مجلة الرسالة/العدد 235/ليلى المريضة بالعراق
مجلة الرسالة/العدد 235/ليلى المريضة بالعراق
للدكتور زكي مبارك
- 4 -
- ضابط في الجيش العراقي أبوه من مصر وأمه من لبنان؟ كيف اتفق ذلك يا ضمياء؟
- لذلك يا سيدي تاريخ. . .
- انتظري قليلا. . . قبل أن ندخل في تاريخ ليلى مع الضابط عبد الحسيب، أحب أن أسال: هل كان حبها ذلك الضابط أول حب؟
- نعم يا سيدي أول حب.
- منذ كم سنة أحبت ذلك الضابط؟
- منذ أثني عشر عاما.
- تذكري يا ظمياء أنك قلت إن ليلى في حدود الأربعين فهل يُعقل أن تظل عذراء القلب إلى الثامنة والعشرين؟
- نعم يا سيدي، وما أقوله تشهد به الست جميلة، وتعرفه الخالات والعمات والجارات في شارع العباس بن الأحنف وشارع صريع الغواني.
- ولكن هذا غير معقول، فما يمكن أن تظل فتاة عذراء القلب إلى الثامنة والعشرين!
- أنت يا سيدي غريب بهذه المدينة ولا تعرف النساء في بغداد.
- بغداد في عينك يا ظمياء! وهل بغداد تحمى المرأة من أن تكون لها عين تنظر وقلب يميل؟
- أؤكد لك يا سيدي أن ليلى لم تحب أحدا قبل الضابط عبد الحسيب.
- ولكن كيف اتفق أن تظل بلا زوج إلى الثامنة والعشرين؟
- لقد حفيت أقدام الخاطبين وهي ترفض بلا سبب معقول.
(فدونت في مذكرتي أن الفتاة التي ترفض الزواج، ويطول بها ذلك، لابد أن تكون أصيبت بنوبة حب، ولا بد أن يكون ذلك الحب صور لها فحولة الرجل في صورة فلسفية أو أدبية، ولكن هذا الحب سيظل مجهولا ما دامت ليلى تكتمه، وما دام النساء اللائى يحطن بها يتمتعن بقسط وافر من الغفلة، على قلة ما نرى من النساء الغافلات. ويظهر أن موقف سيكون دقيقا في المؤتمر الطبي، لأن المؤتمرين سيسألون عن الصور الفلسفية والأدبية لفحولة الرجال في أخيلة النساء، ولكن لا بأس فهي فرصة طيبة لشرح آراء شيث بن عربانوس في هذه القضية. على أني سأجد مفاتيح هذا السر المدفون حين أقف على قصة الضابط عبد الحسيب، وربما كان من الخير أن أرجع إلى البحث الممتع الذي نشره الدكتور عبد الواحد بك الوكيل عن أثر الحب في الأمراض العصيبة).
- دكتور! ماذا تكتب؟
- اسمعي يا بلهاء.
- هذا جزاء من يصنع الجميل!
- أستغفر الله! إنما أردت أن أقول اسمعي يا ظمياء. أنا يا بنيتي أقيد ملاحظات تنفعني في مداواة ليلى؛ ومرضها كما تعلمين عصيب، وأحب أن أستعد لمداواتها أتم استعداد، والله المعين.
(ولكن ألا يمكن أن يقال إن ليلى مرضت في صباها بالغفوة الروحية، ولم تفق إلا في الثامنة والعشرين؟ ومن يصدق حديث الغفوة الروحية؟ لقد كنت الطبيب الوحيد الذي استكشف هذا المرض الخبيث، وألقيت عنه محاضرة في باريس بعد أن أديت الامتحانات النهائية في الطب، ثم نشرت خلاصة بحثي في المجلة الطبية المصرية، ولم أظفر، واأسفاه، بغير السخرية يواجهني بها زملائي في مصر، ويراسلني بها أساتذتي في باريس).
- دكتور، ألا ترى كيف أقفقف من البرد؟
- اسمعي يا بلهاء، فما عندي لك دفء.
(وما الذي يمنع من انتهاز هذه الفرصة الثمينة، فرصة انعقاد المؤتمر الطبي في بغداد، لإعلان نظرية الغفوة الروحية بطريقة دولية؟ إن الشواهد تحت يدي، فأنا أعرف ناسا بأعيانهم انخرطوا في سلك الكهنوت وهم شبان، وعاشوا عيش الطهر والعفاف إلى سن الثلاثين. ثم استيقظت أرواحهم فجأة فهربوا من الكنائس والصوامع وأقبلوا على الدنيا إقبال المنهومين، ومنهم صديقي فلان الذي عرفته في حانات مونمارتر سنة 1927 وصديقي فلان الذي عرفته في مرقص الكوبول سنة 1933، ولكن كيف أقول هذا الكلام في المؤتمر الذي يعقد في بغداد وأنا أشتغل بالتعليم في بغداد؟ الخطب سهل: أنا أتكلم في المؤتمر باسم الدكتور مبارك الطبيب، والناس جميعا يعرفون أني أحرزت الدكتوراه في الطب قبل أن أحرز الدكتوراه في الآداب).
