مجلة الرسالة/العدد 233/بين القاهرة واستنبول

مجلة الرسالة/العدد 233/بين القاهرة واستنبول

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 12 - 1937



للدكتور عبد الوهاب عزام

- 3 -

المتحف العسكري

يا أخي صاحب الرسالة

سلام عليك. لا أقول هذه ثالثة الرسائل خيفة أن تقول في نفسك (ثالثة الأثافي) بل أقول هذه الرسالة الثالثة أرسلها إليك من استنبول لأصف لك مما رأيت

خرجت من مسكني في تقسيم أؤم المتحف العسكري ومعي زميلي الدكتور زيادة، فلما أجزنا الجسر - جسر غلطة شرعت السماء ترذّنا، حتى إذا بلغنا ساحة أياصوفيا وملنا شطر قصر (طوب قبو) انهمر المطر فأوينا إلى الباب، وهو باب شاهق واسع عليه الطغراء السلطانية، يمتدّ على جانبه سور عال كأسوار القلاع، أوينا إليه مع من ألجأهم المطر؛ وازداد المطر انهماراً فطال بنا الوقوف. ولست أنسى مشهداً رائعاً شهدته هنالك: إلى اليسار سبيل السلطان أحمد في جمال هندسته وحسن نقشه، وحلىً من الخط والمعنى تتجلى بها أبيات من الشعر أطافت به؛ وإلى اليمين جامع أياصوفيا يبدو جانب من قبته ومأذنتان من مآذنه الأربع؛ وأمامي على بعد جامع السلطان أحمد في جلال قبابه. وجمال بنائه، قد علت قبته ومآذنه السّت أهّلةٌ ذهبية يزيدها المطر اشتعالاً. وهيهات أن تذهب بنور التوحيد سُدَف الدجن أو شآبيب المطر، وجامع السلطان أحمد أجمل جوامع استنبول في رأيي وأكثرها إضاءة في قلب الداخل وعينه. ما يزال الطرف يتقلب بين جدرانه وأساطينه وقبابه حتى إذا بهره الجمال والجلال استراح إلى مرأى البحر من خلال النوافذ الزجاجية الجميلة. وقد دخلته قبل ثماني سنين، فلما رأيت هذه الأساطين الأربع الهائلة قلت (يا لك أربعة أساطين حملت الدنيا والدين!)

خف المطر فأسرعنا صوب المتحف العسكري فإذا هو مقفل إلى الظُّهر فأوينا إلى باب (الضربخانة). ولما أذن المطر بالمسير انصرفنا نسير في أرجاء المدينة. ثم عدنا إلى المتحف، وهو في كنيسة قديمة اسمها سنت أدنيا، رُصّت خارجه مدافع كثيرة جاهدت ف عصور مختلفة. فيها مدفع كبير بجانبه قذائف مكورة من الحجر وقد نقش عليه بالعربية بيتان يدلان على أنه من مدافع سليمان، وأنه صنع سنة 928هـ وهناك مدافع أخرى نقش عليها أسماء صانعيها؛ وأمام المتحف قنبلة سوداء مخروطية طويلة هي بعض ما ألقاه الأسطول الإنكليزي على الجيوش العثمانية حينما سدّت طريق الدردنيل بأبدانها وإيمانها

