مجلة الرسالة/العدد 244/من برجنا العاجي

مجلة الرسالة/العدد 244/من برجنا العاجي

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 03 - 1938


طالما جلست في صباي ساعات طويلة أتأمل قوافل النمل تسير على الحيطان. وكنت أحياناً أدنو منها وأصيح بأصوات مدوية، فما يبدو عليها أنها سمعت شيئا؛ فالنظام هو النظام، والخطى هي الخطى، والتجارة الضخمة المحمولة على الأعناق: وهي جناح (صرصار) كبير، ما زالت تتهادى مطمئنة في طريقها إلى عاصمة المملكة العتيدة داخل ذلك الثقب البارز في أسفل الجدار. وكانت الجيوش قد قاربت المدينة؛ وخرجت جيوش أخرى تستقبل القادمين وتحمل عنهم بعض العبء. وكأن الجميع في فرح وحركة ولغط لا يصل صداه إلى مسامعي الغليظة؛ كما أن أصواتي الراعدة لا تبلغ آذان تلك المخلوقات الدقيقة. فحدثتني النفس أن أحدث حدثاً في تاريخ هذه (البشرية) الصغرى، فأتيت بكوب من ماء وصببت مما فيه على القوافل الظافرة. ولبثت أنظر إلى الكارثة في ابتسام، فإذا شمل الجيوش قد تمزق، وإذا الذعر قد دب في الجموع. ولكن الفلول سرعان ما عادت تحمل (التجارة) من جديد في حرص المستميت. عند ذلك أقصيت الكوب وقد تحرك قلبي وقلت في نفسي: إن هذه المملكة ولا ريب تأخذ الآن عبثي على سبيل الجد، وأنها ولا شك تحسب ما حدث الساعة ظاهرة من ظواهر الطبيعة القاسية. فما هذا عندها إلا سيل العرم، أو طوفان هائل، أو قضاء هبط من السماء. وتأملت لحظة شأننا نحن (البشرية) الكبرى، وقلت: من أدرانا أنا لسنا أحسن حالاً من هذا النمل؟ ومن أدرانا أن ما نسميه ظواهر جوية وطبيعية من زوابع وأمطار وزلازل وبراكين ليس إلا عبث مخلوقات أخرى ذات أحجام وصفات لا نستطيع لها تصوراً؟ ومن أدرانا أن ليست في هذا الكون أصوات هيهات لآذاننا الصغيرة أن تدرك وجودها؟ لم لا نكون نحن أيضاً نملاً أرقى من هذا النمل وأحط من نمل آخر من جوهر آخر لا نعرف ما هو؟ إن الله لأعظم مما نظن؛ وإن حواسنا لأقل إدراكا لما في الكون مما نتخيل!

توفيق الحكيم

ليلى المريضة في العراق

للدكتور زكي مبارك - 12 -

. . . وبكّرت إلى منزل ليلى بكور الندى لأدعوها إلى شهود حفلة الافتتاح. فوجدت الشقية في الفستان المصري الفضّاح الذي زارت به معرض القاهرة في ربيع سنة 1926، وكان يجب على ذلك الفستان أن (يذوب) بعد أن (ذابت) به أكباد وقلوب، ولكنها حفظته تذكِرةً لحبها الأول، الحب المشئوم الذي أورثها الضنى والذبول، الحب الذي عجز عنه الأطباء والذي أجاهد في خلاصها منه بحب أقوى وأعنف، إن كانت الصبابات القديمة أبقت في عزيمتي ذخيرة للجهاد. . وقد اهتاجت الغيرة في صدري حين رأيت ذلك الفستان فكدت ألطم ليلى على خدها الأسيل. ثم تراجعتُ حين تذكرت أن بلواها من بلواي. وهل كان حبي في بغداد أول حب حتى أنتظر أن تحبني ليلى أول حب؟ إن المسكينة تعرف أن طبيبها من قدماء المحاربين، وتعرف أنه لم يحمل النظارة إلا بعد أن تعبت عيناه من نضال العيون. فليكن أنسها بحبي أنس الجريح بالجريح، ولتفهم أني أشفيها من جواها لتشفيني من جواي

وقديماً قال الشاعر:

يا خليليّ والرفيق مُعينٌ ... أسعفاني ببعض ما تملكانِ

أبتغي آسياً فقد عِيل صبري ... من توالي الوجيب والخفقانِ

أبتغي صاحباً تولَّه قبلي ... وشجاه من الجوى ما شجاني

فلقد يُسعف الجريح أخاه ... ويواسي الضريب في الأحزانِ

وبعد تناول ما تيسر من الصَّبوح خرجنا في السيارة إلى بهو أمانة العاصمة، فترجلت عند باب المعظَّم لتدخل وحدها، ومضيت أحمل آمالي وآلامي، فلما وصلت إلى مدخل البهو اعترضني أحد الضباط قائلاً: سيدي، هذه الحفلة خاصة بالأطباء. فقلت: وأنا طبيب ليلى. فابتسم وقال: تفضل، تفضل

وسألت بعد ذلك عن الرجل الشهم الذي أفسح الطريق لطبيب ليلى فعرفت أنه السيد سليم محمود معاون مدير شرطة السير والمرور، وسيحدثنا الضابط عبد الحسيب فيما بعد أن الغرام بالأدب من أظهر صفات الضباط بالعراق وكانت ليلى تعرف أن طبيبها يكره أن تأخذها العيون، فنظرت في أماكن السيدات فلم تجد أصلح من جيرة السيدة التي تنطق أسارير وجهها بأصدق معاني الكرم والنُّبل، عقيلة الرجل الشهم الذي يمثل المروءة المصرية في العراق

أما أنا فأخذت مكاني بين الدكتور عُسَيران والدكتور عَلاَّوي.

وكنت - مع الأسف - ذهبت إلى الحفلة وأنا أضمر الشر للأستاذ علي الجارم، فقد كِتب في منهاج الاحتفال أنه (شاعر مصر) وأنا أبغض الألقاب الأدبية. فلما وقف ليلقي قصيدته لم أصفق، وأعديت مَن حولي بروح السخرية فلم يصفقوا، ولكن الجارم قهرني وقهر الحاضرين جميعاً على أن يدموا أكفهم بالتصفيق.

وغاظني أن تصفق ليلى لشاعر يرى بحكم منصبه أنه رئيسي، لأنه كبير المفتشين بوزارة المعارف المصرية. ولولا حكم الأقدمية لكنت الرئيس وكان المرءوس، ولكن ماذا أصنع وقد سبقني إلى الأستاذية بأعوام طوال؟

وأنا والله أظلم نفسي بهذا الكلام، فما أذكر أبداً أني حقدت على إنسان. وما أذكر أبداً أني عرفت معاني الحسد والضغن إلا على الدهر المخبول الذي يتسفل فيرفع الأدعياء. وقد هجمت على شاعرنا الجارم عدة مرات، وحاربته في وزارة المعارف يوم رأى زميلي الأستاذ أبو بكر أن يكتب في نشرة رسمية أنه أمير الشعراء. وقد عرف الجارم خطر ما أصنع، فكان هو أيضاً يحاربني في مكتب تفتيش اللغة العربية؛ ولولا سماحة الأستاذ جاد المولى بك لكانت النتيجة أن أعيش بين المفتشين بلا صديق

فيا أيها العدوّ المحبوب الذي اسمه علي الجارم، تذكر أنك كنت حقاً وصدقاً شاعر مصر في المؤتمر الطبي العربي، وستمر أجيال وأجيال ولا ينساك أهل العراق

وهل تعرف مصر أنك رفعت رأسها في العراق وأنك كنت خليفة شوقي في المعاني وخليفة حافظ في الإلقاء؟

إنني أطلب المستحيل حين أطلب من مصر إنصافك. وهل أنصفتني مصر حتى أنصفك؟ هل أنصفتني مصر وكنت مجنونها وكانت ليلايّ؟

يرحمني الله ويرحمك، فعنده وحده جزاء المجاهدين

وعند نهاية الاحتفال دعوت ليلى للتسليم على سعادة العشماوي بك، وسعادة علي باشا إبراهيم، وفضيلة الشيخ السكندري

أما العشماوي بك فسلّم تسليماً خفيفاً، سلم تسليم (المتبالهين) ليظهر أنه أكبر من أن يفتنه الجمال، والعشماوي بك (يتباله) في جميع الأحوال، وقد درسته حق الدرس، فعرفت أنه يحمل كبداً أرق من أكباد المحبين، ولكن له قدرة عظيمة على (التبالُه) فمن الذي علّمه هذا الأسلوب؟

وقد حقدت عليه ليلى، فليعرف سعادته أن غضب ليلى سيحل عليه، وسيرى عواقب ذلك في الأيام المقبلات!

أمَا يَخِفَّ وُقارك مرة يا عشماوي بك؟ اتق الذوق إن لم تتَّق الجمال!

وقد قهقه الشيخ السكندري حين رأى ليلى وقال: كنت والله أحسبك تمزح يا دكتور زكي، وما كنت أظن أنك جئت حقيقة لمداواة ليلى المريضة في العراق

والشيخ السكندري معذور، فهو يظن أن العشق انتهى من الدنيا بعد قيس وليلاه، وأن الناس لم يعودوا يحبون غير الملوخية الخضراء!

أما الدكتور علي باشا إبراهيم فنظر إلى ليلى نظرة الأرقم وقال: ما أستطيع الحكم بشفاء ليلى إلا بعد أن أفحصها بنفسي

ورأت ليلى أني غضبت فقالت: إني أحترم رأى سعادة رئيس المؤتمر الطبي، ولكني أفضل الموت على الحياة في سبيل الأدب مع طبيبي الخاص

ولم أرد أن تطول اللجاجة بيني وبين رجل كان رئيس اللجنة التي أديت أمامها الامتحان النهائي في كلية الطب، فأخذت بذراع ليلى وانصرفت

وأراد سعادة العشماوي بك أن يترضاني فرفضت، لأني كنت أعرف ما يريد، وهل كان يريد غير إيناس عينيه بوجه ليلى؟ اطْلَع من (دُولْ) يا سعادة الوكيل!

وفي الطريق سألتني ليلى عن العشماوي بك، وقد ساءها أن يتلقاها بوجه صامت التقاسيم، فشهدت عند ليلى بأنه رجل فاضل، وان جموده في حضرتها لم يكن جمود استهانة، وإنما كان جمود تعقُّل، والرجال الرسميون يغلب عليهم التعقل في أكثر الأحيان!

فهل يعرف سعادة العشماوي بك أنني ذكرته بالخير في حضرة ليلى؟

لا أمُنُ عليه، فهو يستحق ذلك، وأكثر من ذلك وفي مساء ذلك اليوم أرادت ليلى أن تحضر معي في الحفلة التي أقامها فخامة رئيس الوزراء، فقاومتها مقاومة شديدة، وكانت حجتي أنها ستكون من الحفلات التي يختلط فيها الحابل بالنابل، وأنه ليس من العقل أن تتعرض ليلى لأنظار المئات من الناس وفيهم الفاضل والمفضول

وكنت على حق في منع ليلى من حضور حفلة المساء، فهي امرأة محجوبة عن المجتمع منذ سنين؛ وسيكون مَثلها حين ترى اختلاط الرجال بالنساء مَثل العين الرمداء التي تواجه الشمس بعد أن حجبها الطبيب عدة أسابيع في الظلام، ولكنها ألحت، ثم انتقلت من الإلحاح إلى التوسل، ومن التوسل إلى البكاء، والمرأة أقوى ما تكون حين تنتحب، فتخاذلت وقلت في نفسي: لعل هذه اللجاجة تعود عليها بالنفع، ولعلها حين ترى تسامح المجتمع الحديث لا ترى غضاضة في أن أغازلها حين أشاء

ولكن هذا الخاطر تبدّد في مثل لمحة الطرف، فأنا أعرف أن وزير المعارف من علماء النجف، وهو بالتأكيد يكره سفور المرأة، وإن ساير العصر فأباح اختلاط الجنسين في المعاهد العالية. ومن المحتمل أن يكره ظهور ليلى في المجتمع بلباس السهرة. ومالي لا أقول الحق كله فأقرر أن أهل العراق في النجف وغير النجف ينظرون إلى سفور المرأة بعين الارتياب؟ مالي لا أذكر بصراحة أن أكثر وزراء العراق يكرهون حضور زوجاتهم في الحفلات الساهرات؟ مالي لا أنص - للحقيقة والتاريخ - على أن وزراء العراق أكثرهم من رجال الجيش، والجيش يطبع أبناءه على الخشونة والصرامة والعنف، وأنهم لأجل ذلك من أغير الناس على كرامة ربات الحجال؟

وأخيراً أعلنتُ ليلى بالرفض المطلق، فأغربت في البكاء والشهيق

غضبة الله عليك يا ليلى وعلى جميع بنات حواء!

ورأيتُني مع الأسف طفلاً في حضرة هذه المرأة، فقد استبكتني فبكيت

ومع ذلك جمعت أشلاء عزيمتي وأصررت على الرفض

وعندئذ تدخلت ظمياء وهي تقول: هل لك أن تسمح بأن تخرج ليلى معك في ثياب فتىً من الأعراب؟

فكدت أطير من الفرح لهذا الاقتراح الطريف، ومضت ظمياء فأحضرت ملابس ابن عمها عبد المجيد، فلبست ليلى بسرعة البرق، وخرجت معي

ولكنا ما كدنا نخطو بضع خطوات حتى تنبهت إلى الخطر المخوف، فقد تذكرت أن ليلى وهي في ثياب الفتى البدوي لن تقضي السهرة كلها في صمت، وهل يمكن لامرأة أن تسكت؟ وليلى تملك صوتاً هو في ذاته من كبريات الفضائح، وقد نصصت فيما سلف على أن لصوتها رنيناً مبحوحاً لم تسمع مثله أذناي على كثرة ما تذوقت من بُغام الملاح

فالتفت إليها وقلت: ليلى، ليلاي، اسمعي واعقلي، فإن صوتك سيفضحنا في الحفلة

فقالت: أتعهد بالصمت المطلق

فقلت: وكيف؟ وهل أضمن السلامة من واغل سخيف يسلم عليّ عمداً ليظفر منك بتحية، فتكون نبرة واحدة من صوتك المقتول نذيراً. بعواصف الفضائح؟

ولنفرض انك تلزمين الصمت ويلزم الناس الأدب فكيف تخفين هذه المشية؟

إن مشيتك يا ليلى فضيحة ولو لبست ثياب الجاحظ، والسامرون ينظر بعضهم إلى بعض، وأنت ستخطرين حتماً بين السامرين، وما أضمن أن يتأدب الجميع فلا تطرق سمعك كلمة نابية أقع بسببها في معركة تطنطن بها الجرائد في مصر والشام والعراق

اعقلي يا ليلى، اعقلي. . .

ولكن اللئيمة لم تسمع، ومضت تخطر في الطريق، فلطمتها لطمتين ورجعتها صاغرة إلى البيت، فودّعتني وهي تقول: سلمت يداك، فإني أحب الرجل البطاش

دخلت الاحتفال فوجدته يموج بالطرابيش فتهيبت وتخوفت وانتظرت حتى يأخذ المدعوون أمكنتهم من السماطين، لأتخيّر مكاناً ليس فيه طرابيش. ولا أدري ولا المنجم يدري كيف أخاف الطرابيش! وربما كان السبب في ذلك أني أريد أن أحيا في الحفلة حياة سعيدة، وهي لا تكون كذلك إلا إن خلت من التوقر، وما يمكنني أن أخرج على التوقر في حضور المطربشين. وهل لبست السدارة إلا لأنجو من عنجهية المطربشين؟

عفا الله عن مصر! فقد قتلت ما في صدري من شاعرية بفضل ما درجت عليه من التزمت والجمود

ولكن أين أجلس على المائدة؟ أين؟ أين؟

الحمد لله! هذا مكان يزدان بعمامتين من وطن سيدنا عمر ابن أبي ربيعة رضي الله عنه، وكان عمر بن أبي ربيعة من المجاهدين الذين قال فيهم جميل:

يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... وأي جهاد غيرهن أريد

لكل حديث عندهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد

ومن مزايا سيدنا عمر بن أبي ربيعة أنه وُلدَ في الليلة التي مات فيها سيدنا عمر بن الخطاب. وقد اشترك هذان القرشيان في الجهاد، فكان ابن الخطاب يغزو الممالك والشعوب، وكان ابن أبي ربيعة يغزو الأفئدة والقلوب

وأريد أن أقول إن عمر بن أبي ربيعة لا بد أن يكون ترك في الحجاز بعض التقاليد الصالحات، وقد أجاز له القرشيون أن يقول:

نظرت إليها بالمحصَّب من مِنًى ... ولي نظر لولا التحرج عارمُ

ولا يمكن أن يكون النظر إلى امرأة في المؤتمر أخطر من النظر إلى امرأة في المحصَّب، وما جاز في مكة وهي بلد حرام لا يمنع في بغداد وهي بلد حلال

وكلك اطمأننت على المائدة كل الاطمئنان

ولكن ما هذه المفاجآت؟ أراني لا أخرج من مأزق إلا وقعت في مأزق

هذه عمامة ثالثة، وهي من نوع خطر، لأنها عمامة وزير المعارف. . .

ونظرت فرأيتني فرغت من التهام الحساء، وتغيير المكان بعد ذلك باب من السخف

وما الذي يخيفني من وزير المعارف وهو من كبار الشعراء ولا يخلو شاعر من صبوات؟

ما الذي يخيفني من جيرة شاعر سليم الذوق مثل معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي؟

يخيفني أنه أديب صار وزيراً، وحياتي امتلأت بالأكدار والأوحال بفضل صحبتي لرجل أديب صار من الوزراء. وأنا في هذه المذكرات لا أتجنى على أحد، وإنما أسجل صور المجتمع وكان في مصر أديب يعطف على أدبي أشد العطف، فلما صار وزيراً فسد حالي عنده أشد الفساد. كان في حاله الأول يقول: زكي مبارك شاب يجيء منه؛ وكان في حاله الثاني يقول: مذهب زكي مبارك في الأدب سيفسد عشرة أجيال

وقد تعبت في تعليل هذه الظاهرة النفسية، ثم اهتديت إلى أن الأدباء الوزراء يهمهم أن يصححوا مراكزهم في المجتمع، ذلك بأن المجتمع يتوهم وهو خاطئ أن الأدباء يستبيحون من ألوان الحياة ما لا نستبيح، فالأديب حين يصير وزيراً يضيع وقته في تصحيح مركزه الذي جرّحته أوهام المجتمع، فينقلب إلى رجل متحرج متكلف لا يعوزه غير عمامة عجراء ليصبح شيخ الأزهر أو نقيب الأشراف

وكنت خليقاً بأن أعلل النفس بأن ما أخافه في مصر قد لا أخافه في العراق

ولكني تذكرت حكاية الثعلب الذي همّ بالرحيل عن مصر في سنة 1916 فقد سألوه: لماذا تهاجر يا أبا الحصين؟ فقال: (ألم تعلموا أن السلطة العسكرية قررت جمع ما في مصر من جمال؟ فاعترض عمدة الباجور وقال: وهل أنت جَمَل؟ إنما أنت ثعلب. فقال الثعلب وهو يحاور حضرة العمدة: إلى أن يثبت أني ثعلب لا جَمَل أكون ضِعت

وكذلك أخشى أن أضيع قبل أن يثبت أن العقلية العراقية تباين العقلية المصرية. وعلى أساس هذا المنطق جلست على المائدة في غاية من الأدب والاحتشام. وأنا رجل يزدان بالأدب في قليل من الأحيان

ولكن معالي وزير المعارف ستشغله ألوان الطعام عن مراقبة ما يصنع زكي مبارك!!

وهل كنت مغفَّلاً حتى تفوتني هذه الحقيقة الأولية؟

وانتظرتُ حتى عَلَتْ قعقعةُ الشوكات والملاعق والسكاكين وأرسلت بصري فرأيت امرأة تحادثني عن بُعد بعينين ترسلان أشعة العذوبة والحلاوة والرفق

ورأيت الفرصة سانحة لدراسة هاتين العينين لأضع عنهما فصلاً في كتاب (سحر العيون) الذي شرعت في تأليفه منذ أعوام. وحضور هاتين العينين زاد اقتناعي بفوائد المؤتمرات، ولاسيما المؤتمرات الطبية، وسأكون بإذن الله عضواً في جميع المؤتمرات لأجد الموادّ الشائقة لكتاب (سحر العيون)

ورأت المرأة أني أسأت الأدب فصوبتْ سهام عينيها لتقتلني، ولكنها لم تفلح، فقد حاربتني قبل ذلك عيون وعيون ثم نجوت. ولو كانت العيون تقتل حقيقة لكان لي ضريح يزوره العشاق في باريس

فإن سأل قارئ هذه المذكرات عن جوهر هاتين العينين فأني أجيب بأنهما توحيان الحب، ولا توحيان الإثم. وسأعيش ما أعيش وأنا أتشوق إلى تقبيل قدمي هذه المرأة التي سحرت المؤتمر وهي في سذاجة الأطفال. وربما كنت أول من نظر إليها بعين الطُّهر والعفاف. ولو كنت مثَّالاً لاشتريت الساعة بألف دينار لأصنع منها تمثالاً يفضح تمثال أفروديت.

وليتها تعرف ذلك فيستهويها حب المال، لأني لن أفرغ من صب تمثالها في أقل من عامين. وعليّ عهد الله أن أقنع منها بما يقنع الساري من بدر السماء

قلت فيما سلف إني رجل مفضوح النظرات. وكذلك وقعتُ، فلم تمض لحظات حتى تنبه زوجها إليّ، فما كان يسير بها إلا وحوله جيش من المعارف والأصدقاء ليصد غارة الإثم والفتون

وماذا يهمني؟ إنه يتوهم أني سأحاول مع زوجته ما حاوله عمر بن أبي ربيعة مع زوجة أبي الأسود الدؤلي في الطواف،

ولكنه مخطئ، فأنا بالتأكيد أحسن أخلاقاً من أستاذي عمر بن أبي ربيعة، وأنا قد تفوقت على أساتذتي في أشياء كثيرة، منها هذا الشيء. أنا أَجِدُّ وعمر كان يمزح، وهل ترك ابن أبي ربيعة غير أشعار ملوثة بالمجون؟ أما أنا فسأترك بعون الله ورعاية الهوى ثروة فلسفية تشرح ما استبهم من أسرار الجمال

سيعاديني هذا الزوج وسأعاديه، ولكني سأعرف كيف أتقي شره فأدرس عَينيْ زوجته من بعيد بحيث لا يجرؤ على اتهامي بالفضول

وأسارع فأقرر أني اشتركت في جميع الحفلات والرحلات لأستطيع التمكن من دراسة هاتين العينين؛ واستعنت بالدكتور محمد صبحي بك في تحديد ما خفي عليّ من الدقائق البصرية، ولم يبق إلا شئ ولحد هو الوطن الذي تسرح فيه هذه العيون

وكيف أصل إلى ذلك وزوجها بالمرصاد؟

انتظرت وانتظرت، ثم انتظرت، إلى أن جمع بيننا زحام المرقص بعد ثلاث ليال، فدنوت منها في خفية وقلت:

'

فقالت في عبارة تجمع بين العتْب والرفق: (دخيلك، دخيل اللهْ، اتركني لحالي!)

فعرفت أنها من بنات عمنا القديم دماشق بن قاني بن مالك ابن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام

رباه! أنت تعلم ما نعاني في سبيل الحقائق الأدبية والذوقية والفلسفية، وتعلم أن الناس لا يجزوننا بغير العقوق، فاغمرني بلطفك واكتبني عندك من الصادقين وأعود إلى حفلة رئيس الوزراء فأقول إنها كانت في غاية من الجفاف، فلم يشرب فيها المدعوون غير أقداح الماء القراح. وقد تشاكى السامرون بعضهم إلى بعض، وعرف أحد الأطباء ما في نفسي فقال: هل سمعت تصريح معال أمين العاصمة؟ فقلت: لا. فقال: إنه يقول إن هذه الليلة من ليالي مكة، وأنه سيرينا في مساء الغد ليلة من ليالي بغداد

