مجلة الرسالة/العدد 238/ليلى المريضة في العراق

مجلة الرسالة/العدد 238/ليلى المريضة في العراق

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 01 - 1938


للدكتور زكي مبارك

- 7 -

وعند هذا الحد من الحديث تذكرت ليلى

تذكرت العبارة البغدادية الطريفة التي طلت بها قلبي منذ أول زيارة، فقد قالت حين رأتني أهم بالرواح:

(فراقك صعب، سيدي)

ورأيت من الخير أن أصرف ظمياء. وكانت لي سياسة أوحاها الشيطان، فقد رأيت الفتاة تقص أحاديث الشيخ دعاس وزوجته نجلاء بحماسة سحرية، ورأيتها تطنب في وصف ابنتهما الجميلة، تلك الفتاة التي اسمها درية، وهو اسم لا أدري كيف يلذع قلبي، ولكن لا موجب للمضي في سماع ما تقول ظمياء في وصف درية، فليس من الحزم أن تقول ظمياء كل ما عندها في ليلة واحدة. وهل أضمن رؤيتها بعد ذلك إن تم هذا الحديث؟ من الخير أن أصرف هذه الفتاة وهي في نشوة الحديث فلا أتعب في رَجْعها إلى منزلي حين أشاء

ولكن كيف أصرفها وقد استأنست كل الاستئناس؟

يجب أن أصرفها بعلة طبية لتتهيأ للمرض، فقد أمسيت أشعر بوجوب أن تصبح هذه الفتاة من مرضاي؛ ولا بد للطبيب من مريض؛ وستعافى ليلى بإذن الله، فلتكن لي ذخيرة ألتمس بها البقاء في بغداد. وكذلك صوبت بصري إلى الفتاة وقلت:

ما هذا الذي أرى بوجهك يا ظمياء؟

فانزعجت الفتاة وقالت بصوت مقتول: إيش بي يا عمي؟

فقلت وأنا أتكلف الحزن: سأخبرك يا بنيتي حين أجيء لعيادة ليلى. فاذهبي الآن واستريحي، وتجنبي التعرض للتيارات الوجدانية

فخرجت الفتاة مذعورة لا تُلوى على شيء. والجمال الساذج يفتن القلوب حين يكرثه الانزعاج

فراقك صعب، سيدي

كذلك قالت فراقك صعب. . .

أي والله، فراقي صعب، يا ليلى، وفراقك أصعب. فمتى يكون اللقاء؟

وأويت إلى فراشي في ليلة باردة لم يدفئها غير الذكريات. ثم خرجت مبكراً في الصباح فرأيت بغداد تموج بالحديث عن ليلى والدكتور زكي مبارك وانتخاب مجلس النواب

أعوذ بالله!

ثم سألت فعلمت أن مجلة الرسالة نشرت كلمة عن ليلى المريضة في العراق، فتذكرت الخطاب الخاص الذي أرسلته إلى الأستاذ الزيات منذ أسابيع. وما أتهم هذا الصديق بسوء النية في نشر ذلك الخطاب، فهو رجل عاش سنين في بغداد ولم ير ليلى بعينيه، فهو يحب أن يراها مع قرائه بأذنيه، تأسياً بقول الشريف الرضي:

فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي

ومضى يوم، ويوم، وأيام، وأنا طعمة الألسنة والعيون في كل مكان

وكانت فرصة تذكرت فيها ما جنيت على نفسي في السنين الخوالي، فقد كنت عدو نفسي من حيث لا أريد. أنا الطبيب الذي أضاعه الأدب فلم يبق أمامه غير احتراف الصحافة والتعليم. ولولا جناية الأدب لكنت اليوم عميد كلية الطب بالجامعة المصرية، وأنا عند المنصفين أعرف بالطب من العميد المعروف

تذكرت وتذكرت. . .

