مجلة الرسالة/العدد 233/حياة الأمة العربية بين الماضي والمستقبل
مجلة الرسالة/العدد 233/حياة الأمة العربية بين الماضي والمستقبل
للأستاذ ساطع بك الحصري
مدير الآثار العامة في بغداد
يسرني أن أحيي فريق الكشاف العربي، تحت سقف هذا البناء القديم، باسم دائرة الآثار القديمة
إنني أحيي فريق الكشاف العربي باسم دائرة الآثار العربية مع علمي بأن الكثيرين من الحضور سيستغربون قولي هذا وسيتساءلون: ما شأن الآثار القديمة في الأعمال الكشافية؟
في الواقع أيها السادة أن الكشاف يمثل (الشباب المتجدد) وأعمال الكشافة كلها بمثابة (استعداد للمستقبل) في حين أن هذه البناية هي (موئل القديم) وكل ما فيها (مثال الماضي ومرآة التاريخ) فجمع الكشافة في هذه البناية القديمة بين القاعات المملوءة بالآثار القديمة، يظهر في الوهلة الأولى كأنه (الجمع بين الأضداد) مثل (الجمع بين الماضي والمستقبل)
غير أنا، أيها السادة، إذا تعمقنا في البحث قليلاً نضطر إلى التسليم بأن الماضي والمستقبل ليسا متناقضين إلا من حيث المعنى اللغوي؛ أما من جهة العمل الاجتماعي فإنهما مرتبطان متلازمان، فإن الماضي منبع المستقبل دائماً، كما أنه من عوامل الدفع إلى الأمام في كثير من الأحيان ولاسيما في حياة الأمم التي تستفيق من سباتها وتنزع إلى النهوض بعد الرقود
لقد قال أحد المفكرين: (إن الأموات لا يرقدون في المقابر في حقيقة الأمر، بل إنهم لا يزالون يعيشون في نفوس الأحياء ويسيطرون على الكثير من أعمالهم في كثير الأحيان) إن هذا القول يحتوي على قسط كبير من الحقيقة ولاسيما في حياة الأمم. فلأجل أن نقتنع بذلك جيداً يجدر بنا أن نلقي نظرة عامة على أهم مقومات الأمم
إن كل أمة من الأمم تكون شخصية معنوية تتصف بالحياة والشعور وتمتاز ببعض النزعات والميول
إن حياة الأمة تقوم بلغتها بوجه عام، أما الموت بالنسبة إلى الأمة فليس - في حقيقة الأمر - إلا في الحرمان من اللغة الخاصة بها. إن الأمة التي تدخل تحت حكم دولة أجنبية تفقد استقلالها وحريتها، تصبح مستعبدة لها ولكنها لا تفقد حياتها ما بقيت محافظة على لغتها، فقد قال أحد المفكرين: (إن الأمة المحكومة التي تحافظ على لغتها تشبه السجين الذي يمسك بيده مفتاح باب سجنه) إنها تبقى حية ما بقيت محافظة على لغتها؛ إنها تبقى مستعدة للتحرر والاستقلال مادامت مستمسكة بلغتها. أما إذا فقدت هذه اللغة فإنها تكون قد فقدت الحياة؛ تكون قد اندمجت في الأمة المستولية عليها وفقدت كل ما لها من عناصر الكيان. إنها تكون قد زالت من عالم الوجود وبتعبير أقصر (ماتت) بكل معنى الكلمة. إن اللغة التي تكون بهذه الصورة هي (روح الأمة وحياتها) وتمثل (أهم عناصر القومية وأثمن مقوماتها). أليست ميراث الأجيال الماضية وهدية الحوادث التاريخية بوجه عام؟ أفلا يحق لنا أن نقول إنها تربط الماضي بالمستقبل دائماً؟.
هذا ويجدر بنا أن نلاحظ، أيها السادة، فضلا عن كل ذلك أن الحياة ليست كل ما يهم الوجود. فإن هناك شيئاً آخر لا يقل أهمية عن الحياة وإن كان تابعاً له، ألا وهو الشعور. إن للأمم شعوراً كما للأفراد. فالشعور القومي بالنسبة إلى حياة الأمم مثل الشعور الشخصي بالنسبة إلى حياة الأفراد.
قلنا إن حياة كل أمة من الأمم تقوم بلغتها، ويجب أن نعرف في الوقت نفسه أن شعور كل أمة من الأمم يتكون من ذكرياتها التاريخية الخاصة بها
فالأمة التي تحافظ على لغتها وتنسى تاريخها، تكون بمثابة فرد فاقد الشعور، بمثابة فرد يغط في النوم، أو بمثابة مريض في حالة الإغماء. نعم إنه لا يزال على قيد الحياة، ولكن حياته هذه لا تكتسب قيمة إلا إذا استيقظ من نومه واستعاد الشعور الذي فقده مدة من الزمن
فيحق لنا أن نقول إن إهمال التاريخ القومي يكون بمثابة الاستسلام للذهول والكرى؛ وأما نسيان التاريخ المذكور فيكون بمثابة فقدان الشعور. . .
هذه حقيقة يعرفها جيداً رجال الحكم والاستعمار ويستفيدون منها دائماً، فهم عندما يستولون على أمة من الأمم يبذلون قصارى جهدهم لإبعاد ذاكرتها عن تاريخها الخاص. إنهم يتوسلون بكل الوسائل الممكنة لتخدير الأمة وتنويمها عن طريق الحيلولة بينها وبين تاريخها القومي. إنهم يعرفون جيداً أن الشعور القومي عند الأمم المحكومة يأخذ في الخمود والتضاؤل كلما أسدل النسيان سدوله على (التاريخ القومي) إلى أن ينعدم تماماً بنسيان التاريخ الخاص نسياناً تاماً
أما عودة الشعور القومي إلى مثل هذه الأمم المحكومة فلا تتم إلا باستعادة الذكريات التاريخية. إن حركات النهوض والانبعاث وجهود الاستقلال والاتحاد عند تلك الأمم تبدأ بوجه عام بتذكير الماضي واستلهام التاريخ. استعرضوا تواريخ استقلال الأمم التي كانت مغلوبة على أمرها، ثم نهضت وتخلصت من ربقة الاستعباد تفهموا جيداً منها أن حب الاستقلال يتغذى بذكريات الاستقلال المفقود، والتوقان إلى السؤدد والمجد يبدأ بالتحسر على السيادة الماضية والمجد السالف، كما أن الإيمان بمستقبل الأمة يستمد قوة من الاعتقاد بماضيها الباهر؛ والنزوع إلى الاتحاد يزداد شدة وحماسة بتجدد ذكريات الوحدة المضاعة. . .
ومما يجب أن يلفت أنظارنا في هذا المضمار أن خطة استلهام الماضي والاستفادة من التاريخ تظهر للعيان حتى في أعمال الأمم التي تقوم بثورات عنيفة وتحاول قلب حياتها الاجتماعية رأساً على عقب بصورة جدية وفورية. إن تلك الأمم تثور في حقيقة الأمر على (الماضي القريب) وحده، وتحاول في خلال ثورتها هذه أن تستمد قوة من الماضي البعيد. أنعموا النظر في تاريخ ثورات ووثبات تلك الأمم - مثل اليابان وتركيا الحديثة - تجدوا فيها أيضاً، بجانب حركات التجديدات الجندية، اهتماماً متزايداً بالأبحاث التاريخية، وتغلغلاً مستمراً في استخدام التاريخ لتقوية الروح القومية وإيجاد النزعات التجديدية
إن أمر الاهتمام بالتاريخ والالتفات إلى الماضي ليس من الخطط الخاصة بالأمم التي كانت في حالة تأخر وسبات، بل هي من الأمور التي تشمل جميع الأمم بدون استثناء. تعمقوا في دراسة أحوال أرقى الأمم العصرية، وأنعموا النظر في أحسن الشوارع والميادين في أرقى المدن الحديثة تجدوا في جميعها آثار اهتمام عظيم بالماضي والتاريخ، تجدوا في جميعها عدداً كبيراً من الأنصاب والتماثيل والألواح التذكارية وسلسلة طويلة من المهرجانات والاحتفالات يقصد منها تذكير الماضي للناس، وترسيخ التاريخ في الأذهان
ولهذه الأسباب كلها أقول في كل حين: إن الماضي منبع فياض للمستقبل والتاريخ قوة مهمة في حياة الأمم
ولهذه الملاحظات رأيت من الواجب على فريق الكشاف العربي أن يذهب إلى سامرا ليقضي يوماً كاملاً في التجوال بين أطلالها، ويطلع على الآثار الباقية من عند الإمبراطورية العربية العباسية فيها، ثم يعود إلى هنا ليجتمع معنا في هذه البيئة التاريخية ويتأمل مدة في ماضي أمتنا العزيزة، ويستمد من ذكريات هذا الماضي قوة جديدة لجهوده القادمة. ولهذا أقدمت على تحيته باسم دائرة الآثار القديمة