وفتحنا الباب فإذا دهليز على جانبيه تمثالان لجنديين دارعين من انكشارية القرنين الثامن والتاسع من الهجرة. ثم سلكنا الدهليز بين بنادق كثيرة من صنع القرن الماضي والقرن الحاضر. ولست أستطيع ولا أستحسن أن أصور لك كل ما رأيت في هذا المعرض العظيم من تاريخ الصناعات ومجد العثمانيين وعبر التاريخ: أكدس من الوقائع والعبر، يضيق عنها النظر والفكر، وإنما أصف لك ما غلب على الذاكرة، من بينها: المتحف كنيسة قديمة تقوم على ساحتها قبة كبيرة عالية ويدور بها طبقتان من الأروقة سرنا في الرواق إلى اليمين ودرنا معه فإذا بنادق ومدافع وآلات حربية كثيرة ومناظر لبعض الحروب، حتى انتهينا إلى سيارة في نوافذها ثقوب؛ فهذه السيارة التي قتل فيها المرحوم محمود شوكت باشا وهو صدر أعظم في عهد السلطان محمد الخامس؛ وبعدها صور وآثار كثيرة لمتأخري القواد العثمانيين: علمدار مصطفى باشا ومختار الغازي وأنور وغيرهم. ثم خرجنا إلى وسط الكنيسة فرأينا في صدرها صورة الغازي مصطفى كمال باشا بجانبها أنواع من الأسلحة القديمة والحديثة. وسرنا قليلاً فإذا درع قديمة تتخطاها العين غير حافلة، حتى إذ أوقفها التطلع قرأت عليها: (درع الفاتح) فأخذها جلال الذكرى وأدركت فرق ما بين المظاهر والحقائق، بجانب الدرع سيوف من ذلك العهد وتروس محكمة الصنع منها ترس محمود باشا أحد الصدور في عهد الفاتح، وترس يعقوب جلبي بن السلطان مراد الأول. ويقال إن السلطان بايزيد أمر بقتله وهو يتعقب العدو في موقعة قوصوه الأولى سنة 791، ثم سيوف لسليمان القانوني فيها سيف كتب عليه:

على الله في كل الأمور توكلّي ... وبالخمس أصحاب العباء توسُّلي

ورأينا بعد هذه خوذات أهداها نابليون إلى السلطان سليم الثالث، وعلماً رفعه العثمانيون في موقعة قوصوه الأولى، ثم مخلفات السلطان عبد الحميد. وهكذا نطوي العصور في لمحات. فالفاتح وبايزيد وسليم وعبد الحميد طواهم التاريخ في سجله، وجمعهم الزمان في معرضه، فدار بهم الزائر في خطوات، وحواهم بطرف في نظرات، وقبض الدهر هذه العصور المتطاولة في كلمة واحدة: (الماضي). . .

وفي الدهليز الذي إلى اليمين سنان رمح كان للإمبراطور جستنيان، وبركار كان للمعمار سنان. قلت لنفسي: شتان ما بين السنانين هذا للحرب والفناء، وهذا للعمران والبقاء. قد فنيت آثار سنان جستنيان، وللفناء كان طعانه، وبقيت آثر بركار سنان، وللبقاء كان بنيانه. وحسب سنان خلودا هذا الجامع الرائع والأثر العظيم الذي يدل على الصانع: جامع السلطان سليمان. على أن هذه اليد الماهرة المعمرة شادت في أرجاء المملكة أربعمائة بناء (عمر المعمار سنان أكثر من مائة عام وتوفى سنة 996 ودفن في الجامع الذي ينسب إليه في استنبول) وبعد هذين صورة تمثل الأمير البطل عبد القادر الجزائري وهو يقابل القائد الفرنسي بعد معاهدة تفنة سنة 1838م

وفي الطبقة الثانية تماثيل كثيرة تمثل رجال الدولة وخدم الملوك في أزيائهم القديمة. فهذا شيخ الإسلام على أريكة قد جلس أماه أعوانه، وهذا قاضي العسكر بجانبه قاضي مكة وآخرون. وهذا أغادار السعادة، وهذا قزم كان يضحك السلاطين، وهذه صور الانكشارية في أزيائهم العجيبة، وهذا الجلاد واقفاً كالقضاء ينفذ أمر السلطان - صور من التاريخ مبكية مضحكة، وفي هذه الطبقة خرائط مجسَّمة تمثل القسطنطينية وما يحيط بها، وألواح فيها آيات من القرآن أو كلمات مأثورة. . .

وبعد فحسبي اليوم هذه السطور. ولعل الرسالة الآتية تبلغك عما قليل، والله يرعاك والسلام عليك

استنبول 3 أغسطس سنة 1937

عبد الوهاب عزام