تذكرت العيادة التي أقمتها في الزمالك مع زميلي الدكتور أديب نشوان، وهي عيادة كان يُرجَى أن تكون مضرب المثل في عالم الطب، ولكن مقالاتي في جريدة البلاغ جنت علي فلم يعد أحد يصدق أنني طبيب

وتذكرت مجلة (طبيب القلوب) وكانت والله مجلة لطيفة، ولكني تفلسفت في الدراسات النفسية، ثم ما زلت أوغل في التفلسف حتى حسبني القراء من العابثين؛ وعطلت المجلة، ولا تزال إلى اليوم في نزاع حول ما تراكم عليها من ديون

وقد نجا زميلي بجلده، وكيف لا ينجو وهو جبان! وبقيت أنا أضع الدينار بجانب الدينار لأتخلص مما جناه قلمي البليغ!

يرحمك الله يا أبي! فكم نصحتني ولم أنتصح! كم قلت إن الطبيب لا يليق به أن يتحدث في أشعاره عن الخدود والعيون والنحور والثغور، ولا ينبغي له أن يتفجع على مواسم الروح في مصر الجديدة والزمالك. ولكني أحسنت الظن بالناس فانطلقت أشدو وأترنم، فكان جزائي أن أعيش عيش المشردين بين القاهرة وباريس وبغداد

تذكرت وتذكرت لو تنفع الذكرى!

تذكرت العيادة الجميلة التي أقمتها في شارع فؤاد بعد أن خُرِّبت عيادتي بشارع المدابغ بسبب السيدة (ن)، وكانت عيادتي بشارع فؤاد تبشر بمستقبل رائع، فقد كانت مجهزة على أحدث طراز، وكان فيها ممرضة جميلة تخلب عقول النساء قبل أن تخلب عقول الرجال؛ ولكن الله ابتلاني بطائفتين من الناس كانوا السبب في خراب تلك العيادة الفيحاء: الطائفة الأولى جماعة الأصدقاء الذين يرون من حقوق الصداقة أن أداويهم بالمجان. أما الطائفة الثانية فهم الأدباء الذين جعلوا عيادتي سامراً يلتقون فيه كل مساء. وفي تلك العيادة تألفت رابطة الأدب القديم وجمعية عطارد وأصدقاء أفروديت. وفي تلك العيادة قامت المعارك بين القديم والجديد، وفيها نظم أول مؤتمر لكليات الجامعة المصرية، وفيها أسست نقابة المحبين

وما لي أكتم حقائق التاريخ؟ إن هذه المذكرات لن تنشر في حياتي، ولن يراها الزيات ولا غير الزيات. فلأدون فيها كل شيء وليقل الناس بعدي ما شاءوا؛ فسأكون في شغل عنهم بما أعد الله للأشقياء من نعيم الفراديس. وهل يُرضي الله في كرمه أن نشقى في الدارين؟

كانت عيادتي بشارع فؤاد هي الملاذ لكل أديب لا يجد في جيبه خمسة قروش يجلس بها جلسة لطيفة في مشرب. . . أو مشرب. . . أو مشرب. . . ولا موجب لذكر أسماء هذه المشارب فأصحابها لئام لا يستحقون الإعلان، وأخشى أن يعيشوا بعد أن أموت. أليس فيهم الرجل اللئيم الذي استقبل في حانته صديقي. . فلما انصرف سألني عن اسمه فطويته عنه. وكان اللئيم يريد أن يعرف ما هو اسم ذلك الشاب الذي يخاصر تلك الشقراء؟ وكان ذلك الصديق من كبار الموظفين بوزارة. . .

إن القاهرة ليس فيها مشرب أمين يلقى فيه الرجل حبيبته وهو في أمان من عيون الرقباء

وهذا الكلام الذي أدونه في مذكراتي هو السبب في خرابي، فأنا طبيب دقيق الإحساس، ودقة الإحساس في زماننا من أشنع العيوب. ومن حسن الحظ أن هذا الكلام سيُطوى إلى حين، لأني سأدفن مذكراتي بالمكتبة العامة في بغداد، ولن يطلبها مجلس كلية الآداب بالجامعة المصرية إلا بعد مئات من السنين. وستكون لكلية الآداب جهود مشكورة في درس النثر الفني في الأدب الطبي!

