مجلة الرسالة/العدد 240/المثل الأعلى للشاب المسلم

مجلة الرسالة/العدد 240/المثل الأعلى للشاب المسلم

مجلة الرسالة - العدد 240
المثل الأعلى للشاب المسلم
ملاحظات: بتاريخ: 07 - 02 - 1938



للأستاذ علي الطنطاوي

كلما أراد الشاعر الفرنسي الأشهر بول فاليري أن يحاضر بدأ بتعريف مدلول الكلمات التي يتألف منها عنوان المحاضرة. وهذه هي عادة أجدادنا، إذا أخذوا في الكلام على علم من العلوم أو بحث من المباحث، فليس عليَّ إذن من بأس إذا اتبعتها هذه الليلة، فبدأت محاضرتي بتعريف المثل الأعلى، والكلام على صفات الشباب الأساسية، وتلخيص القول في الإسلام. . .

إنه ليس فيكم أيها السادة من هو راض عن حالته، مطمئن إليها، وليس فيكم من لا يتصور حالة خيراً منها، فإن كان عالماً فكر فيمن هو أعلم منه، وإن كان غنياً تصور من هو أغنى. فإذا صار مثل من يتصوره من الأغنياء، أو يفكر فيه من العلماء، طمح إلى درجة أعلى، ومنزلة أسمى، لا يكاد يبلغها حتى يزهد فيها، ويطمع فيما وراءها. وإذا أنتم استعرضتم أعلم العلماء، واجمل الفتيات، وأبهى الرياض، وأبرع الصور، وأفخم البنى، لرأيتم الذهن البشري، يتخيل على أهون سبيل، عالماً أكبر، وفتاة أجمل، وروضة أبهى، وبنية أفخم، وصورة أبرع. . . ثم يبالغ في التخيل حتى يستقر على مرتبة، ويثبت في منزلة لا يرى فوقها منزلة، فتكون هي المثل الأعلى

فالمثل الأعلى إذن هو أسمى ما يتصوره العقل البشري. . والمُثُل تعدد بعدد الناس، فلكل مثله الأعلى في الحياة، وعدد الأشياء فلكل شيء صورته الكاملة، ولكنها تجتمع كلها على افتراقها، وتتحد على تعددها، في أشياء ثلاثة نبه إليها أفلاطون واخذ بها الناس في كل عصر ومصر، وأجمعوا على إجلالها، واتخاذها مثلهم العليا، وغاياتهم السامية؛ وهنّ: الحق والخير والجمال

هذا هو المثل الأعلى. أما الشباب، وهل أحتاج إلى تعريف الشباب؟

الشباب الحياة، والحياة الشباب، (روائح الجنة في الشباب)

خَلَقُ العيش في المشيب ولو كا ... ن نظيراً وفي الشباب جديده

الشباب يا سادتي الواحة الفريدة في صحراء الحياة، هو الربيع في سنة العمر، هو البسمة الوامضة على ثغر الزمان القاطب. الشباب في الأمة قلبها الخافق، وعيونها الناظرة، وأيديها العاملة

لست أعني هذا الشباب الغض الغريض، الحلو الناعم، الذي يجرح خديه لمس النسيم، ويدمى بنانه مسّ الحرير، والذي يرق حتى يسيل من العيون نظرات ساحرة مغرية، ويدق حتى يستحيل إلى فكرة تطير كالفراشة بين أزهار الجمال في روضة الحب، أو نسمة معطرة تهب من حراش فتاة فتانة، أو قبلة فيها خمر وعسل تجمع لذائذ الدنيا في رشفة مسكرة. . . لست أعني هذا الشباب الفاتن المتأنث الذي يسبي القلوب، ويسلب النفوس، ويعيش الهوى والأحلام، ويبدأ تاريخ حياته بالحاء (ح) فلا يتلبث أن ينتهي بالباء (ب). . .

