مجلة الرسالة/العدد 231/ثورة على الأخلاق

مجلة الرسالة/العدد 231/ثورة على الأخلاق

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 12 - 1937


شقشقة هدرت ثم قرت

أخي عزام

قرأت مقالك البليغ في عدد الرسالة السابق، وكان محمود خصمك حاضراً فكفاني ما كلفتني من إبلاغه. وهو في هذه الساعة لين الحاشية، لأنه قام منذ هنيهة عن مائدة الإفطار الغنية الشهية، ممتلئ البطن من خير الله، رطيب اللسان بحمد الله، لا يذكر أن العالم ضيق رزق، ولا أن في الناس سوء خلق. ولذلك قال حين ذكَّرته برأيه وخبَّرته برأيك ما قال الإمام علي رضي الله عنه: تلك شقشقة هدرت ثم قرت! فكانت حاله التي حالت بين الأمس واليوم دليلاً جديداً لعلماء الاجتماع الذين يردون ثورات الشعوب المختلفة إلى العوامل الاقتصادية المحض من الحرمان والجوع. والواقع الذي لا يرفعه زخرف القول أن الناس يدورون بعواطفهم وأخلاقهم حول مادة العيش، فإن أعطوا منها رضوا، وأن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون.

على أن مجلسنا كان حافلاً بغير محمود من رجال العلم والدين والأدب وكلهم كانوا له وعليك، وليس ذهابهم إلى رأي خصيمك انصرافاً عما قررت من حميد الأثر لأخلاقنا المقدسة في ألفة الناس وسعادة النفس، فإن ذلك موضع اتفاق لا يشذ عنه إلا ميت الضمير أو مريض العقل. إنما كان موضع الجدل أن الأخلاق الفاضلة لا تصلح أن تكون عدة النجاح إن لم تكن عدة الفشل. والنجاح في جهاد العيش لا يدل على تمام معناه إذا قصدنا به الكفاف من ميسور الرزق، يصيبه الصالح والطالح، ويقنصه البازي والرخم. فإذا ضربت له مثلاً نجاح الصانع الصادق والتاجر الأمين والمزارع الوفي والعامل القانع، كانوا أحرياء أن يتهكموا بقداسة هذه الأخلاق إذا كان قصارى أمرها هذا النجاح الحقير وهي الدستور الأعلى لبلوغ السموات وامتلاك الأرض. فإن هؤلاء الطيبين الأخيار الذين وصفتهم بالقناعة وخصصتهم بالرضى لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً من رجال المال والأعمال كصيدناوي والبدراوي وعبود. أما حين تقصد النجاح بمعناه الأتم فإنهم يرونك تنزع إلى مقالة محمود وتعلل بمنطقك السليم فشل التقي الأبي الحر بأنه (لا يرى إلى الجاه والمال إلا طريقاً واحدة هي الطريق التي يسنها الحق والشرف والأباء والمروءة، وأن أمام الفس والأذلاء والأدنياء طرقاً شتى من التلصلص والكذب والتزوير والخداع والملق والذلة والشره والظلم والقسوة والأثرة وهلم جرا، وأن من الأحرار من يخفق في عمله حين يلزم نفسه هذه الطريق الواحدة، ويقسرها على هذه المحجة الواضحة، وأن من العبيد عبيد المطامع والأهواء ومرضى النفوس والأخلاق من يظفرون في هذه السبل بما يريدون، ويبلغون الغاية التي يقصدون) وما دام جوهر الرأي واحداً فالسبيل القاصدة إذن أن نطبَّ لهذه الحال بما يوائم بين طموح الناس وكرامة الأخلاق وسلامة المجتمع. وليس هناك إلا وسيلة من وسيلتين: إما أن نصد الناس جميعاً عن هذه الطرق المتعددة، ونقصرهم على هذه الطريق الواحدة، بقوة الأديان والسلطان والتربية، وذلك ما عناه الرسول (ص) بقوله: (عليكم بالجادَّة ودعوا البُنَيَّات)؛ وإما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق فلعل فيه ما لا يرافئ تقلب العصر وتطور المجتمع. فأما الوسيلة الأولى فقد سجل الماضي ودلل الحاضر على أنها خيال نبيل لا يقع في الإمكان، وحلم جميل لا تقوم عليه يقظة، وتعليل ذلك لا يعزب عنك فلا حاجة إلى تقريره. وأما الوسيلة الأخرى فهي على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد.

ما معنى أن يظل التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل على إطلاقها فضائل وأنت ترى بعين الواقع أن المتواضع موضوع والقانع مهمل والزاهد محروم والمدارى مستذل والمتوكل عاجز؟ أليس صلف الإنجليزي أبلغ في العزة، وطمح الفرنسي أليق بالحياة، وطموح الإيطالي أخلق بالرجولة، وصراحة الألماني أدعى إلى الهيبة، واستقلال الأمريكي أضمن للفوز؟ ما معنى أن يظل الربا في عصر الاقتصاد رذيلة وقد أختلف اليوم في معناه ومرماه عن ربا (شيلوك) وأنت تعلم أن الغرب لم يستعبد الشرق إلا عن طريق بنوكه. فقد كانت تأخذ القناطير المقنطرة من أموال المسلمين بغير ربا لتقرضها إخوانهم المساكين بالربا الفاحش. ولو أنهم أخذوا رباها وأنفقوه في وجوه الإصلاح والبر لما بقى على أرضهم أجنبي، ولما ظل تحت سمائهم فقير. ولا أريد أن أعرض لغير الربا من الرذائل فلا نزال في حاجة إلى التقية والمصانعة. وإذا سلمنا أن مقياس الفضائل والرذائل هو النفع والضرر، فما كان مؤدياً إلى منفعة سمي فضيلة، وما كان مؤدياً إلى مضرة سمي رذيلة، سهل قياس الأخلاق على هذا الأساس، وأمكن بعد ذلك الاتفاق على نتيجة هذا القياس.

ذلك يا عزام قولهم بأفواههم يريدون أن يصل إليك عن طريق الرسالة. أما محمود فقد ظل صامتاً طول الحديث كأنه ليس منه في قالٍ ولا في قيل. ولا أدري إذا ما خلا جوفه من طعام رمضان الدسم المريء أيعود إلى جدالك، أم يكتفي بتعليق أصحابه على مقالك. وأما أنا فلا أزال أهيب بدهاقنة الدين وفلاسفة الأخلاق أن تتدخل جماعتهم في سوق الفضائل معدِّلة أو هادية، كما تتدخل الحكومة في سوق الأقطان مشترية أو حامية.

أحمد حسن الزيات