مجلة الرسالة/العدد 235/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 235/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 01 - 1938



أبو تمام والمقتطف

لأستاذ جليل

قالت مجلة (المقتطف) الغراء في حديثها عن كتاب (أخبار أبي تمام) للصولي: (أبو تمام أمير من أمراء العصر العباسي، خرج لأهل عصره بجديد لم يألفوه فخرجوا عليه، وساعد في ذلك وجود البحتري فناصره الناس، وفضلوا رقته ورشاقة ديباجته على تعاظل أبي تمام وتعمقه، وطالت الخصومة، وكسب الأدب منها ما كسب من كتب النقد، وكان مما كسبه كتاب الصولي الذي أراد به الانتصار لأبي تمام على كتاب الآمدي (الموازنة بين أبي تمام والبحتري) الذي ناصر فيه مؤلفه البحتري.

قول المقتطف: (أبو تمام أمير من أمراء العصر العباسي) فيه بعض التسامح، فما كان حبيب أميراً من الأمراء، وما ترفعه عندنا إمارة، ولن تخفضه قروية؛ وفلاح عامل أو عالم خير من آلاف من أمراء أغبياء كسالى، وقد كان ابن آوس فلاحاً ابن فلاح من قرية جاسم.

قول المقتطف: (خرج لأهل عصره بجديد لم يألفوه فخرجوا عليه) فيه لبس كثير، فقد جاء أبو تمام بما جاء به ورأى الناس إبداعاً ونبوغاً وعبقرية فبهرهم ذلك واستجادوه واستجزلوه وتقبلوه (ولم يخرجوا على صاحبه) ولم ينكر ذاك الشعر العلوي العبقري ولم يعبه إلا جاهل أو حاسد أو عدو. ومتى تخلص النابغون أو العبقيريون من مناكرين ومعادين؟ وإن عاب الطائي مثل ابن الأعرابي ودعبل فقد أجله أيما إجلال مثل المبرد وابن الزيات. وقصة أرجوزة حبيب وابن الأعرابي (وهي مشهورة) تبين مقدار العداوة إذا اشتدت وجارت. ودعبل، أقواله وأهاجيّه مساخر دعبلية. . . وقد أعلن أبو الفرج في كتابه (الأغاني) والصولي في (أخبار أبي تمام) مقاصد ناقدين في نقدهم حبيباً. قال أبو الفرج: (هم أقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه، ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك ليقول الجاهل إنهم لم يبلغوا علم هذا وتمييزه إلا بأدب فاضل وعلم ثاقب) وقال الصولي: (صنف أَلَف في الطعن عليه كتباً ليجري له ذكر في النقص إذ لم يقع له حظ في الزيادة، ومكسب بالخطأ إذ حرمه من جهة الصواب) وإن شاعراً أخمل في زمانه خمسمائة شاعر - إلا واحداً - كلهم مجيد لا يستبدع أن يعاديه معادون، وينبحه شويعرون، وينغ عليه ويغلي شعراء مبرزون. ومن يقرأ شعر ابن الرومي في البحتري يستعجب ويستغرب في الضحك، يقول في مقطوعة خلاصتها: (أن الشاة لا تجزع من ألم الذبح ولا السلخ لكنها تشفق أن يكتب في جلدها شعر البحتري).

