مجلة الرسالة/العدد 240/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 240/رسالة العلم

مجلة الرسالة - العدد 240
رسالة العلم
ملاحظات: بتاريخ: 07 - 02 - 1938



ما بعد الطبيعة

الحياة

للسيد محمد حسن البقاعي

- 2 -

إن الإنسان ليتساءل فيقول: ما هو أساس الحياة؟ تُرى هل هو نمو الحسِّ وحركاته وألمه وعضويته؟ فهذه المسألة لا يمكن الجواب عليها إلا بالاستعانة بالعلم والفلسفة. على أن البحث في الحياة ليس إلا التفتيش عن الحي هل هو ناشئ عن مادة أو هل الحياة الموجودة في الجسد مًحصِّلةٌ لأمور مادية أم خاضعة لمبدأ روحي عقلي؟

ولعمري إن الغوص في بحث الحياة وسبر غورها ليتطلب البحث في النظريات التي وضعها الفلاسفة من القرون الأولى حتى عصرنا الحاضر. وهذه النظريات على نوعين:

(1) النظريات الآلية

(2) النظريات الحركية

أما خلاصة ما يقوله واضعو النظريات الآلية فهي: إنه من الممكن تعليل الحياة بالخواص الموجودة في كل نوع من أنواع المادة، أي يمكن تعليل الحياة بالحركة التي تصحب المادة. فقد قال (فاندال): (ليس تشكل نبات أو حيوان أو تبلور إلا حادثة ميكانيكية لا تختلف عن قضايا الميكانيك الاعتيادية إلا أن العناصر فيها بسيطة جزئية) على أن كيفية الحركة مركبة، فهي تعلل كل شيء بالمادة، مثال ذلك: تركيب الماء من ليس هو إلا تركيباً مادياً ويدعمون نظريتهم هذه بسلسلة من الأدلة الطبيعية

الدليل الأول: إننا نستطيع إرجاع كل شيء من مظاهر المادة إلى حركة، فالحرارة والنور يرجعان إلى اهتزاز وحركات فَلِمَ لا نعتبر الحياة مثلها ونرجعها إلى الحركات؟

الدليل الثاني: إن مبدأ (لا فوازيه المشهور، والمعروف بمبدأ حصانة المادة وبقاؤها لخير دليل على أن الأجساد الحية لا يوجد فيها شيء غير المواد الكيميائية التي تنتج بتحليلها تحليلاً كيميائياً، إذ أننا لو وَزنَا المواد الحاصلة بعد التحليل الكيميائي ووزنا الجسم المح قبل ذلك لوجدنا هناك تعادلاً

الدليل الثالث: كلنا يعلم أن التركيب الكيميائي يعطي مُركباتٍ ذات خواص لا توجد في العناصر المركبة، فتركيب كلور الصوديوم من الكلور والصوديوم يكسب المركب خواص مغايرة لخواص كل من عنصريه فَلِمَ لا تكون الحياة مركباً ناشئاً من مركبات مختلفة؟

الدليل الرابع: لقد سمحت لنا التجارب الحديثة بمشاهدة بعض المماثلات والمناسبات الغريبة بين بعض صور الموجودات الحية وبين صور بعض الأجسام البللورية؛ فمن هنا نرى أنه يمكن إيضاح الحياة ميكانيكياً مثلها

ولكن هذه الأدلة لم تسلم من الأعتراض؛ فقد اعترض عليهم بعض الفلاسفة فقالوا: (إن العلماء حتى اليوم لم يستطيعوا أن يركبوا الحياة) غير أن هذا الاعتراض يستند إلى أساس أو هي من بيت العنكبوت. وهذا الأساس ليس إلا تلك التجربة التي قام بها (باستور) وأثبت عدم إمكان التوالد العضوي. فإذا لم يوصلنا العلم حتى الآن إلى تركيب جسم حي فلا بد أننا في المستقبل نستطيع ذلك. على أن كلام باستور: (إن الحي لا يتولد إلا من الحي) لا يمكن أخذه كمبدأ أساسي ما دام العلم في ارتقاء وتقدم مستمرين، وها هو (ليبنيز يقول: إن كل شيء في العالم يحدث ميكانيكياً. ولكن يجب أن ترتقي إلى مبدأ أعلى، وهو المبدأ الميتافيزيكي ليتجلى لنا إيضاح الميكانيكية نفسها: على أن في الحياة نظاما واتساقا خاصا لا يمكن تعليله في الحياة الميكانيكية فقط؛ مع أننا لا ننكر أن كثيراً من الحوادث الحيوية يمكن تعليها بالحوادث الميكانيكية. فقد قال (كلود برنارد ليس تكوُّن الجسم الحيوي من مجموعات عناصر كيميائية هو كل ما نمتاز به، بل هو الحياة أي القوة الحيوية التي لا توجد في الكيمياء، كاتجاه أعضائنا كل منها إلى غاية كغاية القلب وغاية المعدة. . . فنحن في هذه النظرية في عالم الأفتراض؛ لذلك نقول: إن كلاٍّ من هاتين النظريتين: الميكانيكية والديناميكية تستطيع دحض الأخرى وتقويضها