إنني لا أحب المغالاة في مثل هذه الأمور، بل أنزع دائماً إلى مجابهة الحقائق من كل وجوهها. وبعد أن شرحت لكم ما أعتقده في خطورة الدور الذي يلعبه التاريخ في حياة الأمم أرى من واجبي أن أقول لكم كلمة عن مضاره أيضاً، لكي أحذركم منها
إن الحياة الاجتماعية غاية في التعقد؛ والعوامل الاجتماعية في منتهى التشابك. ولذلك قلما نجد بين تلك العوامل ما هو مفيد على الإطلاق، ومجرد عن الشوائب والأضرار في كل الأحوال. إن الفوائد والأضرار في الحياة الاجتماعية تتشابك بشكل غريب، فاقتطاف الفوائد مع توقي الأضرار يحتاج إلى يقظة كبيرة وانتباه شديد في معظم الأحوال
إن تأثير التاريخ والماضي في حياة الأمم، لا يشذ عن هذه القاعدة العامة، فإنه أيضاً قد يصبح مضراً في بعض الأحوال
فإن التاريخ يكون مفيداً عندما يفرغ في شكل (قوة دافعة) تحركنا إلى الأمام كما ذكرت لكم؛ غير أنه يصبح مضراً إذا أخذ شكل (قوة جاذبية) تدعونا إلى العودة إلى الوراء. فلا يجوز لنا أن نعتبر الماضي هدفاً نتوجه نحوه، ونسعى للعودة إليه، بل يجب علينا أن نجعل منه (نقطة استناد) نستند إليها في سيرنا إلى الأمام، يجب علينا أن نكون منه قوة فعالة حافزة تدفعنا نحو المستقبل الجديد، وبتعبير أوجز: شعارنا في هذا الباب يجب أن يكون: (تذكر الماضي، مع التطلع إلى المستقبل دائماً)
واسمحوا لي أن أشرح لكم قصدي من هذا الشعار بذكر بعض الأمثلة:
كلكم تعلمون أن سيرة خالد بن الوليد من أجلِّ السير التي سجلها التاريخ، فيجب علينا أن ندرسها بكل اهتمام؛ ولكن لماذا ولأي قصد؟ ألقصد الحصول على دروس في فنون التعبئة والحرب؟ كلا؟ فإن الخطط الحربية التي كانت تضمن النجاح والنصر في عصر خالد بن الوليد لا يمكن أن تفيد في هذا العصر بوجه من الوجوه. ولا مجال للشك في أن الخطط الحربية التي تضمن النصر والنجاح في عصر الدبابات والطيارات والغواصات والمدافع الضخمة والقذائف الهدامة والغازات الخانقة - تختلف كل الاختلاف عن الوسائل التي كانت تؤدي إلى النصر في حروب العصور السالفة. فكل من يحاول أن يجد في خطط خالد بن الوليد دروساً في فنون الحرب قابلة للتطبيق في العصر الحاضر يكون قد أقدم على عمل لا يتفق مع العقل والمنطق
غير أنه يجب أن نعرف أن الحروب لا تتم بالوسائط والقوى المادية وحدها، بل إنها تحتاج إلى قوى معنوية متنوعة فضلاً عن القوى المادية، أهمها: الوطنية الصادقة، والإيمان بإمكان النصر مع الإقدام على إحرازه بحزم وثبات، وجرأة وشجاعة لا تتأخر عن نوع من أنواع التضحية. إن هذه القوى المعنوية لعبت ولا تزال تلعب دوراً هاماً في الحروب في جميع العصور، مهما كانت الوسائط المادية المستعملة في خلالها، سواء أكانت من نوع السهام أم الدبابات، أم الجمال أم الطيارات. إن سيرة خالد بن الوليد مملوءة بأمثلة عليا عن هذه القوة المعنوية؛ وإذا ما أقدمنا على درس سيرة خالد بن الوليد يجب أن ندرسها لكي نستفيد من تلك القوى المعنوية؛ وإذا ما بحثنا عنها يجب أن نبحث عنها بقصد استثارة قوى معنوية مماثلة لها، لا بقصد محاولة الحرب على الطريقة التي مشى خالد بن الوليد عليها
