مجلة الرسالة/العدد 24/في الأدب الغربي

مجلة الرسالة/العدد 24/في الأدب الغربي

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1933



مارسلين أو (مدام ديسبور دفالمور) 1786 - 1895

للأستاذ خليل هنداوي

في الحياة أزاهير تقضي أعمارها منثورة هنا وهنالك، لا يكاد يشعر إنسان لها بوجود، متواضعة في أرضها، منعزلة عن الأعشاب الطويلة والأزهار المنتصبة. تعطر الفضاء بانفاسها، فهو أنم عليها من الصبح!

وهنالك شعراء يعيشون في أجواء عواطفهم في عزلة نائية عن الناس، إذا ترنموا فإنما ليطربوا أنفسهم، وإن بكوا فإنما يبكون لتصيب أدمعهم زهرات أمانيهم، كما تصيب الروضة قطرات الطل، هؤلاء لا يعرفهم الناس لأنهم ما شاؤا أن يعرفوهم، فهم (وأنفسهم تسكب الألحان) كالأزاهير المنسية، وقد ملأت الفضاء أريجا.

ومن هؤلاء الشعراء صاحبة هذه الترجمة وهذا الشعر الوجداني، من شاءت ان تقضي حياتها هامسة بأنغام نفسها، ليس في قلبها وبين الوجود إلأ ترجمان الحس والعاطفة:

هذه هي مارسلين. . .

ولدت في (دواى) في بيت تسود جوه روح الفاقة، ويغلب على قلوب أصحابه شيء من الأيمان الذي يضحي بكل شيء إلا بنفسه، فيبعث هذا الأيمان في صدورهم من الراحة والطمأنينة والرضا ما لا تبعثه مظاهر الثروة الضخمة، على أن (أمها) جربت أن تنقذ الأسرة من مرارة الفقر، فركبت وابنتها إلى (بوردو) حيث تنتظرها ثروة قريبة. فاتخذت مارسلين الصعود إلى المسرح مهنة، ترضى بأجرها اليسير، ولكن الحظ أبى إلا أن يسود الصفحة الأخيرة، لأن هذه الثروة الموهومة قد تدهور أمرها قبل أن يدركا قريبتها، فأصابت أمها (حمى صفراء) أودت بحياتها، فآبت الابنة على الأثر، وعوامل اليأس والخيبة تطغي عليها.

الحياة!! كيف تعمل على تأمين أسبابها؟ فتذرعت (بالخياطة) مهنتها الأولى، وامتزجت مع الممثلين والممثلات، تقف عليهم صناعتها، فجدد هذا الاختلاط رغبتها الباطنية في العودة إلى المسرح، فعادت اليه ونالت كثيرا من مظاهر الاستحسان والتصفيق على مسرح الفنون في (روان) ولكن ما عسى تجديها هذه المظاهر؟ وهي التي كتبت في مذكراتها (ما أكثر م تنهمر عليّ باقات المعجبين بي؟ وأنا أكاد أموت جوعا دون أن أصارح أحداً بأمري).

ثم كفلها أحد اصحابها، فألحقها بمسرح جديد، لا يتجأوز أجرها فيه الثمانين (فرنكا) طيلة الشهر. وفي عام (1817) شاهدها عارفوها في (بروكسل) متأبطة ذراع الممثل (فرانسوا بروسير) مرتبطين برابطة الزواج، وما حل عام (1823) حتى كفت مارسلين عن الحياة المسرحية، وسعت وراء نفسها مستلهمة ما توحيه اليها، بعد أن تلمست شيئاً غير قليل من الظفر الشعري في ديوانها الأول (أغاني ومراثي) ولكن حياتها ظلت (برغم عوامل المدح الطافية عليها) طافحة بالكآبة، وقد أصابها الدهر بابنتيها خلال حياتها، ثم غزاها سرطان داخلي لم يمهلها كثيرا. ومارسلين على رغم هذه البواعث على الياس والقنوط لبثت صامتة راضية بأحكام القدر، لا تلوث ديوانها بشيء من الهجو لمعاصريها وأصدقائها، وذلك ما دعا (أناتول فرانس) إلى القول عنها أنها حقاً امرأة قديسة.

اما مارسلين فقد كان وجهها المشرب بشيء من الصفرة جميلاً جذابا، ونفسها مشبوبة العواطف، متعددة اللواعج، وحيثما قلبت في ديوانها تبد لك آثار هذه النفس المشتعلة التي تذوقت الحب، ورضيت به مرهقا للروح، ومنهكا للقوى. لأن الحب عندها هو ربيع الحياة. . وقد حار النقاد في العاشق الذي ظلت مارسلين تلهج باسمه وبصفاته في قصائدها حتى أدركها الموت، وطبيعي أن يجر خلاف النقاد إلى اعتبارنا هذا الاسم المتردد اسما شعرياً ترمز به صاحبته إلى اسم حقيقي.

اما موقف معاصريها من نقاد وأدباء فقد اعترف أكثرهم بما يثور في صدر مارسلين من عاطفة متقدة يؤول اليها سر براعتها الشعرية. (ولسانت بوف) فصول درس بها فن الشاعرة. رفعت كثيراً من قدرها وبراعتها، أضف إليها فضولًا ومقاطيع متعددة لكبار الأدباء يرفعون بها شهرتها: وهذا (شيرر) يقول (ان مجد مارسلين شيء لا جدال فيه لأنه مجد كثير الإحساس) وهذا (اميل مونتيكو) يكتب في (معرض العالمين) ان مكان الشعر العطفي يقاس بمقياس العاطفة الشخصية، فان مارسلين هي اكبر شعراء العاطفة على الإطلاق.

والشاعر (ملارمي) كانت تستخفه اسباب الطرب عند ما يتلو على أصدقائه قصيدة مارسلين الخالدة (حياة اليمام وموته) وأي قلب (أوتى الحاسة الفنية) يسعه الأ يحس هذه العاطفة التي يتغلغل فيها معنى الشعر الحقيقي، ورحم الله (اناتول فرانس) فقد كان يستظهر قصيدتها الإكليل المنثور ويقول عنها انها من قصائد العبقرية النادرة.

وديوان مارسلين يطفح بروح المرأة المحبة التي يخرجها الحب عن نفسها، وهو أثر واضح لدرس نفس المرأة وترددها وضعفها حين تطغي عليها عاطفة الحب، لأن مارسلين لم تتقيد بالتقاليد التي لو لم تعمل على قتل عاطفتها لخففت من عوامل بؤسها وحدتها، وجدير بأدبنا أن يطلع على مثل هذا الشعر، وعلى مثل هذا الحب، وعلى مثل هذه العاطفة.