مجلة الرسالة/العدد 238/من الأعراس الإسلامية الشهيرة

مجلة الرسالة/العدد 238/من الأعراس الإسلامية الشهيرة

مجلة الرسالة - العدد 238
من الأعراس الإسلامية الشهيرة
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 01 - 1938



زواج قطر الندى الطولونية بالخليفة المعتضد بالله

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كانت الدولة الطولونية أولى الدول الإسلامية المستقلة بمصر وكانت أقصرها حياة، ولكنها لم تكن أقلها قوة وبهاء، فهي لم تعمر سوى سبعة وثلاثين عاماً (254 - 292)، ولكنها سطعت خلال حياتها القصيرة كما تسطع الدول العظيمة. ثم انهارت فجأة كأنها صرح أسس على الرمال، ذلك لأنها تدين بوجودها وقوتها لمؤسسها العظيم أحمد بن طولون؛ فلما توفي احمد في سنة 270هـ، وخلفه ولده خُمارويه، لبثت الدولة مدى حين تحتفظ بلونها الزاهر؛ ولكن عوامل الانحلال السريع كانت تعمل لتقويض دعائمها التي لم تكن قد رسخت بعد. وكان خمارويه أميراً مترفاً ينثر حوله ما استطاع من ألوان الفخامة والبهاء، فعنى بتوسيع القطائع وتجميلها عناية فائقة، وزاد في قصر أبيه زيادات كبيرة، وأنشأ له قصراً خاصاً بذل فيه من صنوف البهاء والبذخ آيات عجيبة، وجعل فيه بركة من الزئبق الخالص، وديواناً ملوكياً فخماً عليه قبة عظيمة، وداراً للسباع، ومسارح للطيور وغيرها. وكانت هذه الألوان الزاهرة تسبغ على الدولة الطولونية مظهراً بارزاً من القوة والعظمة، ولكن النضال المستمر الذي اضطرت إلى خوضه كان يستغرق قواها ومواردها، ويعرضها لتلك الزعازع والمفاجآت التي تنذر الدول الناشئة بالفناء الكامل

وكانت الدولة الطولونية تستظل منذ قيامها بلواء الخلافة الإسمي؛ ولم يشأ مؤسسها النابه أن يخرج على هذه السلطة الروحية التي يستمد منها شرعية حكمه واستقلاله. وحذا ولده خمارويه حذوه، فدعا للمعتمد العباسي، ثم دعا من بعده للمعتضد. على أن هذا الاستظلال الإسمي بلواء الخلافة لم يحل دون تعرض الدولة الطولونية لهجمات عمال الخلافة وأوليائها الآخرين. واضطر خمارويه، كما اضطر أبوه من قبل أن يخوض غمار معارك دفاعية متصلة؛ ولما ولي المعتضد الخلافة في أواخر سنة 279هـ، بعث إليه خمارويه بالهدايا الملوكية المعتادة، فبعث إليه المعتضد بكتاب الولاية والخلع التقليدية، وانتظمت العلائق الودية بين الخلافة والدولة المصرية، بشروط وعهود معينة. ورأى خمارويه من جهة أخرى أن يوثق هذه العلائق بمشروع معاهدة اقترحه على الخليفة، وهو أن يزوج ابنته أسماء الملقبة بقطر الندى لولده وولي عهده المكتفي بالله؛ فوافقه المعتضد على هذا المشروع على أن يتزوج هو قطر الندى. واغتبط خمارويه بعقد هذه الصلة الوثيقة بينه وبين الخلافة، وبعث الخليفة مندوبه وصديقه الحسن بن عبد الله الجوهري المعروف بابن الخصاص إلى مصر ليتولى إحضار العروس إلى بغداد، وليشرف من قبله على أهبات القران الخلافي.

