مجلة الرسالة/العدد 245/(سارة)

مجلة الرسالة/العدد 245/(سارة)

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 03 - 1938


للأستاذ عباس محمود العقاد

كنت أقول للذين يحلو لهم أن يصنفوا الكتاب إلى كاتب مقالة وكاتب قصة وكاتب نقد وكاتب سياسة وكاتب تمثيل: إن الكاتب الخليق بهذا الاسم يجب أن يكون أولئك جميعاً. فإذا قصر جهده على بعضها فليس معنى ذلك قصوره عن بعضها الآخر، بل معناه أن عمل الكاتب في التعليم أو في الصحافة، أو حظ الأمة من الحضارة والثقافة، أو حال المجتمع من الرخاء والاستقرار، يساعد اتجاهاً على اتجاه، ويغلب نوعاً على نوع. وما الكاتب إلا فنان موهوب ميزته تأليف الكلام الجميل تعبيراً عما يقع في حسه وعلمه، وتصويراً لما يجري في خياله وذهنه؛ فإذا استمد الإلهام والمعرفة أحاط إحاطة (الجاحظ) و (جيته)، وإذا استملى الشعور والعاطفة ألم إلمام (البديع) و (موسيه). وانفساح ذرعه أو انحصار طبعه لا يدخل في حسابه بالزيادة ولا بالنقص، لأن الأصل في فنه أن يجيد الكشف عما يحس به والإبانة عما يعلم

قالوا إن العقاد باحث جريء الرأي، وناقد نافذ البصيرة، وجدلي دامغ الحجة، ولكنه لا يملك أن يكون قصصياً يكشف بالوحي حجب الغيب، وينمق بالخيال صور الحقيقة، ويحي بالعاطفة خمود الفكرة، وتلمسوا لذلك الأدلة والعلل من طبيعة مزاجه واتجاه تفكيره وروح أسلوبه، حتى رووا عنه أنه عاب القصة ونفى أن تكون نوعاً جدياً من أنواع الأدب. وكان الذين يسمعون هذا الكلام يقابلونه بالتصديق ويؤيدونه بالواقع، فكنا نقول لهؤلاء إن الذي يعرض هذا العرض، ويصف هذا الوصف، ويحلل هذا التحليل، لا يعضل عليه - إن أراد - أن ينقل المشهد الذي رآه، ويقص الخبر الذي علمه. وليس القصص كله خيالاً حتى يسوغ في العقل أن الكاتب الذي يضيق خياله ويضعف وهمه باتساع عقله وقوة فكره يقصر باعه عن القصة

وجاءت (سارة) والرأي على ما خيل الراءون فأقرت الأمر في موضعه من صميم الحق؛ وقدمت الدليل القاطع على أن هذه الشخصية الأدبية قد بلغت الغاية في كل ناحية من نواحي الأدب، حتى الناحية التي لم تتجه إليها إلا منذ أمس.

وهل صحيح أن أمس كان أول عهد العقاد بالقصة، وأن سارة كانت أول ما كتب العقاد من القصص؟ الحق أن الكاتب المطبوع يولد وفي قريحته أصول الأنواع الأدبية؛ تنمو بنموه، وتطور بتطوره، وترقى برقيه؛ ولكن ذلك يحصل لبعضها بالفعل، ويحصل لبعضها الآخر بالقوة. فلو أن العقاد كتب (سارة) أيام كتب (مجمع الأحياء) لكان من الراجح أن يكتبها من نوع غير هذا النوع، وبأسلوب غير هذا الأسلوب؛ ولكنه كتبها حين كتب (سعد زغلول) فجاءت من النوع التحليلي البارع، وبالأسلوب المنطقي المشرق. والقصة التحليلية هي آخر أطوار القصة، كما أن الشعر الفلسفي هو آخر مراحل الشعر. ونتاج الذهن يتطور بين الطفولة والكهولة في الفرد والأمة والخليقة؛ فالأسطورة تنتهي إلى القصة، والملحمة تصير إلى الرواية، وشعر الغناء يؤول إلى شعر الفلسفة

(سارة) قصة فتاة مثقفة لعوب أرملة، وصفها العقاد في فصلين لا نجد كثيراً من أمثالهما في أدب العالم، وهما (من هي) و (وجوه). عرفها همام المهذب العقل الطيب القلب وهو في وسط عقده الرابع أعزب وحيد، فشغفته حباً للأسباب التي حللها الكاتب في فصل من هذه الفصول؛ ثم وصلت بينهما الطبيعية بالصلة التي لا حيلة فيها لانتظار ولا اختيار ولا خبرة؛ وظلت هي على نحيزتها الأنثوية تعابث وتخابث وتلبس تارة لباس (مانون)، وتارة أخرى لباس (مادلين)؛ وظل هو على شكيكته العلمية يؤول، ويعلل، ويفرض الفروض، ويثير الشكوك، ويقوى حيناً فيكون (دون جوان)، ويضعف حيناً فيكون (دي جْريو) حتى ذوى الحب بين الشك منه والسأم منها فتفرق العاشقان

ليس في القصة إذن حادثة تروعك، ولا مفاجأة تدهشك، ولا عقدة تشوقك؛ ولكن هذا الحادث العادي المطروق أصاب ذهناً شديد النفاذ، وفكراً دقيق الملاحظة، وشعوراً صادق الحس، فتجلى في (سارة) صوراً واضحة الخطوط، ناطقة الملامح، عبقرية الألوان، تمثل هذه المرأة في جميع حالاتها وعلى كل وجوهها تمثيلاً عارياً لا ينفع فيه ثوب رياء ولا ورق تين. ولعل الطريف في (سارة) أنها تحلل تركيب العشق في قلبي عاشقين من ذوي الثقافة والفكر، فتنتهي إلى أن الفلسفة لا تجعل من العاشقة إلا امرأة ككل امرأة، ولا من العاشق إلا رجلا كأي رجل

أما أسلوب (سارة) فهو أسلوب العقاد: صريح لا رغوة فيه، جلي لا غبار عليه، مستقيم لا التواء به؛ يتصل فيه اللسان بالعقل فلا يلغو، ويعتمد فيه القلم على القريحة فلا يهين. على أن العقاد في سارة قد احتفل لأسلوبه واحتشد لفنه فجاء من النمط العالي، لا تجد خللاً في سبكه، ولا قلقاً في اطراده، ولا وهناً في منطقه، ولا سقطاً في ألفاظه، ولا شططاً في معانيه. وفي رأيي أنك لا تعرف العقاد على حقيقته إنساناً وفناناً إلا في (سارة)

إن سارة تقدم مثلاً جديداً في بلاغة الأسلوب، وتفتح فصلاً جديداً في أدب القصة، وتسجل اتجاهاً جديداً في أدب العقاد

أحمد حسن الزيات