مجلة الرسالة/العدد 235/فلسفة التربية

مجلة الرسالة/العدد 235/فلسفة التربية

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 01 - 1938



كما يراها فلاسفة الغرب

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 5 -

الديمقراطية والحياة المثلى

(أية قطعة من الخليقة هو الإنسان؟ كم هو عظيم في عقله وليس بمحدود في ملكاته؟ وكم هو رائع وسريع في صورته وحركته؟ وكم هو كالملاك في عمله وكالإله في فهمه؟ إنه جمال العالم وتاج الحيوان!!)

شكسبير - هملت.

(على التربية اليوم أن تصلح الأخطاء التي فشلت السياسة في إصلاحها، وأن تخدم قضية الديموقراطية أفضل خدمة).

,

عرضت عليك في المقال السابق ألواناً من أغراض التربية وصوراً، وأشرت إلى دقة الموضوع وصعوبته، ثم تركته مفتوحاً لرجال التربية في الشرق كيما يدلي كل منهم فيه برأيه الخاص؛ وأعود اليوم فأجول بك في (الحياة المثلى) ما دمنا نريد من التربية أن تعدنا لمثل تلك الحياة. . .

ولكن ترى ماذا عسى أن تكون هذه (الحياة المثلى) لذلك (الإنسان العظيم) الذي تصوره شكسبير؟؟ وأي علم من العلوم، أو فن من الفنون، يصلح للخوض في ذلك الموضوع غير الفلسفة والشعر؟؟ ومن أين تستمد التربية هذه الحياة إذا هي لم تستمدها من الفلسفة والشعر؟؟

الحق أن الناس قد اختلفوا وما زالوا يختلفون في تصورهم للحياة، وأن الفلاسفة والشعراء قد تباينوا تباينا عظيما فيما قد رسموه لها من (مثل عليا) دافعوا عنها ودعوا الناس إليها! وأنت ترى بعد ذلك أن الموضوع خطير كل الخطورة ما دامت حياتنا هنا واحدة لا عودة لها ولا تكرار! إذن فيم تقوم (الحياة المثلى)؟ أفي الزراعة وحكمة الأقدمين كما يقول (غاندي)؟ أم في السرور كما يزعم (ماتيو أرنولد)؟ أم في العمل بالتئام مع إرادة حاكم الكون كما يردد (زينو)؟ أم في النشاط الفكري الدائر حول أسمى موضوعات الفكر - وهو الله - كما يؤكد (أرسطو)؟ أم في إشباع الحاجات الطبيعية دون إفراط أو تفريط كما يطالب (سبنسر)؟ أم في التأمل في الجمال المطلق كما يسمو (أفلاطون)؟ أم في حياة الفضيلة كما نصح الرواقيون؟، أم في الحياة الطبيعية البعيدة عن العلم والفن كما صرح (روسو)؟ أم في أداء الواجب فحسب كما ألح (كانت)؟

تلك جمعياً تصورات (للحياة السعيدة) فيها من التشابه والاختلاف الشيء الكثير. ولقد حاول (ديوي) في نزعته الاجتماعية الجارفة أن يدلي برأيه في الموضوع فقال: (إن السعيد من الناس هو من ينظر إلى قوى نفسه من ناحيتها الاجتماعية فلا يدبر أمراً أو يرغب فيه إلا بالإشارة إلى أثره في الجماعة التي هو جزء منها. ذلك أن سعادته إنما تقوم في تنمية (النشاط الاجتماعي) دون النظر إلى ما عسى أن يكون في ذلك من لذة أو ألم) ومعنى ذلك أن الإنسان - مهما سما في الفكر أو اغتنى بالمادة - لا يستطيع أن يتذوق السعادة الحقة إلا في ظل الجماعة التي هو جزء منها، والتي لها عليه واسع الفضل وعظيم النعمة؛ وليست هذه النزعة في الواقع إلا صدى لتيار (الديمقراطية) الذي أغرق بأمواجه المدوية الجارفة خرافة (التفريق بين الناس)، وحمل (الشعب) على ظهره إلى فردوس الكرامة والرقي!

وماذا عسى أن تكون هذه الديمقراطية؟ وماذا عسى أن تكون تطبيقاتها في التربية؟

أما هي فيعرفها (ديوي) بأنها (حكم الشعب لأجل الشعب وبالشعب)! ويفسرها بأنها اشتراك الأفراد في المصالح العامة بحرية تامة وفي دائرة الخير العام؛ هذا بينا يعرّفها (باستور) (بأنها النظام الذي يمكن الجميع من تحقيق أقصى مجهوداتهم).

