مجلة الرسالة/العدد 239/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 239/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 01 - 1938



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 22 -

الرافعي وعبد الله عفيفي:

لم يكن الأستاذ عبد الله عفيفي خصماً للرافعي على الحقيقة، ولا أحسب أن أحدهما كان يرضيه أن يكون بينهما ما كان ولا سعى إليه؛ ولكن الأستاذ عفيفي في مكانه من ديوان جلالة الملك، وفي موضعه عند الإبراشي باشا، قد دارت به المقادير دورتها حتى وقفته مع الرافعي وجهاً لوجه، وجعلته بالموضع الذي لا يستطيع واحد منهما فيه أن يتجاهل أنه أمام خصم يحاول أن يظفر به. ومن هنا نشأت الخصومة بين الرافعي وعبد الله عفيفي

على أن هذه الخصومة بينهما تختلف عن سائر الخصومات التي نشبت بين الرافعي وأدباء عصره، فهنا لم تنشأ الخصومة إلا للتزاحم على رتبة (شاعر الأمير)؛ على حين كانت أكثر خصومات الرافعي ذياداً عن الدين وحفاظاً على لغة القرآن، فما كنت ترى فيها إلا التراشق بألفاظ الكفر والزيغ والمروق والإلحاد؛ أما هنا فكانت المعركة تدور وما فيها إلا التهمة بالغفلة وفساد الذوق وضعف الرأي وقلة المعرفة. . . وما بدٌّ من أن يكون في نقد الرافعي أحد هذين اللونين: الاتهام بالزيغ، أو الاتهام بالغفلة، ولا ثالث لهما. ومن هنا فقط نستطيع أن نزعم أن الرافعي لم يكن موفقاً في النقد، مع أهليته واستعداده وإحاطته الواسعة وإحساسه الدقيق؛ إذ كان أول ما ينبغي أن يتصف به الناقد هو عفة اللسان والاقتصاد في التهمة وضبط النفس. . .

وثمة شيء آخر يفرق في بين هذه الخصومة وبين سائر الخصومات: هو أن هذه المعركة كانت إيجابية من طرف واحد، على حين ظل الطرف الثاني صامتاً قاراً في موضعه، لم ينبس بكلمة ولم تبدر منه بادرة مشهودة للدفاع. . .!

كتب الرافعي مقالات ثلاثاً بعنوان (على السفُّود) في نقد ثلاث قصائد أنشأها الأستاذ ع الله عفيفي في مديح الملك - والسفُّود هو الحديدة التي يُشْوَى عليها اللحم - وهو عنوان له دلالته، وفيه الإشارة والرمز إلى ما حوت هذه المقالات من الأساليب اللاذعة والنقد الحامي. وإذ لم يكن توقيع الرافعي في ذيل هذه المقالات ولا كان يريد أن يُعرف أنه كاتبها - فإنه خرج عن مألوفه في الكتابة وفي نمط الكلام، فاسترسل ما شاء كأنه يتحدث في مجلسه إلى جماعة من خاصته: لا يعنيه الأسلوب ولا جودة العبارة ولا عربية اللفظ، بقدر ما يعنيه أن يتأدَّى معناه إلى قارئه في أي أسلوب وبأية عبارة؛ فكثر الحشو في هذه المقالات من الكلمات العامية والنكات الذائعة والأمثال الشعبية، ولكنه إلى ذلك لم يستطع أن يتخلص من كل لوازمه في النقد والكتابة، فبقيت له خفة الظل وحلاوة اللفظ وقسوة النقد، إلى بعض عبارات في أسلوبه تنم عليه وتكشف عن سره.

ولم يذكر الرافعي حين أنشأ هذه المقالات أنه يتناول بهذا النقد شاعراً من شعراء القصر له حظوة عند رئيس الديوان الملكي، وأن هذا الشعر الذي يفريه ويكشف عن عيبه إنما أنشأه ناظمه في مديح الملك. أو لعل الرافعي كان يذكر ذلك ولكنه يحسب نفسه بنجوة من التهمة لأنه لم يوقع بإمضائه على هذه المقالات؛ فلم يتحرج مما كتب، وألقى القول على سجيته في صراحة وعنف وقسوة، ولم يصطنع الأدب اللائق وهو يتحدث عما ينبغي أن يكون عليه الشعر الذي يقال في مدح الملك وما لا ينبغي أن يقال؛ فجاء في بعض كلامه عبارات لا يسيغها الذوق الأدبي العام عندما يتصل موضوع القول بالملك الحي الذي يحكم ويدين له الجميع بالولاء. وكأنما ركبتْه طبيعةٌ غير طبيعته خَيَّلتْ إليه أنه يكتب في نقد شاعر من الماضين يمدح ملكاً من ملوك التاريخ، فلم ينظر إلى غير الاعتبار الأدبي الخالص من دون ما ينبغي أن يُراعي من التقاليد واللباقة السياسية عند الحديث عن الملوك