إنما أعني الشباب الحي العامل القوي المتين، الذي وضع له غاية في العيش أبعد من العيش، ونظم نفسه حلقة في سلسلة شعبه، واتخذ له مطمحاً، ومثلاً عالياً، ثم عمل على بلوغه، وسعي إليه باندفاع الصواعق المنقضة، وقوة العواصف العاتية وثبات الطبيعة، وألقى في سفر حياته الراء بين الحاء والباء؛ وهل الحياة إلا حرب دائمة ونضال مستمر، فتنازع على البقاء، وتسابق إلى العلاء

لا يبقى غير الصالح، ولا يصلح غير القوي. . هذه هي الحقيقة الباهرة، هذا هو القانون المقدس الذي لا يلغيه برلمان، ولا يعبث به إنسان، ولا يخرج عليه إنس ولا جان ولا حيوان، لأنه من قوانين الله التي كتبها على صفحة الوجود يوم أخرجه من العدم، وقال له كن فكان

الجراد يأكل البعوض، والعصفور يفترس الجراد، والحية تصطاد العصافير، والقنفذ يقتل الحية، والثعلب يأكل القنفذ، والذئب يفترس الثعلب، والأسد يقتل الذئب، والإنسان يصطاد الأسد، والبعوض يميت الإنسان. . . هذه هي السلسلة الإلهية الخالدة لا تبديل لها ولا تغيير. إما أن تقتل الأسد، وإما أن يقتلك البعوض

فيا شباب! لا يغلبكم البعوض، ولكن اغلبوا الأسود!

الحق ثقيل، ولكن الحق أحق أن يقال. فأرجو إلا يغضب مَن ههنا من يحسبون أنفسهم شيوخاً إن خاطبت الشباب، وقلت إن المستقبل للشباب. ولكن من هم الشباب؟ يصف أندريه موروا الشباب بالرغبة الأكيدة في حياة العاطفة والحب، وحياة الحماسة والبطولة، أي بالمجون والاستهتار، والميل إلى الإصلاح، والإخلاص للمبدأ والزعيم، والاندماج والفناء في المجموع (في الجمعية أو الحزب أو الأمة) وبأنهم أدنى إلى المثل العليا، وبأن شعارهم الإقدام والتعجل والسرعة وبعض الأناة والانتظار. الشباب بهذه الصفات، ليس الشباب بورقة النفوس وسجل الميلاد؛ فكل من مات قلبه، وانطفأت شعلة حماسته، وضاعت مثله العليا، وأحس بأنه قد بلغ مأمله فلم يُعدْ له أمل، فهو شيخ ولو كان في العشرين من سنه. وكل من كان له قلب، وكانت له آمال ومطامح، وكل متحمس مندفع شاب ولو شاب!

فلا تغضبوا يا سادتي الكهول إذا قلت إن المستقبل للشباب ورفعت من شأن الشباب، فإن فيكم شاباً ولو ابيضت لحاهم ورءوسهم، وانحنت ظهورهم، وتجعدت جباههم. هم شباب العزائم والقلوب! وهؤلاء الخاملون من الشباب هم الشيوخ. لا تعجبوا يا سادتي، فلقد كان شوقي شيخاً في مطلع شبابه يوم كان شاعر الأمير، ثم عاد شوقي شاباً في كهولته يوم صار شاعر الآمال والآلام، شاعر العروبة والإسلام. . .

بقي عليّ تعريف الإسلام، ولكن من العبث يا سادتي أن أعرّف الإسلام، وأنا أحاضر قوماً هم بحمد الله مسلمون، ولا يكون مسلماً من لا يعرف ما هو الإسلام، ولا صلة له بعلومه، ولا اطلاع له على أحكامه، ولا وقوف له على أمره ونهيه، وعند أمره ونهيه. إن من العبث أن أقول لكم إن ديننا إيمان وعقائد، وإسلام وعبادات، وإحسان وأخلاق، وسياسية وشريعة، وأن له في كل جانب من جوانب الحياة مصباحاً يضيء، ومناراً يهدى، وإنه لا يفارق المسلم أبداً، ولا يدعه لحظة. إن كان وحده، منفرداً بنفسه كان معه الإسلام يأمره بأن يحاسب نفسه، ويتوب من ذنبه، ويتأمل في بديع صنع الله في نفسه وفي العالم، ويستدل بالصنعة على الصانع، وبالأثر على المؤثر. (وفي أنفسكم) أكبر الدلائل، وأقوى الحجج، (أفلا تبصرون. . .؟) أو لا يتفكر هؤلاء الجاحدون (اخلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟). (أو لم يتفكروا في أنفسهم؟ ما خلق الله السموات والأرض إلا بالحق وأجل مسمى)، (أفلا تتفكرون). وإن كان المسلم في المجتمع كان معه الإسلام، يبين له سبيل الحكمة، ويدله على صراط الأخلاق المستقيم، ويأمره بأن يحسن استعمال هذه القوى التي وهبها له الله، فلا يتبع بها ما ليس له به علم، (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) ولكن يستعملها في سبيل العلم، العلم كله حتى الفلك والجيولوجيا وعلم الأجناس، هذه العلوم من آيات الله. ألم يأمر الله بهذه العلوم التي يمنعها بعض مشايخ العصر؟ قال تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)، (إنما يخشى الله من عباده العلماء)

