها لمعجزة في التاريخ، معجزة هذا المأخوذ الرائع الذي أخضع صوته هذا الشعب الجموح الذي أعجز الفاتحين نضاله لاسم تزلزلت منه أقوى المماليك، وهو اليوم تحت أطواء لحده يخضع ملايين الناس لشريعته
إن العلم الحديث ينعت هؤلاء العظماء، ومؤسسي الديانات بالمأخوذين وللعلم الحق في هذه النظرة إذا توخينا محض الحقيقة ولكن يجب احترام هؤلاء. لأن روح جيل ما، وعبقرية شعب ما مرتبطان بهم، وسلالات كثيرة ضائعة في ظلام العصور إنما تتكلم بألسنتهم. إن هؤلاء المبدعين للمثل العليا لا ينشئون في الحقيقة إلا أخيلة، ولكن هذه الأخيلة المشكوك فيها هي التي أبدعتنا على هذا التقويم. وبدون هذه الأخيلة لم تستطع أية حضارة أن تحيا! وليس التاريخ إلا قصة الحوادث المتممة يقوم بها الإنسان ليخلق مثلا أعلى يعبده أو يجربه!
والحضارة العربية أنشأها شعب فيه ما فيه من ريح البربرية، خرج من ظلمات الصحراء العربية واقتحم معاقل الفرس واليونان وحصون الرومان وألف مملكة واسعة تمتد حدودها من الهند حتى الأندلس وأبدع هذه الآثار الرائعة التي تثير في روع كل ناظر عوامل العجب
فأي خالقين عملوا على إنشاء هذه الحضارة وهذه المملكة في بدء نشأتها؟ وما كانت علة هذه الرفعة وعلة هذا الانحطاط؟ إن العلل التي تمرس بها المؤرخون جاءت في الحقيقة ضعيفة واهية، وإن مذهباً من مذاهب التعليل لا يمكن امتحانه امتحاناً حسناً إلا إذا جرى تطبيقه على شعب كهذا الشعب قد ولد الغرب من الشرق، وفي الشرق يجب أن نطلع على مفتاح الحوادث الماضية، إذ على سطح هذه الأرض العجيبة تهيأت الفنون واللغات وأكثر ديانات البشر. ورجالها اليوم ليسوا كرجال الأمس، لقد تبدلت الأفكار غير الأفكار والعواطف غير العواطف، والأطوار تمشي فاترة بطيئة بحيث إذا أقبل عليها الدارس استطاع أن يقف على سلسلة تلك الأعمار المطوية! فالفنانون والعلماء والشعراء يتكررون دائماً. . . كم مرة جلست إلى ظل نخلة أو فيء جدار أحد الهياكل مستسلماً إلى أخيلة طويلة تنتابني مفعمة بأخيلة ذلك الماضي المتواري، أتنهد تنهداً خفيفاً، وفي الأعماق الشاعة تتعالى مدن غريبة تتوهج قصورها وأعمدتها ومناراتها تحت سماء ذهبية. وتجوز قوافل البدو والجماعات الآسيوية ذات الألوان البراقة، وطوائف العبيد ذات الجلود البرونزية والنساء المحجبات! لقد اندثرت اليوم أكثر هذه المدن القديمة. (نينوى ودمشق والقدس وأثينا وغرناطة وممفيس وطيبة ذات المئة باب) قصور آسيا وهياكل مصر عفاها القدم وآلهة بابل وسوريا والكلدان وشواطئ النيل لم يبق منهم إلا ذكريات، ولكن كم من أشياء مستورة في هذه الخرائب! وكم من أسرار مبثوثة يجدر سؤال هذه الذراري عنها! من أعمدة (هركول) إلى سهول آسيا الخصبة القديمة، ومن شواطئ بحر (ايجه) الأخضر إلى رمال الحبشة المحرقة
يُحمل كثير من التعاليم والعقائد من هذه الأقطار الشاسعة ويضيع فيها أيضاً كثير من المعتقدات، ودرسها يرينا كم عمق هذه الهوى التي تفصل بين الناس، وإلى أي مدى يذهب وهم أفكارنا في الحضارة الإنسانية، والإخاء الإنساني، ويبدي لنا الحقائق والمذاهب التي يخال أنها مجردة مطلقة كيف تتبدل في الحقيقة من بلد إلى بلد
هنالك أسئلة كثيرة تعرض للمتأمل في تاريخ العرب، وأكثر من درس نحفظه، فإن هذا الشعب هو خير شعب حرر ذراري الشرق على اختلافها من ذراري الغرب. إن أوروبا لا تعرف عن هذا الشعب إلا قليلا، وإنما يجب عليها أن تعمل على معرفته لأن الساعة دانية حيث ترتبط مقدراتها وحظوظها بمقدراتهم وحظوظهم!
إن الخلاف بين الشرق والغرب اليوم عظيم حتى لا يرجى أن يقبل أحدهما تفكير الآخر، ومجتمعاتنا القديمة تتحمل تطورات عميقة، فمراحل العلم السريعة والصناعة قلبت قواعدنا الطبيعية والأخلاقية، والنزاع الحاد في جسم المجتمع، والألم الشامل الذي يدفعنا دائماً إلى تبديل تعاليمنا لكي نعالج الأدواء الاجتماعية التي تنشأ عن التطور ذاته، منها خطأ التوفيق بين العواطف القديمة والعقائد الجديدة، وإبادة الأفكار التي نشأ عليها الأقدمون. هذا ما يحف بالغرب الآن، فنظام الأسرة والمنزل والدين والأخلاق والإيمان كله يتغير أو سائر في طريق التغير، والأصول التي عشنا عليها حتى الآن قد وضعتها المذاهب العصرية تحت المناقشة! وما سوف يخرج من العلم الحديث لا يستطيع أحد أن يفوه به! الجماعات تهيم اليوم وراء تعاليم بسيطة تؤلفها من نظرات سلبية غريزية، ولكن نتائج هذه السلبية لم تستشفها بعد نظراتها. هنالك الوهيات جديدة حلت محل ألوهيات قديمة، والعلم الراهن يجرب أن يذود عنها، فمن ذا يستطيع القول بأنه سوف يذود عنها في المستقبل؟
أما في الشرق فالحالة مباينة لما هي عليه في الغرب. فبدلاً من أقسامنا وأسباطنا وبدلاً من حياتنا المتوقدة نرى الشرق يعيش في وسط تسعده السكينة والراحة العميقة. وهذه الشعوب التي تؤلف بعددها أعظم نوع في البشرية قد بلغت منذ زمن طويل هذا الاستقرار الهادئ الذي يقال أقل ما فيه انه صورة السعادة. وهذه المجتمعات القديمة قد صانت من صلابتها ومتانتها ما فقدته مجتمعاتنا، والإيمان الذي فقدناه مازال الشرقيون يعتصمون به، والأسرة التي بدأت تتحول وتتشقق - عندنا - لا تزال ثابتة صلبة عندهم، والمذاهب التي أضاعت كل تأثير عندنا لا تزال مسيطرة عليهم، والدين والأسرة والتعاليم وسلطة التقاليد والعادات وكل القواعد التي جاءت بها المجتمعات القديمة والتي تقوضت دعائمها في الغرب نراها حافظت على ملامحها في الشرق، والأمر الأعجب فيها أن الشرقيين لم يفكروا في تبديل هذه القواعد أو انتقاء سواها
خليل هنداوي