قول المقتطف: (فناصر الناس البحتري وفضلوا رقته ورشاقة ديباجته على تعاظل أبي تمام وتعمقه) هذا القول هو الظلم العبقري، وللمعاظلة معانٍ كلها شر؛ والتعمق هنا هو التنطع. وهذا تصوير لشعر ابن أوس مستشنع، ووصف منكر. ولو قالت (المقتطف) وفضلوا رقة البحتري على جزالة أبي تمام لاقتربت من الحق، فقد قال صاحب (المثل السائر): (أعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر، فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دماثة ولين أخلاق ولطافة مزاج؛ ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم، واستلأموا سلاحهم وتأهبوا للطراد. وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي) وهي طبيعة المرء (أو مزاجه) تدعوه إلى طريقة في القول بل عقيدة في الدين فيستقيد لها ويستجيب. ولن تضير ذا الرقة رقته، ولن تعيب ذا الجزالة جزالته؛ وقوة حبيب ما حرمته لطفاً، وسهولة البحتري ما منعته فحولة. فوصف صاحب المثل هو قول عدل في شعر الطائيين من جهة الألفاظ؛ وأما من جهة (الاستخراجات اللطيفة والمعاني الطريفة) كما يقول المبرد أو لطف المعاني وسموها أو العبقرية الشعرية، فالبحتري دون أبي تمام، والوليد في ذلك تلميذ حبيب. وما أصدق البحتري إذ يقول: (أنا والله تابع لأبي تمام، لائذ به، آخذ منه، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه) وفي (الموشح): (سرقات البحتري من أبي تمام نحو خمسمائة بيت) وعندي أنها أكثر مما قال. وهنا نكتة تروي في هذا المقام: رآني ذات يوم أديب شاعر أقرأ في كتاب فقال: ما هذا؟ قلت: شرح ديوان أبي تمام. فلما أبصر الكتاب وعرفه قال: هذا ديوان البحتري. قلت: نعم. ففهم النكتة. وليس القصد من هذا الكلام تنقص البحتري وتهجينه، بل تقرير الحق وتبيينه. والبحتري هو صاحب القول الطل الجميل، وهو في الشعر العربي ثالث ثلاثة ما جاء قبلهم ولا بعدهم مثلهم. وأستاذ الاثنين - على إبداعهما وعلوهما - هو حبيب. وإن شئت فقل كما قال المتنبي: (حبيب أستاذ كل من قال الشعر بعده) وأبو الطيب يدري بما يقول، ويعرف ما يعني، وهو خريجه وإن لم يجثُ بين يديه، ومعاني أبي تمام في أبيات المتنبي سوافر غير متلثمات، ينطقن بالحق فصيحات.

وعناية حبيب بألفاظه مثل عنايته بمعانيه لا كما جاء في (موازنة الآمدي): (إن اهتمامه بمعاينة أكثر من اهتمامه بتقويم ألفاظه، وأنه إذا لاح له المعنى أخرجه بأي لفظ استوى من ضعيف أو قوي) فإن هذا قول باطل، الحق يعانده، والأدلة تدحضه، وسبك حبيب العجيب يكذبه؛ فليس في العربية شاعر احتفل في المعنى واللفظ معاً احتفال أبي تمام، فهو إذا غزا المعنى العالي أنزله من اللفظ في خير مكان؛ فهو محكم المعنى مرصّن اللفظ (وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف الجزل لفظ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة، ولا النظام متسقاً؛ وتضاؤل المعنى الحسن تحت اللفظ القبيح كتضاؤل الحسناء في الأطمار الرثة). وفي (العمدة) لابن رشيق قال: (قال بعض من نظر بين أبي تمام وأبي الطيب: إنما حبيب كالقاضي العدل يضع اللفظة موضعها، ويعطي المعنى حقه بعد طول النظر والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع يتحرى في كلامه ويتحرج خوفاً على دينه؛ وأبو الطيب كالملك الجبار يأخذ ما حوله قهراً وعنوة، أو كالشجاع الجريء يهجم على ما يريده لا يبالي ما لقي، ولا حيث وقع)

وقد حقق حبيب جل شعره، وأحكم نظم أكثره، وله المتوسط، وله الرديء، والجيد جيد، والغث غث، فصف كلاً بصفته، ولا تلبس الحسن بالقبيح، وخذ الطيب وذر الخبيث، (وليست إساءة من أساء في القليل وأحسن في الكثير مسقطة إحسانه) كما قال أبو الفرج

قول المقتطف: (وكان مما كسبه كتاب الصولي الذي أراد به الانتصار لأبي تمام على كتاب الآمدي: الموازنة بين أبي تمام والبحتري) فيه تسامح كثير، فقد ألف الصولي كتابه والحسن ابن بشر الآمدي شادٍ لم يجادل ولم يوازن ولم يؤلف شيئاً. وليس في الكتابين دليل على أن أحدهما قصد مناقضة الآخر. فالصولي ينعى على جماعات مقالات لهم زائغة، والآمدي يوازن بين الطائيين وضلعه مع الوليد على حبيب. وممن يعنيهم الصولي أدعياء في الأدب أو علماء من دعاة القديم، والآمدي أديب يكبر الشعراء المحدثين.

المقتطف مجلة أجلها، وكيف لا أعظم صحيفة منشئها علامة العرب ومعلمهم (الدكتور يعقوب صروف) لكنها قالت فقلت.

قارئ