ألا فليعلم الجمهور الذي يخلفنا بعد مئات السنين أن الأدب أضاع ثلاثة من الأطباء كانوا يعيشون في مصر، وهم محجوب ثابت، وأحمد أبو شادي، وزكي مبارك

ولكن هل ضاع محجوب ثابت؟ وكيف؟ لقد اشتغل بالتمثيل السينمائي فنجح أعظم نجاح. وقد تفضل سعادة الأستاذ طه الراوي وكيل وزارة المعارف العراقية فدعانا منذ ليال لتناول طعام العشاء. وعلى المائدة تحدث الأستاذ منير القاضي فأشاد بنبوغ محجوب ثابت في التمثيل وجزم بأنه أبرع من الممثل زكي طليمات. وعندئذ أحسست الغيرة تلهب أحشائي، فهذا زميل أضاعه الأدب وحفظه التمثيل

وأبو شادي أحيته المعامل البكتريولوجية، فهو يفحص (عينات) الجراثيم ثم يخلد أصنافها بالشعر البليغ. أما زكي مبارك فقد أضاعه الأدب جملة واحدة. وإني لأخشى ألا يستمع إليه أحد إن وصف لمريض شربة زيت؛ ومع أنه ظفر بألقاب كلية الطب وكلية الآداب فقد ضاع في الكليتين، فهو عند كلية الآداب رجل طبيب، وعند كلية الطب رجل أديب، وعند الله جزائي!

ومما زاد البلاء أنني صرحت بأن ليلى تقيم في شارع العباس ابن الأحنف، وهو شارع معروف في بغداد، فما الذي كان يمنع من اختراع أسم موهوم أضلل به أهل الفضول؟ كذلك أمسيت في حيرة وارتباك، فما توجهت إلى ليلى إلا رأيت الشارع يعج بالمتطلعين. ويحسن النص على أن المدنية الحديثة جنت على بغداد أعظم جناية، فليس فيها شارع ولا حارة ولا درب ولا عطفة إلا وهو مضاء بالكهرباء، وبذلك ضاع علينا الحظ الذي كان يتمتع به المتنبي إذ يقول:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي

وفي بغداد شرطة لا تعرف التغافل الظريف الذي تصطنعه شرطة باريس. وليلى نفسها لا تخلو من عنجهية البدويات، وأنا نفسي لا أحسن الصبر وهو أقل ما يتخلق به الأطباء

وفي معمعة هذا الكرب وقع حادث ظريف، فقد تلقيت صكاً من مجلة الهلال على بنك إيسترن في بغداد، تلقيته في ساعة ضيق، فمضت إلى البنك لأتقاضاه وأنفق محصوله على نفسي وعلى بعض مرضاي من الملاح.

ولكن إدارة البنك رفضت تسليم المبلغ الميمون وقالت: هات جواز السفر، أو أحضر رجلاً يعرفك. فقلت: أما جواز السفر فلا سبيل إليه لأن المطر ينهمر والطريق كله أوحال. وأما البحث عن رجل يعرفني فهو سهل، ولكنه لا يتم بدون فضيحة البنك. فقال فريق من الموظفين: وكيف؟ فقلت: لأن مما يفضح بنك إيسترن أن يجهل زكي مبارك وهو رجل يشار إليه بالبنان في كل أرض، وفي صدره ودائع أغلى وأنفس مما تحفظ أقوى الخزائن في أعظم البنوك. وعندئذ ضج موظفو البنك بالضحك والقهقهة الساخرة؛ ولكن أحدهم ترفق وقال: أنت الطبيب الذي جاء يفتش عن ليلى والذي ينشر نتائج بحثه بمجلة الرسالة المصرية؟

فقلت: نعم!

فالتفت ذلك الموظف إلى زملائه وقال: يا جماعة. هذا هو الطبيب الذي جاء يفتش عن ليلى!

وما كاد يفوه بهذه الكلمات حتى أقبل الموظفون لمصافحتي. وفي لحظة واحدة تسامع مَن في البنك بقصتي، وقد استظرفوني جداً، بالرغم من أني أحمل أنفاً أعظم من أنف ابن حرب، كما قال الأستاذ حسن فهمي الدجاني، زميلي في أيام البؤس، يوم كنت تلميذ الشيخ سيد المرصفي بالأزهر الشريف. وصحبني ذلك الموظف إلي مكتب المدير فشربت عنده كأساً من قهوة أبي الفضل لا قهوة أبي نواس. ولم يفتني أن أسأل عن اسم ذلك الموظف الأديب الذي يقرأ مجلة الرسالة وهو في البنك - وتلك إحدى الأعاجيب - فعرفت أنه يسمى ألبرت داود يعقوب، فمضيت وأنا أرتل الآية الكريمة: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)

فقد نفعني الأدب في بنك إيسترن، فهل ينفعني عن ليلى؟

وهل نفعني الأدب عند عروس دمياط حتى ينفعني عند عروس بغداد؟

أمري إلى الهوى!

