مجلة الرسالة/العدد 234/رجل سعيد

مجلة الرسالة/العدد 234/رجل سعيد

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 12 - 1937


وعدتك أن أقص عليك حديث الرجل السعيد بخلقه ودينه عسى أن تجد فيه ما يبرد غيظك ويرد حلمك ويقر بالك. وهأنذا اليوم أسوق إليك هذا الحديث على سرده:

دخل علي هذا الرجل وأنا مكب على عمل دقيق حافز، فلم يسعني حين رأيت ما عليه من سمت الوقار وسيما الخير إلا أن أدع ما في يدي وأفرغ له

- نعم يا سيدي

- أنا رجل من أهل. . . قرأت ما كتب في الرسالة عن الأخلاق ونكولها أمام الغرائز الوصولية في الإنسان، فسأني وأيم الله أن تشتبه المعالم حتى يضل الهادي، وتعترك الظنون حتى يشك المؤمن. وليس لي قلم أضعه بين هذه الأقلام فيدلها على موضع الحق أو يعينها على مقطع الحكم، فآثرت أن أشخص إليك لأكون أمامك مقالا حيا يقرر، ودليلا ناطقا يؤيد

وفي الحق أن الرجل كان في بزته العربية المهندمة، ولهجته الطبيعية المتزنة، كأنما ينطق عن وحي الفضيلة العليا. فقلت له: أتظن أن الفاضل ينجح بمحض فضله في هذا العصر الآلي الأصم؟

فقال: لا أظن، وإنما أعتقد؛ ولا أنكر مع هذا الاعتقاد أن الفضيلة وعرة الطريق، وأن الخير صعب المرتقى. وفي قول الرسول الكريم: (حفت الجنة بالمكاره)، و (القابض على دينه كالقابض على الجمر) ما يصدق ذلك. ولكن الفضائل تعليم وتعويد ورياضة؛ فإذا أوف غرسها في النشء، وضعف أثرها في المجتمع، دل ذلك على فشل التربية لا على فشل الفضيلة.

أنا رجل واسع الثراء سابغ النعمة؛ وقد جمعت مالي الوفر من ذلك الطريق السوي الذي ألزمني إياه أبي منذ الصغر؛ فليس في نصابه قرش زائف ولا متر مغتصب. ورثت عن أبي الدين الصحيح على أنه دستور الدنيا، والخلق الصريح على أنه جوهر الدين؛ ثم زاولت التجارة بالصدق والصبر فاستغنيت، واقتنيت العمائر والضياع فأثريت، وأديت الصلاة فوصلت ما بيني وبين الله، وآتيت الزكاة فأصلحت ما بيني وبين الناس. ثم أحصنت نفسي بالزواج الباكر فوهبت البنين، وعصمت شهوتي من المتع الحرام فرزقت العافية. وطهرت قلبي من الطمع الحاسد والخصام الحاقد فأوتيت السكينة. ثم جهلت البنك فجهلت الربا والدين، وأنكرت المحكمة فأنكرت العداوة والظلم، ووضعت فضل مالي في أيدي ذوي الخلق من التجار يحفظونه لي ويستثمرونه لهم، وجعلت أرضي في ذوي الدين من الزراع يريعونها علي ويستغلونها عليهم، ومسست بالمواساة والرحمة قلوب البائسين حولي فسللت منها الضغينة؛ ثم كان لي في كل مبرة سهم، وفي كل مستشفى سرير، وفي كل مشروع وطني يد. فأنا أمشي في الناس ملحوظ الشهادة محفوظ الغيب، لا تمتد يد إلى مالي لأنه مبذول للسائل والمحروم، ولا ينبسط لسان في عرضي لأن جاهي موقوف على العاطل والمظلوم، ولا يأتمر أحد بحياتي لأن وجودي أمان للشقي من البؤس والجريمة

أما سعادتي في نفسي وولدي فهي أعظم وأتم من سعادتي في عملي ومالي: أجدني كنف الرجاء لكثير من الأسر الفقيرة، ومصدر العزاء لطائفة من القلوب الكسيرة؛ وأرى في كل نظرة وفي كل بسمة وفي كل كلمة معاني لا تتناهى من العرفان والحنان والشكر، فتعظم سعادتي في نفسي، وتجمل دنياي في عيني، ويغمرني شعور من عزة المؤمن وزهو الخاشع، لأن حياتي لها هذا الخطر في حياة بعض الناس. ثم أنظر إلى بني الثمانية فأرى في وجوههم صورتي، وفي صدورهم محبتي، وفي شعورهم عاطفتي، وفي ميولهم رضاي، وفي آمالهم مناي، فأقبل يدي ظاهرا وباطنا وأقول لنفسي: احمدي الله واشكريه فإن عليا لن يموت، وإن ثراءه لن يبيد، وإن بناءه لن يتقوض!

ذلك كله يا سيدي بفضل الخلق. فإذا كان قد تهيأ لمثلي على جهله بقواعد المدنية وضروريات العلوم أن يجمع بمعونة الله وحده هذه الثروة الضخمة وليس له رأس مال من إرث ولا فيض رزق من حكومة، وإن ينال هذا الجاه العريض وليس له نسب عريق في أسرة ولا سبب وثيق إلى سلطان، وأن يخلق من حوله هذا النعيم المقيم فيغرق فيه أهله وعشيرته وبيئته، وأن يرفع بناء الأخلاق الفاضلة في بنيه بالتربية وفي أهله بالقدوة وفي مواطنيه بالتقليد، فكيف لا يستطيع معلمو المدرسة ووعاظ المسجد ومشرعو البرلمان أن يخلقوا في كل مكان هذه البيئة وتلك الجنة فيصلح المجتمع ويسعد العالم؟

فقلت له وقد أعجبني عقله وأمتعني حديثه: يا سيدي، إن من سعادتك وسعادة الناس بك أنك صاحب عمل لا صاحب علم، ورجل عزيمة لا رجل رأي. ولو كنت من كهنة العلم لصعدت إلى قدس الأقداس وظللت تقرأ الفلسفة والأخلاق لرياضة العقل أو للذة المعرفة أو لشهوة الجدل، ثم رميت الناس من عليا سمائك بالآراء المتعارضة والأحكام المتناقضة لتصطرع في المطابع حينا ثم تموت في الكتب

لا يزال المربون يا سيدي يجادلون في أغراض التربية ويجربون نظرياتها المختلفة في حقولهم الخاصة. فليت شعري وشعرك أيتاح لهؤلاء في دهر من الدهور أن يقبضوا على أعنة الأمم ويتولوا القيادة في ركب الحياة!؟ أدع الله للناس أن يلهمهم من الحق ما ألهمك، وأن يعلمهم من قواعد الخير ما علمك!

قال صاحبي الثأر وقد شبا وجهه بشي من الإيمان والاطمئنان: وهل تستطيع أن تعد كثيرا من الناس على غرار هذا الرجل؟ فقلت له: يا صاحبي! ليست المسألة مسألة إحصاء وعد، إنما هي مسألة إمكان وواقع. ومتى ثبت أن الأخلاق الفاضلة استطاعت أن تصنع من هذا الرجل هذا المثال، فلم لا تستطيع أن تصنع غراره ملايين من الرجال؟

أحمد حسن الزيات