وكان زواج المعتضد بقطر الندى من أعظم الحوادث الاجتماعية في التاريخ الإسلامي، وكانت هذه الأميرة المصرية النابهة من أجمل نساء عصرها وأكملهن في العقل والخلال؛ وكانت وقت خطبتها صبية في نحو الخامسة عشرة؛ وكان أبوها خمارويه يعبدها حباً؛ فلما وقع الاتفاق على زواجها من المعتضد أحيط عقدها وزفافها بأورع ما يتصور الإنسان من مظاهر الفخامة والبهاء. وكان صداقها ألف ألف درهم، ولكن خمارويه أنفق في تجهيزها أضعاف أضعاف هذا القدر. وكان جهازها مضرب الأمثال في البذخ الطائل الذي تكاد تحسبه من مناظر ألف ليلة وليلة. وقد نقلت إلينا الرواية بعض تفاصيل مدهشة عن جهاز قطر الندى وزفافها؛ فذكرت لنا أن خمارويه قدم لابنته فيما قدم دكة أربع قطع من ذهب وعليها قبة من ذهب مشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا تقدر، ومائة هون من ذهب؛ ومن الحلي والثياب روائع يعجز عنها الوصف، حتى قيل إن من بينها ألف تكة من الحرير قيمة الواحدة منها عشرة دنانير؛ وهي واقعة ينوه بها المقريزي ويتخذها دليلاً على بذخ هذا العصر الطائل، ويقول لنا إن أسواق القاهرة في عصره أعني في أوائل القرن التاسع كانت تعجز عن أن تقدم تكة واحدة بهذه القيمة؛ ويقول لنا القضاعي إن ابن الخصاص، وقد تولى إعداد الجهاز والإشراف على النفقة تحقيقاً لرغبة خمارويه، حينما قدم إليه ثبت النفقة ذكر له أنه لم يبق منها للتسوية سوى (كسر) قدره أربعمائة ألف دينار، وإذن فما بالك بالنفقة كلها إذا كان هذا كسراً منها فقط!

وفي أواخر سنة 281هـ، تم تجهيز قطر الندى، واتخذت الأهبة لإرسالها إلى الخليفة. وهنا أيضاً يحب أن نرجع الذهن إلى قصص ألف ليلة وليلة، لكي نتصور ما أحيطت به رحلتها من مصر إلى بغداد من مظاهر النعماء والفخامة والترف. فقد شاء خمارويه أن يجعل لابنته من تلك الرحلة الشاقة نزهة بديعة، فأمر أن يقام على طول الطريق من مصر إلى الشام ثم إلى بغداد في نهاية كل مرحلة منزل وثير تنزل فيه قطر الندى وحاشيتها، وتتمتع فيه بجميع وسائل الراحة. وأنفقت في هذه الرحلة مبالغ طائلة؛ وخرجت قطر الندى من القطائع في ركب ملكي عظيم يشرف عليه ابن الخصاص مندوب الخليفة وجماعة من الأعيان، ومعها عمها شيبان بن أحمد بن طولون؛ وصحبتها عمتها العباسة إلى آخر حدود مصر من جهة الشام؛ (وكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فإذا وافت المنزل وجدت قصراً قد فرش، فيه جميع ما يحتاج إليه، وعلقت فيه الستور، وأعد فيه كل ما يصلح لمثلها في حال الإقامة، فكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد على بعد الشقة كأنها في قصر أبيها تنتقل من مجلس إلى مجلس)

ووصل ركب قطر الندى إلى بغداد في فاتحة المحرم سنة 282هـ فأنزلت في دار صاعد. وكان المعتضد غائباً بالموصل، فلما علم بمقدمها عاد إلى بغداد، وزفت إليه في الخامس من شهر ربيع الأول في حفلات عظيمة باذخة أسبغت على بغداد مدى أيام حللاً ساطعة من البهاء والبهجة. وسحرت قطر الندى الخليفة بجمالها وخلالها البارعة، وتفوقت في حظوتها لديه على سائر خطاياه. ومما يروي أن المعتضد خلا بها ذات يوم في مجلس أنس، فلما ثقل رأسه من الشراب وضع رأسه على حجرها، فلما استغرق في النوم، وضعت رأسه على وسادة وغادرت المجلس؛ فلما استيقظ ولم يجدها استشاط غضباً وناداها وعنفها على تصرفها، فأجابته: (يا أمير المؤمنين ما جهلت قدر ما أنعمت به عليّ، ولكن فيما أدبني به أبي أن قال: لا تنامي مع الجلوس، ولا تجلسي مع النيام)

محمد عبد الله عنان