- دكتور، أروح؟
- وين تروحين؟ اجلسي يا بلهاء.
- أنا اسمي ظمياء.
- اجلسي يا ظمياء.
(ولماذا أفضح نفسي في المؤتمر بأحاديث مونمارتر ومونبارناس؟ لماذا لا أكتفي بالشواهد التي أعرفها في مصر؟ ألم يكن صديقنا فلان من أعف الناس في صباه؟ ألم يكن يحوقل ويستغفر ويسترجع حين يطرق أذنيه بيت من النسيب؟ رحمة الله على أيامه الطيبات، أيام كنا نتقرب إلى الله بتقبيل يمناه! فمن يصدقني اليوم إذا قلت إنه كان في صباه فتى عفيفا؟ وكيف يصدقني الناس إذا ادعيت ذلك وهو اليوم ألطف ما جن وأظرف عربيد؟!).
- دكتور!
- اخرسي يا بنت!
- شنو؟
- ما أدري شنو!!
(إن حال ليلى في جوهره يرجع إلى فرضين: الفرض الأول أن تكون رأت في مطلع صباها صورة مست شغاف القلب ثم اختفت تلك الصورة، وظلت المسكينة تترقب ملامحها في أوجه الخاطبين بدون أن يتحقق لها رجاء، فلما وقع بصرها على الضابط عبد الحسيب رأت فيه ملامح الحبيب الضائع فأقبلت عليه وقد استيقظ هواها القديم يقظة مرعبة ضجت لها بغداد؛ والفرض الثاني أن تكون أصيبت بالغفوة الروحية، ذلك المرض الخطر الذي تفردت باستكشافه والذي سيجعل لي مقام صدق في عالم الطب، وقد عاشت المسكينة تحت سيطرة هذا المرض إلى أن بلغت الثامنة والعشرين ثم عوفيت فجأة، فكانت عيناها الناعستان وابتسامتها الساحرة من نصيب الضابط عبد الحسيب).
- دكتور! طال مقامي عندك، وليلى ستظن الظنون!
- أي ظنون يا ظمياء؟ - قد تحسبك كالطبيب فلان الذي خُرِّبت عبادته بسبب امرأة ألمانية كانت تزوره في العشيات.
- وأنت تلك الألمانية يا ظمياء؟ ما هذا الغرور الفظيع الذي لا تخلو منه امرأة شوهاء!
(وهنا ضحكت المرأة جميلة ضحكةً رجت أركان البيت).
- اعقلي يا ظمياء! أنا رجل غريب، والغريب يدخل سجن الفضيلة وهو راغم. فأنت في حماية هذا التخوف، تخوف الغريب من قالة السوء. وسأعيش في بلدكم ما أعيش، ثم أخرج بأذن الله وأنا أبيض الصحائف وضاح الجبين.
- هل معنى ذلك أني في أمان؟
- في أمان يا ظماء، سبحان الله!
- أنت تهينني! فأنا عندك فتاة شوهاء لا تهيج الغواية في قلوب الرجال!
(وهنا دونت في مذكرتي أن المرأة لا يسرها أن تكون في أمان، لأنها لا تكون في أمان إلا حين تزهد فيها القلوب. وأشهد أن ظمياء فتاة شريفة، ولكن تغلب عليها نزعة الجنس، فهي تحب أن يكون شرفها بفضل التصون، ويؤذيها أن تصل إلى الشرف عن طريق الزهد، الزهد فيما تدعيه لنفسها من حسن مرموق).
- دكتور، أروح؟
- وين تروحين؟ حدثيني عن قصة ليلى مع الضابط عبد الحسيب.
- كانت بداية القصة في سنة 1926 حين ثار حزب الشعب على المرحوم عبد المحسن عبد المحسن السعدون، وكانت الجرائد العراقية أطنبت في وصف المعرض الزراعي والصناعي الذي أقيم في الجزيرة بالقاهرة في ذلك التاريخ، وكانت ليلى ضجرت من ضجيج السياسة في بغداد فاستأذنت والديها رحمهما الله لترى ذلك المعرض علها تنسى ضجيج بغداد، فرفض أبوها، وشجعتها أمها، والمرأة تغلب الرجل حين تشاء، فلم ينتصف شهر آذار، شهر الأزهار والرياحين، إلا وليلى تطالع سِفر الحياة على شواطئ النيل وطن مولاي الطبيب.
(للحديث بقية)
زكي مبارك