مجلة الرسالة/العدد 232/القصص
مجلة الرسالة/العدد 232/القصص
من روائع القصص الواقعي الإسلامي
عمار بن ياسر
لأستاذ دريني خشبة
(يا ابن سمية، لا يقتلك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية!)
(حديث شريف)
- 1 -
(عير من اليمن)
الحارث - ولم لا تعود معنا يا أخانا إلى اليمن؟
ياسر - اليمن وطني، ولكني والله أشم ريحاً بمكة لا تهب إلا من السماء؛ وإن قلبي ليهفو إلى مسراها. فاذهبا أنتما حتى يأذن الله!
مالك - يا أخانا، أنأتي إلى الحجاز لنعود أربعة إن وجدنا أخانا الضائع، فلا نعود إلا اثنين؟ أي ريح هذه التي تهب من السماء وإنك لتهفوا إلى مسراها؟
ياسر - والله يا ابن أم ما أدري. وما أكاد أنصح لكما ألاّ تعودا أدراجكما حتى ننشقها جميعاً. . .
مالك - بل تبقى أنت ونرتحل نحن غداة غد. . .
ياسر - ومع ذاك فلا أحب إليّ من أن تبقيا!
الحارث - بل تبقى أنت ونرحل نحن
- 2 -
(في مضارب بني مخزوم)
ياسر لأعرابي - عم صباحاً يا أخا العرب
الأعرابي - عم صباحاً! من أنت؟ ومن أي البطون أقبلت؟
ياسر - أنا رجل يمني أقبلت في عير معي أخوي لنبحث عن أخ لنا رابع أب الأعرابي - ما عن ذاك سألت!
ياسر - بلى، وأريد أن أحالف سيد هذه العشيرة. فمضارب من هيه؟
الأعرابي - مضارب سيد العرب أبي حذيفة بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم وإنه لقادم فألقه إن شئت!
(يقبل أبو حذيفة)
أبو حذيفة - ممن الرجل وماذا يبغي؟
ياسر - يمني يعربي قحطاني يبغي أن يحالف سيد العرب فيخلص له!
أبو حذيفة - على عهد بعل وهبل!
ياسر -. . .!. . .
أبو حذيفة ينادي: يا كعب. . . يا كعب. . . خذ الرجل فاعهد إليه بالإبل!
- 3 -
أبو حذيفة - وحق بعل وهبل يا ياسر إنك للمخلص الأمين وإني مزوجك أمتي الجميلة العاقلة سمية هذه
ياسر -. . . الحمد لله!
أبو خذيفة - بل لهبل!
ياسر - الحمد لله لي ولك يا سيدي على ما رزقني
أبو حذيفة - إحمد هبلاً وإحمد بعلاً يا ياسر، فإنهما الإلهان!
- 4 -
(في مقابر بني مخزوم)
ياسر - لفي هذا الثرى ترقد يا أبا حذيفة! أما والله انه لا بعل نفعك ولا هبل. . . أما والله لقد عجل بك الموت عن الطريق السوي. . .
عمار - ماذا تقول يا أبتاه! ما الطريق السوي؟. . .
ياسر - والله يا بني إنا لفي زمان أظلنا فيه فيء نبي، وإني لأجد شميمه، وإني والله تخلفت عن أعمامك فلم أضرب بطون المطي إلى اليمن من اجل هذا لأن اليهود تقول أنه من قريش
عبد الله - وما بكاؤك هذا كله على أبي حذيفة؟
ياسر - أكرم مثواي وزوجني سمية أمكما فرزقتكما منها يا بني؛ وقد أعتقني فما رضيت أن أفارقه. ولشد ما أخشى أن أهون بعده!
- 5 -
(بيت بالصفا بلحف أبي قبيس)
ياسر - اسمعي يا ابني ما أحلى ما يقرأ محمد والمسلمون معه!
عمار - وماذا يقرءون يا أبي؟
ياسر - يقرءون ما يقضي إلى محمد وحيه من الله. لله ما أحلى ولله ما أعلى!
عبد الله - أليس هو من عند بعل يا أبتاه!
ياسر - بعل حجر لا ينطق وهم خلقوه. ولله لقد حام حين بعل!
عمار - ولم لا ندخل فنقرأ معهم يا أبي؟
ياسر - والله إني لهذا جئت إلى الصفا يا بني ووالله إني لأجد الريح التي تنشقتها مذ قدمت من اليمن. ومن اجلها استأنيت الحجاز وخالفت أخوي!
عمار - إذن نطرق الباب لنكون من السابقين!
ياسر - والله لنكونن منهم بإذن الله. . اطرق يا بني فلقد شرح الله صدورنا لهذا الأمر
(عمار يطرق الباب)
صوت الداخل - (من؟
عمار - مؤمنون بمحمد يريدون رسول الله!
الصوت - حباً حباً إخواننا في الله!
ياسر - يدك يا رسول الله. أشهد وبنيَّ أنه لا إله إلا الله وإنك رسول الله
(يمد له الرسول يمينه فيبايعونه)
ياسر - انطلق يا عمار فآت بسمية تشهد معنا وتغنم هذا الخير، إن ههنا مؤمنات مسلمات خابتات خاشعات!
