مجلة الرسالة/العدد 233/وكان صباح
مجلة الرسالة/العدد 233/وكان صباح
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
جاء يوم العيد، وطلع نهاره، وارتفعت شمسه، وأنا لا أرى أحداً يدخل عليّ فيقرئني السلام ويحييني تحية الصباح، ويهنئني بهذا العيد الجديد، ويتمنى لي كثيراً من أمثاله، وأمثال أمثاله إن شاء الله. شيء بارد!! أين هذه الزوجة التي كنت أظنها صالحة، والأولاد الذين كنت أرجو أن يكونوا بررة؟؟
وأنا يحلو لي الحديث على الريّق، بين نوبات التثاؤب والتمطي تحت اللحاف أو الملاءة، ولا أذكر أني عدمت قط من يحدثني في صباح - حتى قبل أن أستيقظ! - يدخل عليّ أحد الصغيرين اللعينين فأسمع صوتاً ناعماً يناديني: (بابا. . . بابا) فأتقلب في فراشي وأحدث نفسي أن هذا حلم، ولكن الصوت يلح عليّ بالنداء (بابا. . . بابا) فأفرك عينيّ بيد، وأدس الأخرى تحت الوسادة لأخرج الساعة وأنظر، فإذا هي الخامسة صباحاً! فأصيح: (يا خبر أبيض. . .! ما لك يا ولد!؟ فيقول (صباح الخير) فأقول: (أي خير يا أخي؟ حرام عليك!) فلا يعبأ بي، ولا يشفق عليّ، ويقول (هات القررررش) - هكذا ينطقها - فأحتال لأصرفه عني برفق وأقول له في جملة ما أقول (اذهب إلى أمك. . . خذه منها) فيأبى اللعين أن يتزحزح ويقول: (نائمة!) فأحدق في وجهه مستغرباً وأسأله (نائمة؟ بالذمة؟) فيؤكد لي أنها نائمة، فأقول (وأنا؟؟) فيقول (صاحي!) فأقول (تمام. . . في محله. . . لا بأس. . . ولكن القرش تحت الوسادة التي تريح عليها أمك النائمة خدها الأسيل، فاذهب إليها وادفع يدك تحت المخدة. . . بقوة. . . وخذ القرش، فإذا لم تجده هناك، فستجده لا محالة بين أسنانها، فإنها ماكرة، فافتح لها فمها وانتزعه من بين أضراسها)
فيضحك الخبيث وقد راقه الكلام، ويسألني (وإذا عضتني؟) فأطمئنه وأؤكد له أني سأعضها انتقاماً له! فيذهب عني مسرورا. . .
أو تقبل الخادمة، ويحسن أن أقول إن لها في بيتي عشر سنوات، فتقف على رأسي وراء شباك السرير وتقول بصوت خافت ولكنه ملح: (سيدي. . . سيدي. . .)
فأنظر في الساعة التي تحت الوسادة، وأقرض أسناني من الغيظ، ولكني أتجلد وأقول: (يا صباح الفل، نعم يا ستي. . . هل تريدين أن أفسر لك حلماً؟) فتبتسم - أعرف أنها تبتسم وإن كنت لا أراها - وتقول (هل تريد الشاي خفيفاً أو ثقيلاً؟)
فأتنهد، فإن هذا سؤالها كل يوم منذ عشر سنوات، وأقول لها ما قلت كل يوم في هذه السنوات العشر:
(خير الأمور الوسط يا شيخه!)
فتسأل (نعم؟)
فأقول على سبيل الشرح (متوسط. . لا بالخفيف ولا الثقيل. . ماذا تصنع الست؟)
فتقول: (نائمة)
فأقول: (يا بختها! ليتني كنت الست في هذا البيت السعيد!)
فتقول الفتاة معترضة (يا سيدي!)
فأقول: (اسمعي. . . إذا كنت تحبين ألا أكون الست، فاذهبي إلى هذه الست التي تغط في نومها إلى الآن (الساعة الخامسة) وأيقظيها وقولي لها إني أصبح عليها وأقبل وجنتيها، واسأل عن الشاي الجديد أين خبأته؟ افعلي هذا، والله يحفظك)
والدعاء للخادمة واجب، فما ثم شاي جديد، ولا خبأت الست شيئاً، ولكن لماذا يزعجني كل من في البيت في هذه الساعة المبكرة دونها؟
ويعلو الضجيج، ثم تدخل الست مرغية مزبدة، وهي تصيح بي: (ألا يمكن أن تكف عن هذا العبث؟ حرام عليك يا شيخ. . والله ما نمت إلا ساعتين)
فأقول (كالقطط. . . تأكل وتنكر. . . أنا أيضاً لم أنم إلا دقائق. . . ضاع الليل كله في أحلام. . .)
فتنحي عني اللحاف، وتشد يدي، أو رجلي، وهي تقول (طيب قم. . .)
فأصيح بها (إلى أين؟)
فتقول (وهل أنا أعرف؟ قم والسلام، وليكن هذا جزاؤك على إقلاق راحتي)
فأقول: (اتقي الله يا مسلمة)
فتقول: (ولماذا لا تتقيه أنت؟)
فأؤكد لها أني سأتقيه من الآن فصاعداً، وأرجو أن تتركني أنعم بالرقدة، ولكن هيهات، فقد استيقظ كل من في البيت، فلا سبيل بعد ذلك إلى راحة أو نوم ولكن الساعة قاربت التاسعة في يوم العيد، ومازال البيت ساكتاً على خلاف عادته، فقلقت عليهم ونهضت، ودخلت غرفهم واحدة واحدة، ونظرت في وجوههم وجسست نبضهم لأطمئن، وأردت أن أستوثق وأن أنفي كل شك في أنهم مازالوا أحياء وبخير وعافية، فوضعت أذني على صدورهم - أعني قلوبهم - لأسمع دقاتها، ولم يكفني هذا، فقد كانت بقية من الشك تختلج في صدري، فما رأيتهم يتحركون، فرحت أقرص هذا وأشد أذن ذاك لأرى هل يحسون أو لا يحسون، فقاموا جميعاً فزعين يصيحون ويحتجون، فلما سكنت الضجة قليلاً قلت لهم: (ما هذا النوم؟ قوموا يرحمكم الله وتعالوا هنئوني)
فمشوا ورائي وحفوا بي حيث جلست، وأقبلوا عليّ يسألونني؛ وتعلق بي الولدان اللعينان فرحين، ووقف الباقون ينتظرون أن أفضي إليهم بالسر، فأغرقت في الضحك ثم قلت وأنا أنهض:
(أليس في البيت شيء يؤكل؟ إني أتضور جوعاً)
فقالت الزوجة الصالحة: (شيء يؤكل؟ هل تعني أنك أزعجتنا جميعاً على هذه الصورة الفاضحة، لا لسبب سوى أنك تريد أن تأكل؟)
فقلت: (اسمعي يا امرأة. . . لا تجدفي. . . إن الطعام شيء مقدس. . . لا تذكريه إلا بلهجة الاحترام والتوقير. . . فما خلقنا إلا لنأكل. . . على الأقل هذا ما يبدو لي أنا. . . لا تقاطعي من فضلك. . . أنت تظنين أنك خلقت لتنامي. . . ولكنك مخطئة. . أوه جداً. . . الأكل أحلى، وأوفق، وأليق بالحي. . . أما النوم؟ ما الفرق بالله بين الميت والنائم؟)
فقاطعتني وقالت: (يعني ضحكت علينا وأجريتنا وراءك بعد أن أوهمتنا أن هناك داعياً للتهنئة. . .؟)
قلت: (كلا. . . لم أضحك على أحد. . . أليس اليوم يوم عيد؟ تعالوا إذن قبلوا يدي بأدب، وهنئوني، وادعوا لي بالسعادة وطول العمر. . . مالكم؟)
ولم أسمع جواب السؤال، ولم أعد أعنى بأن أسمعه، فقد شغلت عنه بالنار التي اندلعت في بدني، من القرص الذي انهال به عليّ الكبار والصغار، حتى خيّل إليّ أني في خلية من خلايا النحل، لا في بيت يسكنه آدميون. . .
وقلت وأنا أنظر إلى وجهي في المرآة: (ليتكم تفعلون بي هذا كل صباح. . لقد صار وجهي أكبر. . وأحمر. . وأحلى. . ما شاء الله!)
فقالت الزوجة الصالحة: (كابر. . . كابر. . .)
قلت: (لا مكابرة. . . هي الحقيقة. . . لقد صار خداي كالوردتين. . .)
قالت: (حسن. . . سنصبحك ونمسيك بما يحفظ لك حمرتهما. مستعدون يا أولاد؟)
فصاحوا جميعاً: (أيوه. . .)
فقعدت، وقد نويت أن آخذ بثأري. . .
وكان صباح. . .
إبراهيم عبد القادر المازني