ينظم الإسلام العلاقة الاجتماعية خير تنظيم، ويبني الأمة أمتن بناء، يبدأ بإنشاء الأسرة فيجعل لها رأساً مسئولاً، له حق الطاعة لينتظم الأمر، وتتم المصلحة، وعليه واجب العدل والعمل، وجعل الرجل هو الرأس لطبيعة تكوينه وخلقته ونوع عمله وغايته (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) وجعل على النساء واجباً، ولكنه أعطاهنّ حقاً مثله (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، ورفع من شأن التربية، وجعل للمربين الأولين، للوالدين أرفع مقام، وجعل طاعتهما مقرونة بالتوحيد الذي هو رأس الدين وبيت قصيده ودعامة بيته. قال عزّ من قائل: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) ووضع خير القواعد وأحكمها للزواج والطلاق والإرث، وينظم الإسلام أمور الأمة، ويقيمها على أساس من الفضيلة والعدل. (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق) ويشرع لها القوانين الثابتة المحكمة في معاملاتها، والقواعد الأخلاقية السامية في علاقاتها الخاصة، ويدعو إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والدليل الواضح والبرهان القاطع، لا بالإرهاب ولا بالترغيب. (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) ودعا المخالفين إلى المحاجّة والمناظرة، وإقامة الأدلة (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم) (أإله مع الله قل هاتوا برهانكم). وعاب الإسلام التقليد والجمود واتباع الآباء والأجداد، وإهمال العقل، ودفع الناس إلى التفكير، وإقامة البراهين العقلية والأدلة اليقينية، أي أنه دعا منذ (1400) سنة إلى الطريقة العلمية التي يفخر بها علماء اليوم ويظنونها من ابتكارهم وأثراً من آثار حضارتهم. قال تعالى يذم أهل الجمود وينعى عليهم (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟)

إنكم تعرفون هذا كله أيها السادة لأنكم مسلمون، وإن من العيب أن ألقيه عليكم فما جئت لأعرف الإسلام، ولا أرد تعريفه. ولكن أحببت أن أوجه أبصاركم إلى مسألتين مهمتين: أما المسألة الأولى فهي أن ديناً يضع للعقل قواعد في التفكير، ويشرع للعلم طريق البحث، وينظم حياة الفرد وحياة الأسرة، ويكون هو القانون المدني والجزائي، والقانون الدولي، والأخلاق والفلسفة - إن ديناً هذا شأنه لا يصح أن يعدّ مع الأديان التي لا تتجاوز أحكامها عتبات معابدها، ولا يجوز أن نطلق عليه ما يطلقونه عليها من أحكام. فإذا قبلنا بمبدأ فصل الدين عن السياسة مثلاً وهو مبدأ محترم، فلا يصح أن نستنتج منه وجوب فصل الإسلام عن السياسة، لأن الإسلام ليس ديناً، ولكنه دين وسياسة. هل تستطيعون يا سادتي أن تحذفوا سورة براءة مثلاً من القرآن لأنها سياسة. .؟ وإن قبلنا مبدأ استقلال العلم عن الدين لأن الدين لا يستند إلى البحث العلمي ولا إلى العقل فلا يصح أن نسحب هذا الحكم على الإسلام لأن الإسلام ليس ديناً وسياسة فقط. ولكنه دين وسياسة ومنطق وعلم. . .

هذه يا سادتي حقيقة ظاهرة ظهور الشمس، ولكن أكثر شبابنا لا يرونها، خفيت عنهم، وغربت هذه الشمس من أفق تفكيرهم، فتخبطوا في ظلام ليل أليل، فلذلك ترونهم يأخذون كل ما يقوله الإفرنج عن دينهم فيطبقونه على الإسلام، على الاختلاف بينهما، والتباين بين طبيعتيهما. . .