وكذلك كلكم تعلمون بأن أجدادنا العظام أسدوا إلى الطب من الخدمات ما لا ينساه التاريخ، فيجب علينا أن ندرس تلك الخدمات، ونطلع عليها ونتذكرها دائماً، ولكن لماذا؟ وبأي قصد؟ هل يجوز لنا أن نفعل ذلك بقصد الاستفادة من آراء كبار أطباء العرب في مداواة الأمراض؟ لا مجال للشك في أن ذلك يكون في منتهى السخافة. يجب علينا أن ندرس خدمات العرب للطب، لا بأمل أن نجد في اكتشافاتهم ما يفيدنا في أمر التطبيب والمداواة، بل لنزداد مباهاة بأعمال أجدادنا العظام، ولنزداد إيماناً بحيوية أمتنا الكامنة، ولنحصل على دوافع باطنية تحفزنا على القيام بخدمات تشبه خدماتهم الغالية. إن أطباء العرب القدماء خدموا الطب خدمة كبرى، ومشوا في مقدمة العالم في هذا المضمار قروناً عديدة. إن خدمات هؤلاء يجب أن تولد في نفوسنا طموحاً لإحراز مكانة عالية في الطب الحديث، مثل المكانة التي كان أحرزها هؤلاء في العصور التي عاشوا وعملوا فيها
ولذلك قلت إنه يجب علينا أن نستمد من التاريخ قوة معنوية، تثير في نفوسنا نزعات التقدم إلى الأمام، وتحفزنا إلى العمل لمجد المستقبل
أما أهم النزعات التي يجب أن نستلهمها من التاريخ فهي في نظري الإيمان بحيوية الأمة العربية، وبإمكان حصولها على مجد جديد لا يقل شأناً عن المجد الذي كانت نالته في سالف العصور
إننا في حاجة إلى مثل هذا الإيمان في هذا الزمان أكثر من أي زمان آخر، لأن المصائب انصبت على العالم العربي من كل حدب وصوب. ومن المعلوم أن كثرة المصاعب والمصائب تفتح باباً إلى تسرب الفتور والقنوط إلى القلوب التي لا تتجهز بالأمل القوي، ولا تتقوى بالعقيدة الراسخة
ونحن نعلم أن الأمل من أهم عوامل السعي والعمل، وأما القنوط فهو من أفعل دواعي التقاعد والشلل. ولهذا السبب نستطيع أن نقول: إن تطهير القلوب من شوائب الفتور والقنوط وتجهيزها بالأمل والإيمان يجب أن يكون من أهم أهداف العاملين، ولاسيما في الظروف التي أحاطت بالعالم العربي في خلال هذه السنين
وبهذه الوسيلة، وقبل أن أختم كلمتي هذه أود أن أذكركم بإحدى الأساطير اليونانية، وهي (أسطورة باندور):
باندور كانت إلهة جمة الخصال تكونت من عطايا جميع الآلهة: أعطتها كل إلهة من الآلهة الموجودة في ذلك الحين شيئاً من خصالها، ولهذا السبب سميت هذه الإلهة الجديدة باسم (باندور) بمعنى (عطية الكل)
عندما غضب جوبيتير على هرقل وأراد أن ينتقم منه فكر في إغرائه بواسطة باندور، فسلمها علبة سحرية، وطلب إليها أن توصلها إليه من غير أن تفتحها وتطلع على ما فيها. وحملت باندور هذه العلبة، غير أنها لم تستطع أن تتغلب على ميل الاستطلاع في نفسها، ففتحت العلبة في طريقها؛ وعند ذلك أخذ يخرج من العلبة جيش عرمرم من المساوئ والشرور، وينتشر في الأرض بسرعة العاصفة مع أزيز هائل. اندهشت باندور من كل ذلك، وأخذت تبذل كل ما لديها من قوة لإعادة إقفال العلبة بسرعة؛ غير أنه قد خرج من العلبة جميع الشرور قبل أن تتمكن من ذلك، ولم يبق فيها إلا شيء واحد، وكان ذلك الشيء الذي بقي في العلبة مقابل جميع تلك المساوئ والشرور هو (الأمل)
إن حالة العالم العربي الآن تشبه الحالة التي حدثت عند انفتاح علبة باندور المذكورة في هذه الأسطورة. لقد انتشرت المصائب والشرور في العالم العربي، ولم يبق بين أيدي أبنائه شيء غير (الأمل)، فيجب علينا ألا ننسى أن الأمل هو من أهم عوامل العمل، ولابد أن نحرص عليه كل الحرص فلا نترك سبيلاً إلى تسلل القنوط إلى قلوبنا. فليكن قلب كل واحد منا شبيهاً بعلبة باندور (يحفظ الأمل) بل لا يكتفي بحفظه فيسعى إلى تغذيته وتقويته إلى أن يتحول إلى (إيمان لا يتزعزع) يدفعنا إلى العمل المتواصل بروح التضحية والإخلاص.
ساطع الحصري