وانتهت أولى هذه المقالات إلى القصر، فمالت الأفواه إلى الآذان، وتهامس القراء همساً غير خفي، ثم جهروا يتساءلون: من يكون هذا الكاتب؟ ولكن أحداً منهم لم يفطن إليه ولم يعرف الجواب، وأنفذوا دسيساً إلى الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب العصور يسأله فلم يظفر منه بجواب

ونُشر المقال الثاني والثالث، فلم يلبث أن أنكشف السر؛ ونم الرافعي على نفسه بلسانه في مجالسه الخاصة. . . أو نم عليه أسلوبه وطريقته في النقد وجاءه سائل من القصر يسأله ويستوثق من صحة الخبر في أسلوب السياسي البارع: (. . . وكيف تأذن لنفسك أن تقول ما قلت في شاعر من شعراء الملك، وأن تكتب عنه بهذا الأسلوب؟ أفيتفق مع الولاء لصاحب العرش أن تكتب ما كتبت لتصرف الشعراء المخلصين عن ساحة الملك. . .؟ أم تريد ألا ينطق أحد بالثناء على صاحب التاج وألا يكون أسمه على لسان شاعر؟ أم هي دسيسة تصطنع الأدب لتفض المخلصين من رعيته عن بابه. . .؟)

وغص الرافعي بريقه، وتبين الهاوية تحت قدميه يوشك أن يتردى فيها بحيلة بارعة، وأحس الإبراشي باشا من ورائه يحاول أن يدفعه بعنف لينتقم لكبريائه التي مسها الرافعي بحماقته منذ بضعة أشهر. . .

وحاول النجاة بنفسه من هذه المكيدة المبيتة، فلم يجد له وسيلة إلا الصمت فأوى إليه. وانقطع ما بينه وبين القصر من صلات، إلا الصلة العامة التي بين الملك وبين كل فرد من رعيته. وكان أخوف ما يخاف الرافعي أن تكون خاتمة ذلك هي انقطاع المعونة الملكية عن ولده الذي يدرس الطب في جامعة ليون على نفقة الملك؛ ولكن ذلك لم يكن إلا بعد هذه الحادثة بأربع سنين (في سنة 1934) لسبب آخر، ولم يكن باقياً بين الدكتور الرافعي وبين الإجازة النهائية غير بضعة أشهر كما تقدم القول

لقد كَثُر ما استغل خصوم الرافعي السياسي لينالوا منه. ولقد كثر ما اتهموه من أنه من أدوات الإبراشي باشا في محاربة سلطة الأمة، وأنه صنيعته ومولاه؛ على حين كان هذا الموقف هو كل ما بين الرافعي والإبراشي باشا من صلات الود والموالاة! فما انقطعت صلة الرافعي بالقصر إلا في عهد الإبراشي، وما كان معه يوماً على صفاء. على أنه كان تلميذاً معه في مدرسة المنصورة الابتدائية فيما أذكر. . .

ولقد كتب كاتب من خصوم الرافعي غداة دالتْ دولة الإبراشي، فصلاً مؤثراً. . . بعبارات بليغة. . . في صحيفة من صحف الشعب، يصف جناية الإبراشي باشا على الأدب؛ وكان من براهينه على ذلك أنه اصطنع الرافعي ليحارب بقلمه ولسانه سلطة الأمة. . . وقرأت هذه المقالة مع الرافعي، ونظرت إليه فإذا هو يبتسم ابتسامة مرة، ثم قال: (هذا أديب يتحدث عن جناية السياسة على الأدب. . . أرأيت. . .! صَدقَ! لقد جنت السياسة على الأدب)

لم يكن لهذه المقالات الثلاث التي كتبها الرافعي عن الأستاذ عبد الله عفيفي صدى في غير هذه الدائرة المحدودة؛ على أنها أنشأت بينهما خصومة صامتة ظلت مع الرافعي إلى آخر أيامه، وظلت مع الأستاذ عفيفي في أحاديثه الخاصة إلى أصدقائه، وإلى طلابه في كلية اللغة العربية بالأزهر. . .