ولعل من هذا الباب تسمية العلماء برجال الدين وإنها لتسمية باطلة فشت على ألسنة وعم بلاؤها ونسى المسلمون أنهم كلهم رجال الدين. دين الإسلام، دين المساواة والسمو والعمل، ليس فيه طبقات مميزات من طبقات، وليس أحد أحق به من أحد، وليس فيه جماعة هم وكلاء الله، يحلون ويحرمون، وهم أصحابه الأدنون وأهلوه الأقربون، وغيرهم الأبعدون، ولكن المسلمين كلهم (أبناء النبي وعترته والفارسيين والصينيين) وكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. . . لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى والعلم والقيمة الشخصية: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى). . . (يا فاطمة بنت محمد، لا أغنى عنك من الله شيئاً). .

فلا تقولوا للعلماء رجال الدين، ولا تحملوهم وحدهم واجبات الدين، فان رجال الدين هم كافة المسلمين. ليس عندنا إلا العلم والتقوى، فمن كان عالماً عظمناه وسألناه، ومن كان تقياً أجببناه وأجللناه، ومن أخطأ وحرف رددناه أو ردعناه كائناً من كان ذلك المخطئ وذلك الناقد. ليس الناقد بأقل من تلك العجوز، وليس المنقود بأجل من عمر! هذه المسألة الأولى. أما المسألة الثانية التي أحب أن أوجه إليها أنظاركم، فهي أن الدين على ما يفهمه العلماء من أهل أوربا هو الذي ينظم علاقة الإنسان بالله، وبما خلق الله من المخلوقات المغيبات وراء المادة وبالعالم الآخر، فلا علاقة له بالحياة السياسية ولا الأوضاع الاجتماعية، ولا بالقوانين والنظم، ولا يصح أن تبنى عليه الجامعة الوطنية. هذا ما يقرره العلماء الذين بحثوا في هذه الجامعة وطبيعتها وقيمتها، وفي مقدمتهم (رينان) في محاضرته المشهورة التي ألقاها في السربون سنة 1882. وهذا صحيح في الأديان ولكنه ليس بصحيح في الإسلام، لأن الإسلام ذاته وطنية، ورابطة اجتماعية معنوية، ليست قائمة على لغة ولا على أرض. ولكن على ما يسميه (أرنست رينان) بالإرادة المشتركة ويجعله أساس الرابطة الوطنية. فليس وطن المسلم مكة ولا المدينة ولا البلد الذي ولد فيه، ولكن وطن المسلم المبادئ الإسلامية، فحيثما وجدت هذه المبادئ وحيثما كان أهل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فثّم وطن المسلم. وعندي أن هذه الرابطة الإسلامية رابطة (إنما المؤمنون اخوة) معجزة من أعظم معجزات الإسلام لأنه أقر منذ أربعة عشر قرناً المبدأ الذي اهتدى إليه العقل البشري سنة 1882م وسار منذ أربعة عشر قرناً في الاتجاه الذي يسير فيه العالم اليوم. لقد سقط اليوم مبدأ القوميات الذي دعا إليه الرئيس ولسن بعد الحرب ونهضت المبادئ الفكرية الاقتصادية، فانقسم العالم كما ترون إلى جهات ثلاث: الديمقراطية والشيوعية والفاشية. وكما أن الشيوعي الفرنسي أخو الشيوعي الروسي ولو تناءت الديار وتباينت اللغات واختلفت الأجناس فكذلك المسلم أخو المسلم، أينما كان وكيفما كان. وكما أن الفاشيّ الإيطالي أقرب إلى الأسباني الفاشي من أخيه الأسباني الشيوعي فكذلك المسلم الهندي أقرب إلىّ من غير المسلم ولو كان عربياً هاشمياً قرشياً!

وليس هذا مجال البحث في الجامعة الإسلامية، وطريق تحقيقها، فإن لهذا البحث موطناً آخر وما أردت إلا لفت أنظاركم إلى هذه الناحية من الإسلام، لأقول بأن الشاب المسلم لا يستطيع أن يندمج في أي رابطة دولية تقوم على اخوّة غير الأخوة الإسلامية، ولا يقدر أن يدعو إلى أي رابطة قومية أو جنسية لأنه ليس من المسلمين من دعا بدعوة الجاهلية. . .

(البقية في العدد القادم)

علي الطنطاوي