ظهر المقال الثاني في مجلة الرسالة وفيه كلام عن وزير المعارف ورئيس الوزراء، وقد صارحني الأستاذ عبد الجليل الراوي بأن لذلك عواقب. . .

فليكن هذان المقالان كل ما أرسل إلى الزيات، ولتكن هذه الحوادث بداية لرجوعي إلى العقل، فأنا لا أزال شاباً، ومن السهل أن أحسن سمعتي وأن أعيد تنظيم عيادتي في شارع فؤاد، فلولا جناية الأدب لكنت اليوم أغنى الأطباء

على أنه لا موجب للندم على المقالين اللذين نشرتهما الرسالة، فقد أصبح العراق جذوة وجدانية، وصار اسم ليلى بداية كل حديث ونهاية كل حديث في الأندية والمعاهد، بغض النظر عن الفتنة التي ثارت بسبب ليلى في الرستمية، وبغض النظر عن المشاجرة التي وقعت من أجلها في كلية الحقوق. . . وينبغي أن أسجل أن هذين المقالين جذبا الأنظار إلى المؤتمر الطبي، فقد حدثني الدكتور حسين كامل أن طلبات الاشتراك بلغت المئات في أسبوع واحد. والسبب لا يخفى على من سيقرءون مذكراتي في السنين المقبلات، فقد صار مفهوماً أن ليلى ستحضر جلسة الافتتاح، وإلى ذلك أشارت جريدة البلاد وجريدة العقاب وجريدة الرأي العام وجريدة الهدف، وأنكرت ذلك مجلة الكفاح وقالت: إنه لا يليق بأمة إسلامية أن تعرض امرأة لعيون الناظرين؛ وفات مجلة الكفاح أن المؤتمر لا يعقد هذه السنة في بغداد إلا بسبب النظر في أمر ليلى المريضة في العراق

ولكن هل أسمح بخروج ليلى؟ هل ضاقت الحيل حتى أمكن الناس من رؤية ليلى؟

رباه! لقد بدأت أشعر بالغيرة على ليلى، فهل تكون الغيرة نذيراً بهبوب عاصفة الحب؟

أمري إلى الهوى!

نشرت جريدة البلاد في أبرز مكان كلمة تحت عنوان: (أنشودة اللقاء)

ثم قالت إنها تلقت قصيدة موجهة إليّ بتوقيع (ليلى المريضة) وأنها حولت القصيدة إلى الدكتور زكي مبارك راجية أن يكون له فيها شيء من العزاء

وقد تلقيت القصيدة وتأملت الخط، فعرفت أنها من ليلى غير ليلاي

ونشرت جريدة العقاب كلمة قالت فيها إنني شرعت في تعلم الطب، وذلك دليل جديد على أن شهرتي الأدبية أضاعت منزلتي في عالم الطب، فمتى يشفيني الله من الغرام بالأدب وصحبة الأدباء!

آه! آه!

هذا خبر جديد، فقد أخبرني الدكتور حسين كامل أن الزيات سيحضر إلى بغداد لشهود المؤتمر الطبي، وأنا أفهم جيداً ماذا يريد. وهل تجوز عليَّ الحَيلَ وأنا خِريج مونمارتر ومونبارناس؟ هيهات هيهات!

أترك هذا العبث في تدوين مذكراتي، وأمضي لعيادة ليلى، فقد طال الشوق إلى صوتها الرخيم و. . . عينيها الناعستين. أليست هي التي قالت: فراقك صعب، سيدي!

فراقي صعب؟ نعم، إن ليلى تقول ذلك، والقول ما قالت ليلى، ولو كره السفهاء من العذال

(للحديث بقية)

زكي مبارك