وأما تطبيقاتها في التربية وفي غير التربية فخطيرة وعظيمة بحيث لا يكاد يتسع لها مثل هذا البحث. . . وحسبك أن تعلم آثارها في نظام الحكومة، ونظام العمل والعمال، ونظام التعليم الشعبي، بل نظام العالم كله كما يتصوره السلميون العالميون لتعلم حقيقة ما أقول:

وهاهو ذا (وولف يشترط في أعمال الفرد الديمقراطي أن (تكون شائقة جذابة وإلا دفعت به إلى الفساد الخلقي)! وهاهو ذا (هوبهوس) يحرم الحرب في الديمقراطية لأنه يراها تقتل (الحرية)، وهذه - كما تعلم - أساس الديمقراطية.

بل هاهو ذا الأستاذ يرى مع (ديوي) وغيره أن الديمقراطية يجب أن تسود التربية في جميع مراحلها وتطبيقاتها ويرجو من التربية ذاتها أن تكون خير مساعد في نشرها كيما تستطيع غدا أن تصلح تلك (الأخطاء الهائلة) التي رزح العالم تحت أثقالها سنين طوالاً، وكان الجاني عليه فيها سياسة عمياء، ونزعة حمقاء، وجهل مطبق!

تطبيقات الديمقراطية على التربية

وما دمنا هنا إزاء التربية فلا بد من أن نجعلها صالحة لخلق ذلك المجتمع الديمقراطي المنشود - لابد من أن نجعلها تعد الفرد لا لملء مركز خاص كما كان الحال في (خرافة الطبقات)، بل لخلق مركز مناسب يعمل فيه كوحدة مرنة متسقة محترمة قادرة على مواجهة التغير المنتظر في كل وقت، وغير خاضعة لسياسة تعسفية مفروضة!

ولم ذلك؟ ألم تفشل مدارسنا الراهنة في تعليمنا أن الحياة مغامرة فيها من المفاجآت القاسية بقدر ما فيها من المداعبات الهينة؟ ألم تخرج لنا أولئك المتكبرين المتعجرفين الذين لا يصلحون لشيء غير ملء المقاعد وتسويد الأوراق، والذين تقوم بينهم وبين الشعب هوة من الإنسانية الكسيرة، والكرامة المهيضة والشرف المذبوح؟

نريد إذن عالماً أحسن؟! عالماً لا تثور فيه الحرب، ولا تطغى الآلة، ولا يذبح فيه (العلم المادي) الإيمان فيؤخر السمو الخلقي ويعوقه عن اللحاق بالتقدم العلمي!! عالماً لا يدخل عليه التغير الحتمي فيغرق أبناءه في جحيم من الفوضى كما نرى في كل مرحلة انتقال تجتازها أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات!!

وسبيل ذلك كله هو تحويل (المدرسة والتدريس) إلى (شيء آخر) تنمو فيه شخصية الطفل، وتقوى على مواجهة الظروف، وتكون مرنة لا تأسرها العادات، وذات فراغ كاف بريء يكسبها حكمة العلم ورقة الفن ويسمو بها فوق الآلات!! ذلك إلى عمل (مفهوم) وشائق وجذاب، وإلى ثقافة راقية تفهم صاحبها مركزه في الكون ووظيفته في الجماعة التي يجب أيضا أن تكون مفهومة لديه!! ثقافة خالية من (لصوص التاريخ وسفاكيه) كما يقول هازئاً (برناردشو) وبذلك يكون لدينا عضواً فعالاً، متعاوناً مستقلاً، عادلاً، يحترم المعارضين، ويشك، وينقد، ويجازف، ويسمو في إنسانيته فوق العجماوات، عضواً يرى السلاح حقارة كما يقول (برتراند رسل)، ويمقت البدع الدينية ومروجيها من ذوي الطيالس واللحى، عضواً كله إقدام وتفاؤل وأمل، لا خوف وتردد ويأس. . .

وستسأل بعد ذلك عن الأساس الفلسفي الديمقراطي؟! وسأجيبك أن الله الذي خلق الإنسان (على مثله وصورته) ما كان ليرضى له ذلاً أو استعباداً، أو أي مظهر آخر من مظاهر الاستبداد الذي يخمد إنسانيته ويعوقها عن كمالها المنشود.

أوَ ليس (الإنسان) عظيماً في عقله، وغير محدود في ملكاته، ورائعاً في صورته، وسريعاً في حركته؛ وكالملاك في عمله، وكالإله في فهمه؟ لأنه جمال العالم وتاج الحيوان؟

إذن فما لنا نأبى عليه إنسانيته الرفيعة هذه، ونلقي به في هوة فيها ما شئت وما لم تشأ من حيوان وشيطان؟

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية