مجلة الرسالة/العدد 242/غريب الهوى

مجلة الرسالة/العدد 242/غريب الهوى

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 02 - 1938


في عيد القمر

للدكتور زكي مبارك

أتذكرُ يا قلبي؟

أتذكر أن من الناس من يقول: (عيد الأضحى)، وأن منهم من يقول: (العيد الكبير)، وأن أهل سنتريس يقولون: (عيد القمر) كأنما عزّ عليهم أن يبقى القمر بلا عيد؟

ليت شعري أظلّ أهلي وأهلك يسمونه عيد القمر، أم تغيرت من بعدنا الأسماء؟

كان لي أهل، وكان لك أهل، يا قلبي

أما أهلي فبخير، وإن كانت أتوجع كلما ذكرت أن أولئك الأهل خلا ناديهم من وجه أبي؛ وكان لك أهل يا قلبي، ولكن أخبارهم غابت عني منذ أزمان. فإن كانت عندك أخبار فحدثني عنهم، فما أحب لك أن تعيش في دنياك عيش الغريب!

لا تكتم عني شيئاً يا قلبي، فم لك في الدنيا آسٍ سواي. أما رأيت كيف كانت أحاديث الناس في هذا المساء؟ فما لقيني أحد من أعضاء المؤتمر الطبي إلا سألني عن صحة ليلى. وما أذكر أبداً أن أحداً سألني عنك! وكذلك جاز أن يسأل الناس عن صحة القاتل ويسكتوا عن فجيعة المقتول! والويل كل الويل للمغلوب

إن ليالي الأعياد ترجعني إليك يا قلبي

فهل تذكر يوم كنا طفلين، حين كان من المألوف أن يزور الناس المقابر وفي أيديهم المصابيح؟ وهل تذكر أننا سألنا مرة عن الحكمة في حمل المصابيح في الليلة المقمرة، ليلة عيد القمر، فكان الجواب أن الأموات يأنسون بالأضواء؟

فهل تسمح بأن أحمل مصباحاً في هذه الليلة، وأخرج معك لزيارة المدفون من أوطارك وأحلامك؟ ولكن أين المقابر التي دفنت أوطارك وأحلامك حتى أونسها بضوء المصباح؟ أين؟ لا أين، فإني أخشى أن تكون المقادير صنعت بأحلامك ما يصنع البحر بما يُدفن فيه من سرائر القلوب!

حدثني أين دفنت أحلامك، فإني أعرف أنك قليل البخت في دنياك. ولو كان لك بخت لما جاز أن تبيت مشرد الأماني في ليلة عيد قلبي، قلبي!

يرحم الله غربتك بين القلوب!

قلبي!

أتذكر ما صنعت في سبيلك؟

لقد فررت بك من سعير الحب في القاهرة، ونقلتك إلى بغداد: دار السلام، فهل كانت بغداد يا قلبي دار سلام؟ أم كان أسمها من أسماء الأضداد؟

لقد تجهمت أبشع التجهم حين وقع البصر عليها أول مرة، واستقبلتني بوجه يتطاير منه شرر القسوة والوعورة، فقلت: لا بأس، فهي هدنة يستجم فيها قلبي، ليقوى على مناضلة العيون حين يرجع إلى القاهرة. ولكنك استوحشت وأخذت تفتش عن (عيون المها بين الرصافة والجسر) وقد انخدعت لك فتركتك ترود مراتع الغزلان وأنا آمن، فقد كنت سمعت أن بغداد لم يبق فيها للحب سامر ولا أنيس، ثم وقعت الواقعة وأسرتك عيون المها بعد أسبوعين أثنين من قدومنا بغداد

قلبي!

لقد كان يعز علي أن تخرج من بغداد بلا هوى، فمن الفضيحة لبغداد أن لا تكون فيها عيون ترمي فتصيب، ولكني ما كنت أحب أن أحملك جريحاً محطماً إلى الأنامل الرقاق التي تعبت في تضميد جروحك بين مصر الجديدة والزمالك. وما كان يخطر بالبال أن تكون دار السلام دار حرب، وأن تتألب ظباؤها على قلب أعزل كان يرجو أن لا يعرف البلاء وهو ضيف العراق

من كان يظن أن هذه المدينة الجافية التي لا تعرف غير وصل النهار بالليل في سبيل الرزق أو المجد، من كان يظن أن مثل هذه المدينة تعيش فيها مباسم وعيون لا تتقي الله في الناس؟ من كان يظن أن ينعدم كرم الضيافة في بغداد حتى يستبيح ظباؤها انتياش قلبٍ غريبٍ لا يملك من وسائل الدفاع غير الأنين؟

أهذا جزاء الصنع الجميل في بغداد؟

أهذا جزاء من يملأ الصحف العربية بالثناء على العراق؟

سيعود ناس إلى أوطانهم صحاح القلوب، وأعود إلى وطني بقلب ممزق لم تبق منه غير أطياف من الأشلاء

بغداد!

لقد كاد يسفر الصبح ولم تغف عيناي. أكذلك تكون ليالي الأعياد، يا بغداد؟ ليتني أعرف أين يقيم اللصوص الذين سرقوا النوم من جفوني! ليتني أعرف أين يقيم أولئك اللصوص فأنتقم منهم أشنع انتقام بتقبيل جفونهم في غفوات الليل!

بغداد!

خذي من نومي ما تشائين، بل خذي من دمي ما تشائين، فلن أنسى ما حييت تلك المؤامرة الوجدانية: مؤامرة العيون: عيون المها، على قتلي؛ فإن من الشرف أن يكون المرء قتيل المها في بغداد

إي والله! هذا الصبح يتنفس وما غفت عيناي. فهل تعرف الظباء التي كانت تعترض طريقي لتصرعني أنني لا أزال بين الأحياء؟

أنا أدعوها إلى مناضلتي مرة ثانية، وموعدنا بهو أمانة العاصمة يوم الأربعاء

أحبابي في مصر الجديدة والزمالك!

ناموا هانئين وادعين، وانهبوا ما شئتم من أحلام الأماني، فسأغفر لكم جريمة النسيان والعقوق

أحبابي في بغداد!

تذكروا أن الشاعر لم يعن أحداً غيري حين قال:

وكل محبٍّ قد سلا، غير أنني ... غريبُ الهوى، يا ويح كل غريب!

زكي مبارك