فلما مات المرحوم شوقي بك في خريف سنة 1932، كتب الرافعي عنه مقاله المشهور في مجلة المقتطف، وذكر فيما ذكر فيه أن شوقي بك لو كان مصرياً خالصَ المصرية لما تهيأت له الأسباب النفسية التي بلغت به مبلغه في الشعر؛ لأن الطبيعة المصرية لا تساعد على إنضاج المواهب الشعرية، ولا تعين على إبراز الشاعرية الكامنة في كل نفس

هو رأي أبداه فيما أبدى من الرأي، لم يقصد به التعريض بأحد أو الحط من مقداره. وقد يكون رأياً إلى الخطأ أو إلى الصواب، وقد يتكافأ فيه كِفتا الخطأ والصواب، ولكنه رأي أبداه الرافعي مجرداً من الهوى، لا يعني به إلا أن يستوفي عناصر بحثه. ولكن خصومه تناولوه على ألوان وفنون

أما طائفة فمالت به إلى السياسة، وقال قائلهم: هذا رجل ليس منا، يريد أن ينكر فضل مصر عليه وعلى آله، فيتهمها بالعقم وركود الذهن وجمود العاطفة فيجردها من الشعراء. . . ومضى في دعواه. ذلك سلامه موسى. . .!

وأما ثانيةٌ فقالت: وهذا قول يعنينا به نحن الشعراء المصريين ليجردنا من الشاعرية في قاعدة عامة لا تستثني أحداً إلا من انحدر إلى مصر وفي أعرافه دم غريب. . . ومضت هذه الطائفة تنقض دعواه وتسفه رأيه بما تسوق من الأمثال وتذكر من أسامي الشعراء المصريين

وانتضى الأستاذ عبد الله عفيفي قلمه ليكتب في (البلاغ) مقالاته الأسبوعية بعنوان (مصر الشاعرة) يذكر فيها من شعراء مصر في مختلف الأجيال منذ كانت مصر العربية، ما يراه رداً على دعوى الرافعي. ومضى في هذه المقالات بضعة أسابيع يضرب على وتر واحد، ثم ملّ هذه النغمة فراح يتصيد موضوعات أخرى من مشاهداته وآرائه في الناس والحياة؛ ولكن عنوان (مصر الشاعرة) ظل على رأس هذه المقالات يبحث عن موضوعه. . . فكان حسْب الأستاذ عفيفي في هذه المقالات أن أنشأ هذا العنوان في الرد على الرافعي. . . .!

وقد ظل الرافعي إلى آخر عمره يذكر أيامه وهو شاعر الملك، ثم ما كان بينه وبين الإبراشي، وبينه وبين عبد الله عفيفي. وما كانت تظهر للأستاذ عفيفي في الصحف مدحة ملكية، في موسم من المواسم أو عيد من الأعياد، حتى يتناولها الرافعي فيقرأها إلى آخرها، ثم يلتفت إلى جليسه فيقول: (ماذا رأيت فيها من شعر ومن معنى جديد؟) ثم يسترسل فيما تعود من المزاح والتندر

وقد ذكرت فيما قدمت من هذه المقالات أن الرافعي كان يسمي كل جميلة من النساء (شاعرة)، فمنهن كالمتنبي، ومنهن كالبحتري، ومنهن بشار بن برد، ومنهن عبد الله عفيفي

فهذه الأخيرة عنده هي ذلك النوع (البلدي) من نساء الطبقة الثالثة، التي تبدو ملفوفة (محبوكة الأطراف) في ملاءتها السوداء، غضةً بضة، تستهويك بجمال الجسم دون جمال المعنى، وفيها أنوثة الدم واللحم ولكنها جامدة العاطفة عقيم الخيال. . .

معذرة إلى الأستاذ عبد الله عفيفي! فإنما أنا راوية أكتب للتاريخ، وما شهدت إلا بما علمت، وعلي تبعة الرواية وعلى غيري تبعة الرأي. وللأستاذ عفيفي في نفسي رغم أولئك كل إجلال واحترام

(شبرا)

محمد سعيد العريان