وطاش صوابي فمضيت أبحث عن أمين العاصمة لأسجل عليه الوعد! فرأيته يحادث رجلاً عرفت فيما بعد أنه وزير المالية، فما كاد يراني حتى قال: أنا أفتش عليك يا دكتور مبارك

فقلت: وأنا أفتش عليك يا معالي الأمين. ولكن قبل أن أخبرك لماذا أبحث عنك، أسألك لماذا تبحث عني؟

فقال: كنت أحب أن أوجه نظرك إلى وجوب خلع السدارة في السهرة

فقلت: وأنا لا أخلع السدارة لأني أكره أن أعطيها أدب القُبَّعَةِ

فقال: ولكن نحن اصطلحنا على خلع السدارة في المجتمعات

فقلت: هذا غير صحيح، فقد رأيت عشرات من النواب يحملون السدائر في حضرة جلالة الملك وهو يلقى بنفسه خطاب العرش. ورأيت ثلاثة من النواب يخطبون وهم مسدَّرون. وزرت معالي رئيس مجلس النواب في بيته فكان يحمل السدارة وهو في غرفة الاستقبال. والصحف تنشر صورة جلالة الملك مسدراً وهو يقرأ الفاتحة على قبر أبيه

فقال: قلت لك إننا اصطلحنا على خلع السدارة في المجتمعات

فقلت: وأنا أرى الشواهد التي قدمتها كافية لإقناعك بوجوب التسامح في هذا الاصطلاح

فقال: أنت أستاذ وأعمالك قدوة، وأخشى أن أقول إنك تعطل ما نسعى إليه من جر الشعب إلى المدنية

فقلت: وأنا أخشى أن تجروه إلى الحيوانية

فظهر الغضب على وجهه وقال: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟

وعرفت أن الموقف سيسوء فأسرعت إلى تحديد ما أريد وقلت: أقول يا معالي الأمين إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يغطي رأسه، وما عداه من الحيوان لا يعرف تغطية الرأس. وكذلك أحكم بأن كشف الرأس يقرب الإنسان من الحيوانية

فأخذني من يدي وانتحى ناحية وقال: كيف تقول أمام معالي وزير المالية إننا حيوانات؟ فقلت: معاذ الأدب أن أقول ذلك، وإنما شرحت المسألة من وجهة علمية، فقررت أن الإنسان هو الذي يغطي رأسه من بين سائر الحيوان

فقال: ولكنك على كل حال جرحتني، فان كنت جاداً فلتعلم أنه لا يستطيع أحد في العراق ولا في مصر أن يخاطبني بمثل هذا الكلام. وإن كنت مازحاً فاسمح لي أن أصارحك بأن للرجل أن يمزح، ولكن ليس له أن يخرج على الذوق

فقلت: ما كنت جادّاً ولا كنت مازحاً، وإنما كنت أقرر حقيقة علمية

فقال: يظهر أن ما سمعت عنك صحيح

فقلت: وماذا سمعت؟

فقال: سمعت وقرأت أنك رجل مشاغب، ومن واجبي أن أنبهك إلى أني سحبت منك الدعوة لحضور السهرة المقبلة

فقلت: ذلك ما لا تملك

فقال: ستعرف أن ذلك مما أملك

وانصرف وانصرفت

ورجعت إلى منزلي مُبَلْبل الخواطر وأنا أقول: هذا ذنب ليلى، هذا جزاء من يخالف ليلى، فلو كانت ليلى معي في السهرة لغُفِرت جميع ذنوبي، فقد علمتني التجارب أن الرجال الذين لهم زوجات سوافر تُقضى لهم مصالح لا تُقضى لأمثالنا أبداً، نحن المحافظين المغفلين الذين يجهلون خُلق الزمان

أيستطيع أمين العاصمة أن يحجبني عن ليلة بغداد بعد أن أضعت من العمر ما أضعت في التغني بتاريخ بغداد؟ أفي الحق أنه أعرق مني لأني من مواليد مصر وهو من مواليد العراق؟

سترى يا أمين العاصمة أينا أقرب إلى قلب بغداد، وسترى في الليلة القادمة كيف تلقاني وألقاك

(للحديث شجون)

زكي مبارك