- 6 - (رمضاء مكة وقت الظهيرة)
(يقدم بنو مخزوم ومعهم عمار وأبوه ياسر وأمه سمية)
أحدهم لياسر - نم يا صاحب محمد! ذق عذاب السعير الذي ينذرنا به نبيك!
(ويضربه ويضع الحجارة على صدره)
أحدهم لعمار - وأنت يا ابن الأمة! قل كفرت برب محمد! قل! اخلع هذه الثياب فلنفصلن لك ثياباً من رمضاء مكة تكويك وتشويك
(ينزع عنه الثياب ويقيده ويحثو التراب على رأسه)
أترى إلى هذا الجعل؟ قل هو ربي! قل هو خير من إله محمد! قل آمنت ببعل وود ويغوث ويعوق وهبل، وكفرت بإله محمد!
عمار - بل الله الله! الله ربى وبعل حجر أنتم خلقتموه!
(الكافر يركله ويحمي حديداً في نار موقدة ويكويه به)
الكافر المخزومي - قل كفرت بإله محمد أو أسمل عينيك
عمار - اقض ما أنت قاض. إنما تقضي هذه الحياة الدنيا!
الكافر - انظر إلى أبيك وأمك كيف يتعذبان! ألا تستر أمك فتكفر بمحمد وإله محمد يا ابن الأمة!
عمار - بل يصبران لبلاء الله كما اصبر. . . الله. الله. الله!
أحدهم لسمية وهو يعذبها - انظري يا أمة بعل، هذا زوجك وهذا ولدك، إلا تكفرين بإله محمد فنرسلك ونرسلهما؟
سمية - وكيف وقد هداني الله؟ لعذابكما أهون من حر جهنم. بل ربي الله لا اعبد إلا إياه. . .
الكافر المخزومي - وولدك هذا الذي يكوى بالنار؟
سمية - يصبر اليوم خير من ألا يصبر غدا!
الكافر المخزومي - ولن أدعك حتى تكفري بمحمد
(يضربها على يافوخها فتحتضر)
سمية - بل ربي الله! آمنت بالله وبرسوله (يمر رسول الله فيرى ما يقع بآل ياسر)
رسول الله - (صبراً آل ياسر! موعدكم الجنة. صبراً آل ياسر! موعدكم الجنة)
آل ياسر - لقد بعنا لك أنفسنا يا رسول الله فانظر ما يفعل السفهاء بنا
سمية - صوت من؟ الرسول الكريم! محمد! آمنت بك يا محمد! آمنت بك يا محمد! اشهد يا محمد ما يصنع بنا بنو مخزوم. . .
الكافر المخزومي - تعال يا محمد فخلص عبيدك!
(ويضربها الكافر بحجر كبير على رأسها فتموت ويستعبر النبي)
الرسول الكريم - يا رب. يا رب. يا رب!
أبو جهل (يحضر فيشهد فيقول لياسر) - يا فاجر تكفر بأربابك وأرباب آبائك؟ ها هو ذا محمد أدعه يمنعك!
(يمضي أبو جهل فيحثو التراب على رأس الرسول ويعود)
أرأيت ها هو ذا محمد! تركت دين أبيك يا ياسر وهو خير منك. لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك!
(يضربه ويمضي)
أبو سلمة المخزومي - يا لقومي! أتقتلون أناساً أن يقولوا ربنا الله!
أبو جهل - اسكت يا أبا سلمة أو لنرجمنك ونضعن شرفك!
- 7 -
(النبي والصحابة يبنون مسجد المدينة)
مدني لأنصاري - من أخوكم هذا الرجل الآدم الطوال المضطرب الأشهل الذي يحمل لبنتين ولا يحمل أيهم إلا لبنة واحدة؟
الأنصاري - ألا تعرف من هذا؟ إنه حبيب نبينا الرجل المؤمن الذي ما تعذب أحد من المسلمين كما تعذب. . . هذا عمار بن ياسر. . .
المدني - ومن هذا الرجل النظيف المتنظف يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كفيه ونظر إلى ثوبه، فإذا أصابه شئ من التراب نفضه؟
الأنصاري - هذا الرجل الصادق عثمان بن عفان (علي بن أبي طالب يرى ما نصنع عثمان فينشد)
علي بن أبي طالب:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها راكعاً وساجداً
وقائماً طوراً وطوراً قاعداً ... ومن يرى عن التراب حائداً!
(عمار يسمع علياً فيحفظ ما يقول وينشده فيسمعه عثمان)
عثمان - يا ابن سمية ما اعرفني بمن تعرض. لتكفن أو لأعترضن بهذه الجريدة وجهك
(النبي يسمع ما يقول عثمان)
عمار - جلدة ما بين عيني وأنفي، فمن بلغ ذلك منه فقد بلغ مني. . .
بعض المسلمون لعمار - إن رسول الله قد غضب فيك ونخاف أن ينزل فينا قرآن!