ولقد اعترض (هنري برغسون على نظرية الميكانيكية فقال: الحياة كلها إبداعُ فهي مبدعة: أي أن تيار الحياة يأتي دائماً بالجديد. فالحوادث الحيوية فيها عدم تنبؤ ولا يمكننا أن نتنبأ بأن الأحفاد فيهم صفات الأجداد، وهذا ما يدعونا إلى عدم إيضاح الحياة وزيادة على ذلك فإن الحوادث الحيوية الموجودة في الجنين لا يمكن إيضاحها بصورة ميكانيكية: فنرى أن الشبكة العينية عند ذوات الفقرات ناشئة عن اتساع القسم الدماغي في الرشيم الحديث بينما هي عند النواعم مشتقة من الأدَمة أي من الخارج بصورة مباشرة لا بواسطة الدماغ. ومن هنا نرى أن العضو الواحد في حيوانات مختلفة لا يتشكل من نفس العنصر. والسبب في ذلك لا يمكن تعليله بالعناصر الميكانيكية في الرشيم ولا بشروط الإقليم والبيئة الموجودة فيها الرشيم. فتجدنا مضطرين إلى افتراض مبدأ مسيطر أي غاية واتجاه. وإذا اعترضنا على الميكانيكية والحركية هل نصل إلى شاطئ الصواب؟ كلا! فلا يسعنا لحل هذه المسألة إلا الرجوع إلى نظريات غير الحركية والآلية علنا نقرع باب الحقيقة ونلمسها بأناملنا العشر. فلنبدأ بذكر النظرية الحيوية فنقول: إن أصحاب هذه النظرية هم لروه وبارتس وكافة أطباء مدرسة (مونبيليه) وهم يعتقدون أن الحياة لم تنشأ إلا عن مبدأ خاص لا روح ولا شيء آخر، بل هو مبدأ حيوي وسط بين الروح والجسد. . . وقد تتجلى للقارئ قيمة هذا التعليل بمجرد ذكره فهو بدلاً من أن يوصلنا إلى حل هذه المسألة؛ أوجد لنا معضلة أخرى لذلك فان الحيويين مثل (بروسن) و (كابانيس وغيرهما من مدرسة باريس غيروا رأيهم فقالوا: ليست الحياة ناشئة عن مبدأ مفارق للجسد والروح؛ ولا عن خواص المادة. بل هي ناشئة عن خواص معينة حيوية من نوع ثابت معين موجود في الجسد، أي أن المادة فيها خاصة الحياة عدا خواصها المعروفة. وإذا عَرَّجنا الآن على نظرية العضوية القائلة: (إن الحياة هي وجوه الأعضاء في الجسم على هذه الصورة فهذا الوضع هو الذي أكسبها خاصة الحياة) نجد أننا لم نزل في غياهب جهل بحقيقة الحياة؛ بل كدنا أن نرتبك أكثر مما كنا فيه. إذن فلنبحث الآن في النظرية النفسية وهي النظرية التي تقول: (النفس مبدأ الحياة الأساسي). فإن الحياة تفارق الجسد عندما تفارقه النفس، وهي مبدأ العقل أيضاً فإننا نجد علاقة صحيحة بين الحياة العاقلة والحياة المادية أي أن مبدأ العقل هو مبدأ الجسد. ويثبت أصحاب النظرية النفسية رأيهم هذا بوجود الوحدة في الجسد بالرغم من هذه الكثرة، فبما أن في النفس غاية واحدة فهي إذن المبدأ الأول للحياة

ولا يمكننا إيضاح هذه الوحدة وهذا التناسق إلا بهذه الغاية الموجهة، إلا وهي النفس. على أننا لا نعرف بأية صورة تؤثر الروح في الجسد؛ وهذا الأمر شغل كثيراً من علماء النفس وعلماء الاجتماع والفيسيولوجين، ولم يستطيعوا التوصل إلى حل معقول. فنحن إذن لا نزال في عالم الفرضيات؛ أضف إلى ذلك ما يعرضه بعض الفلاسفة على أصحاب هذه النظرية من الأسئلة، فقد قالوا: إذا كانت النفس لها تلك القدرة التي يسندونها إليها - أي هي التي تحمي الجسد - فلماذا تتركه يفسد فيزول أو يمرض؟ وكيف توضح الحوادث التي تحدث في الجسد بعد مفارقة الروح له كأن يطول الظفر بعد الموت وينمو الشعر؟ وماذا نقول إذا علمنا أن بعض البوليب التي تعيش في المياه الحلوة إذا قطعت بصورة عرضية، أي إذا شطرت شطرين، يكون كل شطر منهما ذا حياة جديدة ويعيش؟ ألم يقرروا أن النفس لا تنقسم؟ إننا نجد هذه النظرية لا تخلو من الصعوبات أيضاً. ولقد وضع (داروين وكروسي) نظرية دعيت بالنظرية الروحية الكثيرة العناصر الحيوية فتقول: (الحياة ناشئة عن الروح والجسد معاً أي عن عنصرين. فلا يعتبر الجسم مادة عاطلة لا حياة فيها، بل هو مستعمرة لحجيرات كثيرة كل منها لها حياتها الخاصة؛ والنفس توجد هذه الحياة الكثيرة العناصر وتوجهها إلى جهة واحدة)

فهذه النظرية لم تكن أسعد حظاً من رفيقاتها السابقة، بل هي لا تختلف عن نظرية مدرسة مونبيليه من حيث توضيحها للحياة بالحياة نفسها

وفي ختام هذه البحث لا يمكننا إلا القول: الحياة هي قوة إلهية كامنة يبثها الله تعالى في الموضع الذي خصصه لها وهي كل جسم صالح للحياة. وقد تبين لنا أن العقل البشري منذ القرون الأولى إلى العصر الحاضر لم يكتشف كنهها، فهو إذن عاجز عن إدراك الحقيقة النهائية للحياة، ولعل الله يكشف لبعض الأدمغة الواسعة عنها فيخلص طائفة كبيرة من عناء التفكير فيها ويردعهم عن الوقوع في الزلات الجسيمة وارتكاب الأخطاء العظيمة

(انتهى بحث الحياة ويليه بحث الروح)

(دمشق)

محمد حسن البقاعي