عمار - أنا أرضيه كما غضب!
(يقصد نحو النبي)
عمار - يا رسول الله مالي ولأصحابك؟
رسول الله - ومالك ولهم؟
عمار - يريدون قتلي. . . يحملون لبنة ويحملون عليّ لبنتين
(النبي ينفض عنه التراب بيديه الكريمتين ويطوف به)
النبي - ويح عمار! تقتله الفئة الباغية. . . يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. . . للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك من الدنيا شربة لبن
- 8 -
(سنة 37 هـ يوم صفين في الفتنة بين علي ومعاوية)
مجلس شورى
علي بن أبي طالب بعد خطباء - أيها الناس! أنه قد بلغ بكم وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلا آخر نفس، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغوا منكم ما بلغوا، وأنا غاد عليهم بنفسي بالغداة فأحاكمهم بسيفي هذا إلى الله!
(خطباء كثيرون يرون الحرب ويرى غيرهم الموادعة) عمار بن ياسر - أما والله لقد أخرجها إليك معاوية بيضاء، من أقر بها هلك ومن أنكرها هلك. مالك يا أبا الحسن؟ أشككتنا في ديننا ورددتنا على أعقابنا بعد مائة ألف قتلوا منا ومنهم؟ أفلا كان هذا (الاحتكام إلى كتاب الله) قبل السيف وقبل طلحة والزبير وعائشة؟ قد دعوك إلى ذلك فأبيت، وزعمت أنك أولى بالحق، وأن من خالفنا منهم ضال حلال الدم، وقد حكم الله تعالى في هذا المال ما قد سمعت. . . فإن كان القوم كفاراً مشركين فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، وإن كانوا أهل فتنة فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. والله ما اسلموا ولا أدوا الجزية ولا فاءوا إلى أمر الله ولا طفئت الفتنة. . .
علي - والله إني لهذا الأمر كاره!
- 9 -
(في حرب صفين)
عمار - أيها الناس! ائتوني بضباح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء (يشرب ويحمد الله ويقول:) إن رسول الله قال لي إن آخر شربة أشربها من الدنيا شربة لبن. . . اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن اقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته. . . اللهم انك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في صدري ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت. وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم أن عملاً من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته. . .
(عمار يهتف بالمسلمين من أصحاب علي)
- ألا من يبتغي رضوان الله علية ولا يؤوب إلى مال ولا ولد. . .؟
- (يقصد إليه مسلمون كثيرون فيهتف بهم)
- أيها الناس! اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبغون دم عثمان ويزعمون انه قتل مظلوماً؛ والله ما طلبتهم بدمه، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فأستحبوها واستمرءوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم. ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم فخدعوا اتباعهم أن قالوا إمامنا قتل مظلوماً ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا. . تلك مكيدة بلغوا بها ما ترون. . . ولولا هي ما تبعهم من الناس رجلان. . . اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم!
(ويمضي بمن معه من المحاربين)
عمار - يا عمرو بن العاص
عمرو - ما لك يا عمار؟
عمار - تباً لك بعت دينك بمصر! تباً لك تباً! طالما بغيت في الإسلام عوجاً. . . يا عبيد الله بن عمر بن الخطاب!
عبيد الله - ما لك يا عمار؟
عمار - بعت دينك من عدو الإسلام وابن عدوه؟
عبيد الله - لا، ولكن اطلب بدم عثمان
عمار - أشهد على علمي فيك انك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله عز وجل، وانك إن لم تقتل اليوم تمت غداً، فانظر إذا أعطى الناس على قدر نياتهم ما نيتك!. . . أما والله لقد قاتلت صاحب هذا الراية مع رسول الله ثلاثاً، وهذه الرابعة ما هي بأبر ولا اتقى
(عمار يهجم بمن معه ويقول لهاشم حامل الراية)
تقدم يا هاشم. . . . الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل. وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين؛ اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه
(يهجم عليه أبو غادية المزني من أصحاب معاوية فيقتله)
أبو غادية - إليك أيها الرجل فأنا قاتله. . .
عقبة بن عامر - بل أنا صاحبه. إليك إليك. . . لي رأسه أحتزه بسيفي!
أبو غادية - فتذهب بها إلى معاوية!
(ويقبل معاوية ومعه عمرو بن العاص)
عمرو بن العاص - والله إن يختصمان إلا في النار!
(ينصرف الرجلان بعد تسليم الرأس)
معاوية - ما رأيت مثل ما صنعت! قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما إنكما تختصمان في النار عمرو - والله ذاك! والله إنك لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة. . لقد أسلم قبلي وقبلك وأوذي ما لم نؤذ، وأحبه رسول الله، وحضر كل وقائع النبي. . . وقال الرسول تقتله الفئة الباغية!
معاوية - ويك يا عمرو! أنحن الذين قتلناه. . لقد قتله من أخرجه لهذا اليوم!
عليك السلام يا عمار. . . ليت قوماً غير المسلمين قتلوك!
دريني خشبة